استولت "طالبان" على مقاليد الأمور في كابول وبقية مدن وأقاليم أفغانستان خلال وقت قياسي، بعد أن أنهت الولايات المتحدة تواجد عشرين عاماً فرضته اعتبارات "الحرب على الإرهاب" بخروج فوضوي يعبّر عن التوجّهات الانكفائية للولايات المتحدة الأميركية خلال العقد الأخير بشكل عام، والإدارة الجديدة بشكل خاص. كانت قد تركت الولايات المتحدة أفغانستان بعد هزيمة السوفيات في عام 1989 من دون تخطيط أو ترتيب لحل سياسي يجمع الفصائل المختلفة والمتناحرة في البلد آنذاك. والنتيجة كانت دولة فاشلة وحرباً أهلية حتى تمكنت "طالبان" من الانتصار على أمراء الحرب والفصائل الأخرى عام 1996.
أحكمت "طالبان" قبضتها وفرضت رؤيتها المتشددة على مكونات الشعب الأفغاني، ولكن الأخطر كان توفيرها الملاذ والملجأ الآمن للجماعات الإرهابية المتطرفة وأبرزها "القاعدة". ما تبع ذلك من أحداث وصولاً لهجمات الحادي عشر من سبتمبر أجبرت الولايات المتحدة على العودة مرة أخرى لأفغانستان غزاة هذه المرة.
الآن وبعد عشرين عاماً من محاولات بناء الدولة المتكررة والفاشلة، ها هي تترك أفغانستان مجدداً وتسلمها لذات الجماعة التي حاربتها قبل عقدين من الزمن. لن أتطرق للخيارات التي كانت متاحة للإدارة الأميركية لتنظيم انسحابها من أفغانستان بشكل يحفظ للحكومة والقوات الأفغانية، والتي صرفت عليها مليارات الدولارات، فرصاً أكبر للبقاء والمواجهة، ويتجنب الأزمة الإنسانية والمشاهد المأساوية التي شاهدها العالم في مطار كابول، فقد تحدث عن ذلك الكثيرون. ولكن الأهم الآن هو استشراف تبعات هذا الواقع الأفغاني الجديد واستلهام الدروس مما حصل.
على المستوى السياسي، لا شك أن ما حدث سيسهم في تعزيز تآكل الثقة في موثوقية الإرادة والسياسة الخارجية لواشنطن لدى حلفائها، بخاصة أولئك الذين أسهموا بقواتهم في أفغانستان لعشرين عاماً قناعة منهم بأهمية الاستثمار في العلاقة مع الولايات المتحدة لتعزيز أمنهم الإقليمي والأمن الدولي.
وإذا ما أخذنا في الحسبان تغيّرات بنية النظام الدولي منذ غزو 2001 وتحوّله التدريجي من الأحادية إلى التعددية القطبية خلال العقدين الأخيرين، سيكون من السهل استنتاج صعوبة تشكيل وقيادة الولايات المتحدة لتحالفات مستقبلية كتلك التي قادتها في الماضي. كل ذلك بطبيعة الحال سيخدم توجهات الدول المنافسة للولايات المتحدة المنخرطة معها في صراعات المنطقة الرمادية والراغبة في تغيير أو تعديل موازين القوى لصالحها، سواء الدولية، كالصين وروسيا، أو الإقليمية، كإيران.
أما على المستوى الأمني، فلا شك أن عودة الحركة لحكم "إمارة أفغانستان الإسلامية"، إضافة إلى رمزية أفغانستان التاريخية لدى وجدان الجماعات المتشدّدة والإرهابية، ستشكلان نموذجاً ملهماً ومحفّزاً لحركات التطرف والإسلام السياسي. ما حدث في أفغانستان يعدّ انتصاراً دعائياً كبيراً لهذه الجماعات، خصوصاً "القاعدة" التي لم تخفِ سعادتها واحتفالها بذلك في بيان عام واصفة زعيم "طالبان" بـ "أمير المؤمنين".
