يثير زخم التحركات السياسية المصرية وانخراطها في التحديات التي تواجه المنطقة العربية، أسئلة في شأن قدرتها على لعب دور إقليمي يمكّنها من إحداث اختراق في الأزمات التي تهدد دولها في ظل تشابك وتعقيد تلك الملفات.
وكان لافتاً على مدار السنوات الأخيرة، لجوء القاهرة إلى سياسة تشكيل التحالفات والتكتلات الإقليمية بحثاً عن مخرج وحلول جماعية قائمة على "خدمة مصالح وأهداف دول المنطقة وصون الأمن القومي العربي، لا سيما تلك المتداخلة مع دوائر الأمن المصري"، وفق ما يكرره المسؤولون السياسيون في مصر.
وبدأت مصر تشكيل تحالفاتها السياسية والاقتصادية في عام 2017 مع مقاطعة 4 دول عربية (مصر والسعودية والبحرين والإمارات) لقطر، (انتهت الأزمة لاحقاً في يناير/ كانون الثاني 2021، بناءً على اتفاق وقع في مدينة العلا السعودية)، تبعه تشكيل منتدى غاز المتوسط في 2019، الذي ضم الدول المنتجة للغاز المشاطئة للبحر المتوسط بهدف التعاون والتنسيق في شأن الاحتياطات الاستراتيجية الضخمة من الغاز في تلك المنطقة، ثم أخيراً الانخراط في تحالف ما بات يعرف بـ"الشام الجديد"، مع كل من العراق والأردن، في محاولة من الدول الثلاث لتعظيم المصالح المشتركة على قاعدة اقتصادية، مع الحفاظ على التنسيق السياسي والأمني والاستخباراتي.
وبجانب تلك التكتلات، تحركت القاهرة كذلك باتجاه العمل على تعزيز آليات التنسيق فيما يتعلق بقضايا بعينها، ومنها تلك التي شكّلتها مع الأردن وفرنسا وألمانيا لإحياء المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، المتوقفة منذ 2014، في محاولة لاستغلال تغير القيادة الأميركية، بعد أن انتهجت رئاسة الجمهوري دونالد ترمب مواقف مؤيدة لإسرائيل على حساب الفلسطينيين.
وفي ضوء تلك المحاولات السياسية المصرية، يتساءل المراقبون في شأن مدى نجاح القاهرة في إعادة صياغة التوازنات الإقليمية في ظل "تحولات وتفاعلات دولية وإقليمية لم تهدأ وتيرتها"، ومحاولات سابقة إقليمية ودولية لم تنجح في ظل حجم التعقيدات والتشابك الذي تواجهه أزمات المنطقة.
القاهرة والتوجه "للتكتلات"
وفق التصريحات الرسمية المصرية المتكررة، تهدف القاهرة بشكل رئيس من مشاركتها في أكثر من تحالف إقليمي وعربي، إلى تحقيق أهداف سياسية وأمنية تتحول معها البلاد إلى لاعب محوري، وتحقق مكاسب ومصالح اقتصادية وتجارية على المدى الطويل، فضلاً عن العمل على تكثيف التنسيق والتشاور، لمواجهة التحديات المتصاعدة في منطقتنا "شديدة الاضطراب".
وقال دبلوماسي مصري رفيع، في حديث لـ"اندبندنت عربية"، إن "رؤية القاهرة تركز على أن أفضل الحلول المستدامة لمشاكل وتحديات المنطقة هي تلك النابعة من دولها دون التدخل في الشؤون الداخلية للدول"، مضيفاً، "يغيب العمل الجماعي الساعي لتحقيق مصالح شعوب المنطقة عن دولنا منذ فترة، وعليه ينبغي إعادة مثل تلك التجارب الشاملة لخدمة أهداف ومصالح دولها المنخرطة فيها".
وذكر الدبلوماسي المصري، "تميل السياسات الخارجية الراهنة لمصر نحو تفضيل العمل من خلال تكتلات وتحالفات إقليمية متنوعة، وهو الأمر الذي أثبت جدواه في إمكانية تجنب مشاكل كبرى قد تواجه المنطقة من خلال آليات التنسيق والتشاور العالية المستوى التي أنشئت مع عديد من دول المنطقة في الفترة الأخيرة".
