قبل أن يكون عبدالعزيز بوتفليقة رئيساً للجزائر كان على رأس الدبلوماسية الجزائرية، وزيراً للخارجية في عهد الرئيس هواري بومدين، وخلال هذه المرحلة الدبلوماسية يمكن القول إنه قام بأمرين ما زالا عالقين في أذهان المتابعين منذ ذلك الحين، الأول إبان رئاسته للجمعية العامة للأمم المتحدة بعد انتخابه بإجماع الأعضاء، فطرد الوفد الفلسطيني من جلسة الهيئة العامة، ودعا رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات لإلقاء خطابه الأول والشهير أمامها، فيما ظهر على جانبه الأيسر جزء من جعبة مسدسه. أما الأمر الدبلوماسي الثاني فتجلى في التفاوض مع مجموعة الإرهابي العالمي كارلوس، تلميذ وديع حداد، السياسي الفلسطيني الذي اختار العنف سبيلاً للنضال من أجل قضية شعبه، للإفراج عن وزراء مجموعة "أوبك" الذين احتجزتهم، ومن ثم اختطفتهم عند اجتماعهم في فيينا نهاية عام 1975، بعد أن تنقلت بهم المجموعة الخاطفة من فيينا إلى الجزائر إلى طرابلس بالغرب، ثم مجدداً إلى الجزائر، حيث أطلق سراحهم مقابل اللجوء السياسي والحماية، بعد مفاوضات طويلة كان على رأسها بوتفليقة.
عملية فيينا وبوتفليقة
معظم التأريخ حول عملية فيينا يؤشر إلى أنها تمت بطلب من العقيد معمر القذافي. وفي التفاصيل، رفض كارلوس عروضاً مالية مغرية للإفراج عن عدد من الوزراء، بينهم وزيرا النفط الإيراني والسعودي، فهدده المفاوض بوتفليقة بأنه سيحرم هو ورفاقه من اللجوء السياسي في الجزائر في حال أقدم على اغتيال أي من الوزراء. وبعد الإفراج عن الرهائن، أعطي كارلوس "فيلا"، وأمنت له الحراسة في الجزائر. واستمرت علاقته ببوتفليقة الذي كان يزوره في مسكنه بعد أن أمنت له الحكومة الجزائرية اللجوء السياسي ومصاريف عيشه على أرضها. ويقال إنه عاد وجدد صداقته به في دمشق بعد نفي نفسه من الجزائر إبان وفاة الرئيس الجزائري هواري بومدين الذي كان أحد أهم أركان نظامه، وسيطرة مجلس الأركان العسكري على السلطة، ليعين الشاذلي بن جديد رئيساً بدلاً من بوتفليقة الذي كان يعتبر نفسه الوريث الشرعي لمعلمه بومدين.
يروي كارلوس تفاصيل عملية احتجاز وزارء "أوبك" في فيينا في عام 1979 في كتاب عن قصة حياته، أعده الصحافي الفرنسي "لاسلوا لزكاي"، ويقول إن العملية بدأت "بطلب من معمر القذافي انتقاماً من السياسة السعودية التي اتهمها حين ذاك بالعمل على خفض أسعار النفط لمصلحة أميركا. ووعد القذافي بدفع 50 مليون دولار كتبرع لمنفذي العملية في حال إتمامها". وكان القذافي، بحسب رواية كارلوس، يستهدف تحديداً وزيري النفط السعودي أحمد زكي اليماني، والإيراني جمشيت أمزغار وزير الحكومة في عهد شاه إيران محمد رضا بهلوي. وأفشى كارلوس أنه أدخل السلاح مع مجموعته إلى قاعة الاجتماع بصفتهم صحافيين ودبلوماسيين. وبعد مقتل أحد الحراس وسيدة نمساوية، تم احتجاز الوزراء في القاعة.
دام الاحتجاز 24 ساعة، فشلت خلالها كل المفاوضات التي شارك فيها دول وقادة إلى أن تم التوصل إلى اتفاق حول نقل الوزراء وعددهم 13 وزيراً في طائرة إلى الجزائر. وهناك قاد بوتفليقة وزير الخارجية وقتئذ، المفاوضات التي انتهت بالإفراج عن الوزراء مقابل فدية، على الرغم من أن البعض ينكر قبول كارلوس للفدية ليكتفي بقبول اللجوء السياسي في الجزائر مع مجموعته.
