تنتشر في مجتمع "البيضان"، عرب الصحراء في موريتانيا وأجزاء من دول المغرب العربي وغرب أفريقيا، ظاهرة فريدة من نوعها، إذ تشترط التقاليد بأن تلبس العروس السواد ليلة زفافها، مخالفة بذلك كل أعراف المجتمعات البشرية التي تلبس فيها العروس، غالباً، ثوباً أبيض كرمز للطهر والتفاؤل. وتختار العروس الموريتانية غالباً، أو يختار المجتمع لها وفق تقاليده، "ملحفة" شديدة السواد. وإذا ما استثنينا البوادي والقرى، لم يعد هناك اهتمام كبير بنوعية القماش التي كانت محصورة أصلاً فيما يعرف محلياً باسم "النيلة"، وتتضمن نوعيات عدة أشهرها "النمر"، و"التاج" المصبوغيْن بمادة ذات رائحة مميزة، يعمد إلى رشها بمحلول يحضّر من أعشاب ومواد عطرية تُخمّر فترات متفاوتة لتعطي مع رائحة "النيلة"، مزيجاً من روائح فريدة لها تأثير في الرجل الصحراوي، الذي يعد له عند زفافه لثام خاص مخلوط بالعطر والبخور. وفي هذه الحالة، يصف الموريتانيون اللثام بـ"المبروم".
السواد
تزف العروس الموريتانية في ملحفتها السوداء التي تملأ المكان برائحتها الزكية، ولكن لبس الثوب الأسود ليس مقتصراً على العروس، بل كثيراً ما تلبسه النساء عموماً في المناسبات الاجتماعية والولائم والحفلات، كما تلبسه بعض النساء طيلة العام بعد أن تعودن عليه، إذ كان الثوب النسائي الغالب أو الوحيد لدى الموريتانيات في قديم الزمن.
فرضيات دينية ومذهبية
لا يعرف حتى المجتمع الموريتاني سبب عادة شيوع اللباس الأسود، غير أن الباحثين يقدمون تفسيرات تظل مجرد افتراضات على الرغم من وجاهة بعضها. ومن أبرز تلك التفسيرات أن ظاهرة لبس السواد في أفراح الموريتانيات لها أبعاد دينية مرتبطة بماض شيعي قديم جداً عرفه المجتمع الموريتاني الذي عاش فترة من الزمن على ذلك المذهب، وبذلك يكون للباس الأسود معناه الخاص المستمد من الحداد. وتفيد دراسات تاريخية بأن جزءاً من مجتمع البيضان، خصوصاً بني حسان الوافدين إلى البلاد في منتصف القرن السادس عشر للميلاد، كانوا يعتنقون المذهب الشيعي عندما هاجروا من مصر في عهد الدولة الفاطمية في رحلتهم الطويلة من الجزيرة العربية، فمصر وتونس والمغرب وحتى تخوم الصحراء وما يعرف اليوم بـ"موريتانيا". ومع مرور الوقت انهزم مذهبهم سلمياً أمام قوة المذهب السني المنتشر بين السكان الأصليين من قبائل صنهاجية (الذين أصبحوا يشكلون معهم ما يعرف بمجتمع البيضان). هذه الفرضية التاريخية ترى أن بني حسان تخلوا تدريجاً عن التشيع لكنهم ظلوا متمسكين حتى يومنا هذا ببعض العادات التي يمكن تتبعها بوضوح في ثقافتهم ولغتهم وممارساتهم اليومية. انطلاقاً من ذلك، يكون التزين باللباس الأسود جزءاً من الموروث لدى بني حسان، أورثوه لكل مجتمعات البيضان التي تقطن موريتانيا وجنوب المغرب وجنوب الجزائر وشمال مالي وشمال السينغال.
عادة أندلسية
ويرى باحثون آخرون أن عرب الأندلس كانوا يكرهون اللباس الأبيض لأنه يحيل إلى الكفن والموت، بالتالي ينفرون منه. ولأن الأندلس كانت على علاقة دينية وجغرافية مباشرة بسكان موريتانيا الأوائل، تأثر سكانها بهذه الثقافة وأصبحوا يكرهون اللون الأبيض في مناسبات الأفراح لدرجة أنهم يستبدلونه باللون الأسود. ويبدو واضحاً أن لاختيار اللباس الأسود ما يبرره بيئياً ومناخياً، ففي الصحراء وعواصفها وأتربتها يكون اللباس الأسود (النيلة) من أفضل الأقمشة التي تقاوم ظهور الأوساخ عليها، فتبدو بمظهر جميل ونظيف دائماً، كما أن رائحة صباغ "النيلة" لديه القدرة على مقاومة رائحة العرق في صحراء ذات علاقة حميمة بالشمس الحارقة ورياح السموم الحارة جداً، إضافة إلى أن صباغ النيلة الذي يتحلل بعضه على جسد المرأة مانحاً إياه لوناً استثنائياً (جسم أبيض يميل إلى الزرقة) يعطي مشهداً تشكيلياً متحركاً، هو الأكثر جاذبية وفق ذوق "رجال التلال المتحركة".