من جانبه، يقول إبراهيم المنشاوي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، إنه في كل التحالفات والتكتلات التي انخرطت فيها القاهرة، أو قادت جهود تكوينها في الفترة الأخيرة، ومن بينها تحالف "الشام الجديد"، ومنتدى غاز المتوسط، وقبلهما تحالف الرباعي العربي مع الدول الخليجية الثلاثة (السعودية والإمارات والبحرين)، تتحرك القاهرة في سياق محاولة البناء على المصالح المشتركة وتعظيم الفرص المتاحة، لا سيما الاقتصادية والتجارية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتابع المنشاوي، "دفعت التحولات الجيوسياسية التي شهدتها المنطقة خلال السنوات الأخيرة، القاهرة، باتجاه تشكيل تحالفات سياسية وإقليمية تتحرك فيها لتنويع مصادر العلاقات الخارجية بهدف مواجهة المستجدات والتحديات، فضلاً عن إدارة التنافس القائم على الموارد والثروات الطبيعية".
وأوضح، "هناك كذلك محددات تقود أي تحرك مصري في المنطقة مبني على مواجهة التدخلات الخارجية المثيرة للاضطرابات، والعمل على الحفظ على الأمن القومي العربي، وعليه تعتمد القاهرة على توطيد آليات التعاون والتنسيق مع دول المنطقة بهدف الوصول إلى صيغة سياسية وإقليمية لدعم الاستقرار في المنطقة".
"تعظيم الفرص" والاستفادة منها
ومن بين التحالفات البارزة التي انخرطت فيها القاهرة يأتي تحالف الشام الجديد، الذي عُقدت آخر قممه بين كل من الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، والعاهل الأردني عبدالله الثاني، ورئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، في بغداد، يونيو (حزيران) الماضي، وهو تكتل يأمل في نسج آلية تستطيع مواجهة المشكلات التي تواجهها الدول الثلاث على الصعيد الإقليمي، وتعظيم المصالح المشتركة على قاعدة اقتصادية.
وبحسب موقع "ستراتفور" الأميركي، فإن الشراكة بين الأردن ومصر والعراق تسهم في تحقيق مكاسب أمنية وتجارية مع تلاقي مصالحهم الاقتصادية والسياسية، وتوفر صوتاً عربياً بديلاً في المنطقة لمواجهة التدخلات الخارجية، مشيراً في الوقت ذاته إلى أن واحدة من أبرز التحديات التي تواجه ذلك التحالف هو اعتماد دوله على الدعم الخارجي الذي من شأنه أن يقيد سرعة تشكيله.
وأوضح الموقع الأميركي، على الرغم من اعتماد كل من الأردن ومصر والعراق على قوى خارجية في بعض مصالحها الاقتصادية والأمنية، إلا أن تطوير التنسيق بين الدول الثلاث يمكن أن يسهم في تفادي ظهور تهديدات إرهابية عابرة للحدود في المنطقة، كالذي كان يمثله تنظيم "داعش" في يوم من الأيام، مشيراً في الوقت ذاته إلى أن الآفاق المتاحة لتحقيق فوائد اقتصادية فيما يتعلق بالطاقة والعلاقات التجارية، يمكن أن تعود بالنفع على البلدان الثلاثة مجتمعة.
في السياق ذاته، يقول مركز أبحاث "تشاتام هاوس"، الأميركي، إنه خلال السنوات الأخيرة في منطقة الشرق الأوسط تتشكل التحالفات، وتذهب من خلال المنافسة الإقليمية والتدخلات الأجنبية، إلا أنه ذكر أن من بين التكتلات الإقليمية الناشئة والواعدة في المنطقة يبقى ذلك التحالف بين الأردن ومصر والعراق، على الرغم من تقليل البعض من أهميته، بسبب الأزمات والمصاعب الداخلية التي تواجه دوله.
ووفق "تشاتام هاوس"، هناك سمات رئيسة تجعل هذا التحالف فعالاً ومبشراً للشركاء الإقليميين والدوليين، أولها توافر الإرادة السياسية الحقيقة للعواصم الثلاث، مع التركيز على بذل مزيد من الجهد واستثمار قدرات الدول في مكافحة الإرهاب وتحقيق الأمن، وإعادة الإعمار وأمن الطاقة والتكامل الصناعى والتجاري، مضيفاً أن العامل الثاني يأتي في أن هذا التحالف يجمع بين ثلاث دول متجاورة تقريباً، تمتلك فيما بينها موارد، طاقة كبيرة (العراق) ورأسمال بشري (الأردن) وسوقاً ضخمة وأيدي عاملة متنقلة وقدرات عسكرية كبيرة (مصر)، وعلى الرغم من أنهم لا يمتلكون ثروة ضخمة، فإنهم لديهم قدرات صناعية وزراعية ضخمة، وإذا استطاعوا الاستفادة من هذا التكامل، سيحققون تحالفاً قوياً.