ولا ننسى أن "القاعدة" مرتبطة ببيعة لـ"طالبان" منذ تسعينيات القرن الماضي قدمها أسامة بن لادن لزعيمها آنذاك الملا عمر، وقام بتجديدها أيمن الظواهري في أعقاب مقتل بن لادن. ثم بعد وفاة الملا عمر قدم الظواهري البيعة لخلفه الملا أختر منصور وذلك في أغسطس (آب) 2015، وهو الذي بدوره رحّب بها. إلا أنه منذ مقتل منصور في 2016 وتولي الزعيم الحالي هبة الله أخوند زادة، لم يتم التطرق، على الأقل علنياً، من قبل "طالبان" لموقفها من هذه البيعة ومدى دعمها للتنظيم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تعهدت الجماعة الأفغانية في اتفاقية الدوحة 2020 التي وقعتها مع الولايات المتحدة ألا تسمح لـ"القاعدة" أو أي جماعة أو فرد باستخدام أراضيها لتهديد أمن الولايات المتحدة وحلفائها. ويبدو أن "طالبان" حالياً تحاول الموازنة بين مطرقة تعهداتها في هذه الاتفاقية ومتطلبات الحكم الواقعية، وسندان علاقاتها السابقة ومصداقيتها لدى أوساط الجماعات "الجهادية" من حلفاء الماضي. ويمكن استشفاف ذلك من خلال الصمت "العلني" في التعاطي مع "القاعدة" وتصريحاتها من جهة، في مقابل فتحها المجال للعودة العلنية لأمثال أمين الحق، أحد قدماء تنظيم "القاعدة" ومساعدي بن لادن الشخصيين، لأفغانستان. كما لا يخفى على المتابع كون "شبكة حقّاني"، وهي المعروفة بقربها وصلاتها القوية مع "القاعدة" تعد مكوّناً أصيلاً في "طالبان". وعلى الرغم من ادعاء متحدث الخارجية الأميركية نهاية أغسطس الماضي بأن "طالبان" و"حقّاني" مكوّنان منفصلان، إلا أن المعطيات على الأرض لا تشير إلى ذلك بتاتاً، وهو ما اتضح جليّاً من خلال تسمية ثلاثة على الأقل من "شبكة حقّاني" كأعضاء في الحكومة المؤقتة الجديدة لإمارة أفغانستان الإسلامية. أبرزهم سراج الدين حقّاني، وهو المصنّف إرهابياً من قبل الأمم المتحدة والولايات المتحدة، كوزير للداخلية.
هناك أيضاً بُعد آخر يتمثل في المنافسة الشرسة بين "طالبان" وتنظيم "داعش في خراسان"، وهي التي بدأت منذ تأسيس الأخير في عام 2015. الآن وفي ظل انسحاب القوات الأميركية وسيطرة "طالبان" على الحكم، من المتوقع أن يستمر "داعش" في محاولاته التشكيك في قدرة "طالبان" على فرض الأمن في أفغانستان، بالتالي كسب المزيد من الأتباع، وأن يأخذ هذا الصراع منحىً تصاعدياً أكثر دموية في قابل الأيام، وهو ما ظهرت بوادره في تفجير مطار كابول المأساوي. يظل السؤال: هل ستنجح "طالبان"، وقد تسنّمت زمام الحكم، في تجنب هذا السيناريو من خلال تحييد أو هزيمة "داعش"؟
لا تزال الأمور في أفغانستان غير مستقرة، وأغلب الدول تنتظر وتراقب كيف سيكون سلوك "طالبان" 2021 وهي التي تعهدت أن تكون مختلفة عن "طالبان" القرن العشرين. هل ستستقر لها الأمور في الداخل الأفغاني؟ هل ستلجأ لسياسة الاحتواء أم القمع، والاعتدال أم التشدّد في حكمها الداخلي وتعاطيها مع المكونات الأفغانية المختلفة؟ هل ستكون أكثر انفتاحاً وبراغماتية في تعاطيها مع العالم الخارجي؟ كيف سيكون شكل وطريقة تعاطيهم مع الجماعات الإرهابية، وهل سيوفرون لهم الدعم والملاذ الآمن؟ أسئلة لا تزال مفتوحة نرجو ألا تضمر إجاباتها تداعيات وآثاراً كتلك التي لم يكن يتوقعها العالم في نهايات القرن الماضي.