أبعاد بيئية واقتصادية
ولا يستبعد بعض الباحثين بعداً اقتصادياً وراء شيوع الثوب الأسود في موريتانيا القديمة، فهذا الثوب هو اقتصادي نظراً لقوته وملاءمته لكل الفصول، ولونه المقاوم لظهور الأوساخ، وطبيعة صباغه المقاوم للعرق، وقوته كقماش كانت ملحفة واحدة منه تكفي للاستخدام المتواصل على مدى عام كامل على الأقل.
إخفاء العروس
تندرج ظاهرة لبس السواد ضمن عادات أخرى ظلت خاصة بالموريتانيين ومن يشبههم من المجتمعات المجاورة، مثل ظاهرة إخفاء العروس عن عريسها ليلة زفافها ضمن عملية أشبه ما تكون بالاختطاف. وهي ظاهرة بدأت في التراجع على الرغم من أنها لا تزال رائجة في الأرياف والبوادي. تعرف هذه الظاهرة محلياً بـ"الترواغ" وهو إخفاء الشيء عن أنظار الناس وتركه في مكان سري كي لا يطلع أحد عليه. و"الترواغ" عملياً هو أن تعمد العروس، بمساعدة رفيقاتها وفي غفلة من العريس، إلى الهروب والاختفاء حتى تمر ليلة الدخلة (المعروفة محلياً بـ"الترواح")، وأمام العريس وأصحابه تحدي البحث والعثور على العروس الهاربة. وهذه "مهمة رجولة وفروسية" من يفشل فيها عليه أن يدفع "العادة" وهي ضريبة من رؤوس الماشية أو ما يقابلها لمصلحة صويحبات العروس.
كبش العادة
المبرر الاجتماعي الأول لظاهرة اختفاء العروس الموريتانية عن عريسها، الحياء وإظهار أن الرجل هو صاحب الرغبة، إذ لا يكفي رصيده من "النوق البيض"، بل لا بد من فروسية وتضحية جسدية في أعمال البحث الشاقة بين التلال والوهاد، وبذلك يكون "رصيد العرق" دليل صدق عشاق الصحراء، خصوصاً إذا علمنا أن اختفاء العروس قد يستمر أياماً عدة ما لم يعثر عليها العريس وأصحابه أو يدفعوا الفدية (العادة).
اسم الزوج ممنوع
ويرى الكاتب والباحث محمد الأمجد أن ظاهرة اختفاء العروس في ليلة الدخلة وتظاهرها بعدم الرغبة في العريس تشير إلى الدلع والتمنع المعروف في ثقافة العرب وشعرهم، إذ بقدر ما يستنفر العريس أصحابه ويظهر الاحتجاج على إخفاء شريكة حياته والرغبة في العثور عليها بقدر ما اعتبر في المجتمع الموريتاني الصحراوي عاشقاً متيماً بحبها. هذا الاهتمام المفرط من الرجل تجاه المرأة يقابله تهميش وازدراء شكلي من المرأة بالرجل، إذ تلزمها المنظومة الاجتماعية ببعض الأمور ومنها إلزام الزوج بما يلي: لا تصرح باسمه ولا تتبادل معه أطراف الحديث أمام الناس وإنما تستعيض عن اسمه ببدائل مثل "هو" و"الرجل"، بحسب الباحث محمد الأمجد. وتروى في هذا السياق حكاية طريفة وهي أن سيدة صحراوية موريتانية كانت تصلي على النبي محمد وكان اسم زوجها أيضاً محمد فكانت تقول تحاشياً لذكر اسمه اللهم صل على نبينا". ومن هذا "الموزاييك" العاداتي والقيمي أن العروس الموريتانية لا تنظر إلى جهة الغرب طيلة أربعينية العرس، حيث تنصح باستقبال جهة القبلة على الدوام، ولا تبقى بمفردها طيلة هذه الفترة خوفاً عليها من مس الجن، ولا تسمح التقاليد بظهورها في النهار مع زوجها طيلة الأشهر التالية للزواج، كما لا يسمح لها بالخروج من البيت والتجوال خوفاً من العين وتماشياً مع ثقافة الحياء الصحراوي.
ليلة الدخلة
تبقى ليلة الدخلة مؤجلة ما أمكن ذلك، فالليلة الأولى تسمى في بعض المناطق ليلة الجدة حيث تبقي معها بغرض الرقية من المس، والليلة الثانية ليلة خاصة بصديقات العروس، وقد تطول المدة إن نجحت مهمة الترواغ أو الخطف، ضمن حملات مماطلة وتسويف تختبر صبر العريس وقوته. وعلى الرغم من أن المنظومة العاداتية الضابطة لظاهرة لبس السواد وظاهرة "الترواغ" أو الخطف في موريتانيا لا تزال موجودة لدى المجتمعات المحافظة وفي البوادي. فقد بدأت قبضة بعض هذه العادات تخف، مع أن وجه الغرابة فيها يساهم في روعة وأنسنة واحد من أجمل الأعراس في العالم وأكثرها حظوة في الشعر والغناء والرقص، من دون أن ننسى ما يجلبه من اهتمام لدى الباحثين والسياح.
ملهمة الشعراء
يشار إلى أنه من الطبيعي أن تحظي ملحفة "النيلة" بروائع شعرية في بلاد المليون شاعر، لذلك ربما يكون هذا القماش هو الأكثر حظوة عند الشعراء الموريتانيين نظراً لارتباطه بالنساء اللواتي يعتبرن "رمز الجمال"، وبالعروس التي توصف بأنها "نصف الدين" ورمز المتعة والديمومة.