وتابع "تشاتام هاوس"، إنه بينما يتم تقديم التنمية الاقتصادية والأمن ومكافحة الإرهاب على أنها المحركات الرئيسة لتجمع الدول الثلاث، إلا أنه ما من شك أنها توفر أيضاً للأردن ومصر نفوذاً سياسياً جديداً، على الصعيدين الإقليمي والدولي، ويوفر لبغداد حاضنة عربية، الهدف الاستراتيجي بالنسبة لدول عربية كبرى في المنطقة، في محاولة لـ"تحرير بغداد من الهيمنة الإيرانية على صياغة قراراتها وتوجهاتها".
ووفق المركز الأميركي، فإن مصر تحاول استعادة مكانتها الإقليمية والعربية، من خلال مثل هذه التحالفات، وعبر تنشيط دبلوماسيتها بصورة يمكن من خلالها البناء على الروابط الاقتصادية، وتشجيع تبادل العمالة، وزيادة التعاون الأمنى ومكافحة الإرهاب.
هل من انعكاس على قضايا المنطقة؟
وفق مراقبين تحدثوا إلى "اندبندنت عربية" تتباين الآراء في شأن قدرة التكتلات الجماعية التي تنخرط فيها القاهرة على حل، سواء التحديات التي أنشئت من أجلها، كما الحال في منتدى غاز المتوسط، أو القضايا الكبرى ذات الارتدادات الجيوسياسية والأمنية على دول المنطقة، كما الحال بالنسبة لتحالف "الشام الجديد"، أو آلية التنسيق المصرية الأردنية الفلسطينية، نظراً لدرجة التعقيد والتداخل التي تمتاز بها تلك القضايا والأزمات، معربين في الوقت ذاته عن أمل في أن يكون الانطلاق من قاعدة اقتصادية سبيلاً نحو حلحلة تلك الأزمات.
يقول حسين هريدي، مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، "أبرز ما يبشر في شأن التحالفات التي تتحرك فيها القاهرة، هي الظروف الدولية المشجعة على تكوينها، باعتبارها سبيلاً للتعاون والتنسيق بين دول المنطقة لمواجهة التحديات المشتركة". وذكر هريدي، "تحاول مصر توظيف التطورات المتلاحقة التي تشهدها المنطقة والعالم والاستفادة منها من أجل حلحلة الأزمات المستعصية في الشرق الأوسط"، موضحاً "على سبيل المثال مع التغير الحادث في البيت الأبيض وتولي إدارة ديمقراطية جديدة خلفاً لإدارة الرئيس الجمهوري دونالد ترمب، يبدو هناك أفق في احتمالات حلحلة أزمات المنطقة وعلى رأسها القضية الفلسطينية، كما أن الانسحاب الأميركي من المنطقة يتطلب في المقابل ملء تلك الفراغات عربياً".
وبحسب أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، حسن نافعة، "يبقى الهدف من تلك التحالفات محاولة التنسيق والتعاون وتبادل الخبرات لمواجهة التحديات التي تواجه المنطقة"، متشككاً في مدى قدرة مثل التحالفات على إحداث تغير في معادلات التوازن الاستراتيجي في المنطقة.
وأوضح نافعة، "على سبيل المثال الجهود المصرية لإعادة إطلاق المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين التي تتجلى في آليات التنسيق المصرية الأردنية الفرنسية الألمانية، فضلاً عن آلية التنسيق الثلاثية بين فلسطين وعمان والقاهرة، إضافة إلى العلاقات المصرية مع إسرائيل، فإنها كلها تبقى في شكل محالات لاستمرار التهدئة ومنع تفجر الأوضاع الداخلية في فلسطين"، مشيراً إلى أنه "بالنسبة للقضية الفلسطينية يبقى الانشغال الأكبر بالتهدئة واستمرار وقف إطلاق النار وملف إعادة إعمار قطاع غزة".
وفي الثاني من سبتمبر (أيلول) الحالي، جمعت قمة في القاهرة كلاً من الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، ونظيره الفلسطيني محمود عباس، والعاهل الأردني عبدالله الثاني، وأكدت مخرجات القمة ضرورة إحياء عملية السلام واستئناف المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين وفق مرجعيات الشرعية الدولية.