مسيرة صاروخية نحو السلطة
لكن الرئيس الجزائري ليس مجرد مفاوض دبلوماسي جيد، بل إنه متمسك شديد بالسلطة، وهذا ما تدل عليه سيرته السياسية التي تروي تدرجه في صفوف الثورة الجزائرية و"جيش التحرير الوطني"، ومن ثم تعيينه على رأس الدبلوماسية الجزائرية كأصغر وزير للخارجية في العالم، ومن ثم نفيه بعد وفاة أستاذه ومعلمه ومدبر صعوده وحاميه الرئيس هواري بومدين. وانتهت هذه السيرة بوفاته من دون تحقيق هدفين كان بوتفليقة يريد تحقيقهما بعد عقود في السلطة، وهما بقاؤه رئيساً حتى وفاته، وهو الذي لطالما ردد عبارة "من القصر إلى القبر"، ومن دون أن يتولى افتتاح مسجد الجزائر الأعظم الذي عمل على تشييده وإنجازه شخصياً، ومن دون أن يفتتح مطار الجزائر الدولي الذي كان يرغب في أن يسمى اسمه بعد وفاته، لكن الرياح لم تجرِ بما تشتهي سفنه ليضطر في أبريل (نيسان) 2019، إلى الاستقالة بعد عقدين في السلطة كان يرغب بإلحاقهما بولاية خامسة كانت ستمتد حتى عام 2024. وجاءت استقالته بعد خروج الجزائريون إلى الشوارع في طول البلاد وعرضها مطالبين بالتغيير.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولد بوتفليقة في مدينة وجدة الحدودية مع المغرب وتعلم فيها. وهذه المدينة كانت القاعدة الخلفية للثورة الجزائرية وتتمركز قياداتها فيها، فوجد سبيله للالتحاق بصفوف الثورة، واتخذ من ''عبدالقادر'' اسماً حركياً له في عام 1957.
ويكتب الصحافي الجزائري فريد عليلات "القصة السرية" للرئيس عبدالعزيز بوتفليقة في الكتاب الصادر عن منشورات دار "روشيه"، ويسرد الكتاب معاناة الصبي من قصر قامته وضعف تكوينه، وصيت والده الذي أطلق عليه أبناء وجدة لقب "المخبر"، لكن عبدالعزيز عوض عن ذلك كله بالتفوق في الدراسة وإتقان العربية والفرنسية، وتمكنه من الكتابة. وهذه الميزات دفعته إلى أن يقدم طلباً، وهو في سن الـ19 من عمره، للانضمام إلى الشرطة البلدية، في مدينة وجدة، لكن طلبه رفض بسبب "قصر قامته"، إذ كانت تنقصه ثلاثة سنتيمترات ليقبل في صفوفها، وذلك على الرغم من "الوساطات" التي قام بها والده، لكن هذه السنتيمترات الناقصة لم تمنع عبدالعزيز من أن يصبح رئيساً للجزائر، بل الرئيس الأكثر تأثيراً في مسار الجزائر الدولي والداخلي، حيث قام بإصلاحات كبيرة لم يكن ليقوم بها أي رئيس غير متمكن من سلطاته وممسك بها بأيدٍ كثيرة.
طيلة سنوات الثورة، لم يفارق "عبدالقادر" العقيد هواري بومدين. وبعد نجاحها، في عام 1963، عين الأخير وزيراً للدفاع، في ظل رئاسة أحمد بن بلا، وعين بوتفليقة وزيراً للخارجية. إلا أن الصراع على السلطة دفع بومدين لتنظيم انقلاب أطاح بن بلا. وفي تلك الليلة، كان بوتفليقة إلى جانب "الرجل القوي" الذي أرسل أول رئيس للجمهورية الجزائرية إلى السجن مدى الحياة.
إصلاحات ودبلوماسية
وفي وقوفه إلى جانب الرئيس بومدين تمكن من التدرج في السلطة منذ شبابه، فكلف وزارة الشباب والرياضة والسياحة، وهو في الـ25 من عمره ضمن أول حكومة للجزائر المستقلة، قبل أن يعين وزيراً للشؤون الخارجية وبقي في هذا المنصب حتى عام 1979. وفي هذه الفترة المديدة وبسبب حنكته وهدوئه وذكائه السياسي وبدافع من الثقل الثوري الكبير للسلطة الجزائرية الجديدة، تمكن بوتفليقة من تقديم الدعم الكبير للقضية الفلسطينية، وساهم في جعلها القضية المحورية للعرب شعوباً وساسة، ودفع بها إلى المحافل الدولية بعد طول لا مبالاة، ودعم حركات التحرر من الاستعمار في أفريقيا والعالم.
ويعتبر بوتفليقة مفاوضاً ومسالماً من أهم رؤساء الدول في هذا المجال، ليس في قضية وزراء "أوبك" فحسب، بل وفي الأمور الداخلية الجزائرية العالقة بعد حرب أهلية طاحنة وقعت نتيجة انقلاب الجيش على نتائج الانتخابات التي أوصلت الإسلاميين إلى الحكم في عام 1992. وفي ديسمبر (كانون الأول) عام 1994، اقترح عليه قادة الجيش الذين كانوا يمسكون بزمام السلطة منصب رئيس الدولة، لكن خلافات تتعلق بالصلاحيات حالت دون حصول توافق بينه وبين العسكر، غير أن الجيش سينجح مجدداً في إقناعه في عام 1998، بالترشح للرئاسة، فكانت أولى الخطوات التي قام بها في ولايته الثانية هي إطلاق مشروع المصالحة الوطنية عبر تطوير قانون الوئام المدني الذي كان أطلقه في ولايته الأولى من أجل إيجاد إطار قانوني لإنهاء الأزمة القائمة في البلاد. وأطلق مشاريع كبرى في البنى التحتية وفي إصلاح العدالة والتربية والقوانين المنظمة للدولة والمجتمع والتعليم والإدارة وإنعاش الاقتصاد، مستفيداً من ارتفاع مداخيل البلاد التي بلغت في الخزينة العامة 198 مليار دولار، استغل جزءاً منها في دفع كل الديون الخارجية للجزائر.