حين تصدر لوائح الأشخاص أو الشركات الأكثر ثراء أو لوائح الأشخاص والمؤسسات الأكثر تأثيراً ونفوذاً في العالم، فإننا لا نجد من بين الأسماء الموجودة على اللوائح أي من أصحاب شركات الأسلحة ولا حتى الشركات نفسها، هذا على الرغم من أن تجارة الأسلحة حول العالم تحتسب بترليونات الدولارات سنوياً، وعلى الرغم أيضاً من أن "لوبيات" شركات الأسلحة يمكنها التأثير في سياسات الحكومات حول الحرب والسلم والمصالح الخارجية وعلاقاتها. بل وتبني بعض الحكومات سياساتها على أساس ما تطلبه شركات صناعة الأسلحة وتجارتها، حتى أن بعض الرؤساء يبدون وكأنهم وكلاء أعمال لدى هذه الشركات أو باعة عاملين لديها، فتكون في أعلى لوائح زياراتهم الدبلوماسية إلى دول أخرى، عقود بيع الأسلحة وشرائها. وكلما تمكّن رئيس من عقد صفقة ضخمة لبيع السلاح فإنه يحقّق بالمقابل شعبية في بلاده ورضى من الكتل المالية والصناعية فيها، وربما يضمن انتخابه لدورة ثانية.
ولكن ما هو السرّ في أن أعمال وصفقات وقوة وسلطة شركات صناعة الأسلحة تبقى في الظلّ أو في الكواليس، وتبدو وكأنها تعمل في الخفاء أو خلف الكواليس. فلا نعرف الكثير عما يجري في مكاتبها وبين مالكيها، ولا نعرف الكثير عن صفقاتها وعلاقاتها بالسلطات المختلفة، كما هي حال غيرها من الصناعات.
قوة شركات الأسلحة السياسية
على سبيل المثال، فإن الوكالة الفيدرالية المكلّفة بالإشراف على الصناعة -مكتب الكحول والتبغ والأسلحة النارية والمتفجرات- (ATF) تعاني تاريخياً من نقص التمويل وقلة الدعم السياسي، ما يجعل أنظمة الرقابة الفعّالة غير متّسقة. بل وفرض الكونغرس قيوداً على هذه الوكالة عبر تقييد ميزانيتها تحت تبريرات السوق الحرّ والليبرالية الاقتصادية، كما يقال في وسائل الإعلام وما يروّج لمتلقي المعلومات، على الرغم من أن الأمر يتعدى مجرد "سوق حرة"، بل تتداخل فيه سلطة شركات صناعة الأسلحة على القرار السياسي الداخلي، سواء في الولايات المتحدة الأميركية أو غيرها من الدول المصنّعة للأسلحة كفرنسا وألمانيا وإيطاليا وسويسرا، وهذا ما لا ينطبق على الصين، إذ إن صناعة الأسلحة مرتبطة مباشرة بالسلطة المركزية للدولة أو للمكتب السياسي للحزب الشيوعي الحاكم.
وللدلالة على هذه السيطرة السياسية البالغة السطوة، ألغى الكونغرس الأميركي أيضاً بعض التشريعات التي كانت تضمن تشغيل الجهات الفاعلة في صناعة الأسلحة لأعمالها بما يخدم مصالح المستهلكين، وتحمّل المسؤولية عن الضرر الناجم عن منتجاتهم.
وفي عام 1986، تم تعديل القانون الفيدرالي الذي يحكم صناعة الأسلحة في الولايات المتحدة، ولكن التعديل كان يهدف إلى تخفيف اللوائح التنظيمية لهذه الصناعة، على الرغم من ارتفاع الصوت في الولايات المتحدة لضبط استخدام الأسلحة وبيعها وتجارتها للأفراد بعد وقوع جرائم قتل كثيرة في الشوارع وداخل المؤسسات والمدارس الأميركية.
11.5 مليون قطعة سلاح
وبحسب منظمة العفو الدولية في تقريرها حول انتشار السلاح في العالم وعوامل الحدّ منه، "لم يطرأ أي تغيير على القانون الفيدرالي الأميركي الذي يحكم التجارة في الأسلحة. وفشل القانون في مواكبة التغييرات في الصناعة من حيث النطاق والحجم ونوع المنتجات التي يتم تصميمها وبيعها. والقوانين القديمة غير مهيأة لمعالجة التقدم التكنولوجي مثل مبيعات الأسلحة عبر الإنترنت، والطباعة ثلاثية الأبعاد، وبنادق الأشباح محلية الصنع والتي لا يمكن تعقبها، وانتشار كواتم صوت الأسلحة النارية وغيرها من الملحقات الخطرة".
وفي الأرقام بلغ تصنيع الأسلحة في الولايات المتحدة أعلى مستوى له في عام 2016 حين تم تصنيع 11.5 مليون قطعة سلاح ناري.
وليست كل الأسلحة المصنعة في الولايات المتحدة مخصصة للسوق الأميركية، فالكثير منها يتم تصديرها إلى دول أجنبية للمشترين المدنيين والعسكريين على حد سواء، وارتفعت الصادرات بشكل حاد خلال منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، واستمرت حتى عام 2018. وتعدّ كندا إلى حد بعيد أكبر متلقٍ للبنادق الأميركية الطويلة، إذ تبلغ قيمة الواردات أكثر من 350 مليون دولار سنوياً. كما تتجلى الزيادة الهائلة في حجم صناعة الأسلحة الأميركية من خلال الزيادة في عدد الأفراد المرخص لهم بالعمل كتجار أسلحة. وبلغ عدد التجار المرخّص لهم 55 ألفاً و900 شخص بحلول عام 2018.
أنفق خمسة من أكبر مقاولي الدفاع في البلاد - لوكهيد مارتن، بوينغ، نورثروب غرومان، رايثيون تكنولوجيز، وجنرال دايناميكس - ما مجموعه 60 مليون دولار في عام 2020 للتأثير في السياسة، وفقاً لتقرير جديد صادر عن "مركز السياسة المستجيبة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تجارة الأسلحة والقرار السياسي
يشرح تقرير صادر عن "مركز الاستجابة السياسية" في أميركا، الصادر بعنوان "الاستفادة من الصراع: كيف يضغط مقاولو الدفاع والدول الأجنبية من أجل مبيعات الأسلحة"؟ كيف قامت شبكة من جماعات الضغط والمانحين وعلى رأسهم تجار الأسلحة بتوجيه 285 مليون دولار من المساهمات في الحملات الانتخابية و2.5 مليار دولار للضغط على مدى العقدين الماضيين، فضلاً عن توظيف أكثر من 200 من أعضاء جماعات الضغط الذين عملوا سابقاً في الحكومة. وأنفق خمسة من أكبر مقاولي الدفاع وهم: لوكهيد مارتن، بوينغ، نورثروب غرومان، رايثيون تكنولوجيز وجنرال دايناميكس، ما مجموعه 60 مليون دولار في عام 2020 للتأثير في القرارات السياسية وآراء الناخبين السياسية.
ويوضح التقرير أن إنفاق جزء كبير من ميزانية البنتاغون السنوية البالغة 740 مليار دولار كان على الأسلحة، ووافقت شركات الدفاع الأميركية على بيع بما يفوق هذا الرقم من الأسلحة إلى دول أخرى خلال عام 2018.
وعلى الرغم من أن الرئيس جو بايدن أصدر أمراً يقيد المسؤولين الذين يغادرون البيت الأبيض من العمل في مؤسسات يمكنها أن تمارس الضغط سريعاً على السلطة التنفيذية أو التسجيل كوكلاء أجانب، فإن العديد من المعيّنين لديه لهم صلات بصناعة الدفاع. وزير الدفاع لويد أوستن، على سبيل المثال، كان عضواً في مجلس إدارة شركة Raytheon قبل تسلّمه السلطة في الإدارة الأميركية.
جماعات الضغط الدفاعية
ويشير التقرير إلى أن جماعات الضغط الدفاعية هي أيضاً ذات ارتباط كبير وعلاقات متينة بمراكز القرار في واشنطن العاصمة. فمن بين 663 من أعضاء جماعات الضغط الذين يعملون لحساب مقاولي الدفاع، يعمل ثلاثة أرباعهم تقريباً في أروقة الحكومة الفيدرالية ومراكز القرار فيها، وهي أعلى نسبة مقابل أي صناعة أخرى في تشاركها بالقرار المركزي السياسي الأميركي.
ويقول التقرير: "هذه الاتصالات تجعل العلاقات حميمة وقوائم جهات الاتصال مفيدة للغاية. يمكن لموظفي الكونغرس الذين يعملون فوق طاقتهم ويتقاضون رواتب منخفضة أن يأملوا أيضاً في أن وظائف الضغط المربحة تنتظرهم في نفس الشركات التي تأتي إليهم لدفع أجنداتهم الخاصة". ويضيف التقرير أن ما يسمى "الباب الدوار" موجود أيضاً في مبنى الكابيتول هيل. حيث عمل على مدار الأعوام الثلاثين الماضية ما يقرب من 530 موظفاً لصالح أعضاء في لجنتي القوات المسلحة والعلاقات الخارجية في مجلسي النواب والشيوخ أو اللجان الفرعية لمخصصات الدفاع، ثم كجماعة ضغط لشركات الدفاع. على سبيل المثال، عمل وزير الدفاع السابق مارك إسبر في لجنتي العلاقات الخارجية والقوات المسلحة في مجلس الشيوخ في أواخر التسعينيات وأوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، إضافة إلى مساعد نائب وزير الدفاع، قبل الانتقال إلى مكتب العلاقات الحكومية في شركةRaytheon لصناعة الأسلحة بعد سبع سنوات في هذا المنصب، ثم عيّنه الرئيس دونالد ترمب وزيراً للجيش ثم وزيراً للدفاع.
ومن المقدر أن إجمالي قيمة تجارة الأسلحة الدولية لا تقل عن 95 مليار دولار سنوياً. وإذا كانت الدول والجهات التي ترخص عمليات نقل الأسلحة تلعب دوراً رئيساً في هذه التجارة، فإن الصناعة الدفاعية تعتبر ضالعة إلى حد بعيد في جميع جوانب عملية الإمداد بالأسلحة حول العالم.
ففي كل عام، تقوم الشركات بتوريد كميات كبيرة من المعدات العسكرية إلى عدد من أكثر المناطق عنفاً واضطراباً في العالم. وتستخدم هذه المعدات غالباً على نحو غير مشروع في سياق النزاعات المسلحة والاضطرابات السياسية التي تشوبها انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.