جاء إحباط المحاولة الانقلابية العسكرية في الخرطوم، الثلاثاء 21 سبتمبر (أيلول) برداً وسلاماً على الإدارات الأهلية في السودان، من ناحية أنها دائماً ما تجد العداء من الأنظمة العسكرية، على الرغم من أن هذه الإدارات عرفت على مر التاريخ أنها الجهة الفاعلة والمؤثرة في تماسك المجتمع، وتنظيم حياة أفراده ومعالجة قضاياه وبسط أمنه واستقراره، وفقاً للأعراف والموروثات المتبعة، والتي تجد القبول والرضا التام من قبل أفراد المجتمع السوداني، بخاصة القاطنين في الريف.
لكن في الآونة الأخيرة تراجع دور هذه الإدارة وأصبحت مجرد أداء وبوق في يد السلطات الحاكمة، بخاصة في العهود العسكرية، إذ تحركها في اتجاه مصالحها، مما أفقدها الهيبة والاحترام والنفوذ، وهو ما طرح تساؤلات عدة حول كيفية عودة هذه الإدارة إلى وضعها الطبيعي حتى تسهم في معالجة الاختلالات التي حدثت في المجتمع؟
الولاء والطاعة
وقال الباحث في الدراسات اللامركزية والحكم المحلي، ووكيل وزارة الحكم المحلي السابق في السودان صلاح الدين بابكر محمد، "لا تختلف الإدارة الأهلية منذ نشأتها في السودان قبل الحكم التركي - المصري عام 1821 عما هو قائم في مجتمعات العالم القديم كافة، حيث تكون السلطة في يد شيخ القبيلة أو حكيمها أو الأكبر سناً، أو الأكثر معرفة بشؤون وهموم المجتمع الحياتية، ويستمد هذه السلطة من القبول والرضا والولاء والطاعة التي يجدها من أفراد القبيلة، وليس من القهر أو البطش، لكن بشكل عام، نجد أن الإدارة الأهلية في بلادنا ارتبطت بالمجتمعات الريفية لأن التركيبة الاجتماعية للمجتمع الريفي مبنية على علاقة القرابة والدم وتماسك القبيلة واحترام أعرافها وتقاليدها المتوارثة والولاء والطاعة لشيخ القبيلة، بخلاف المجتمعات الحضرية التي لا تتوفر فيها هذه الصفات، وتحتكم لسلطة القانون والمحاكم".
وأشار محمد إلى أن أول تشريع لتنظيم النظام الأهلي في البلاد صدر في عهد الإدارة البريطانية عام 1922، وكان الغرض منه ضبط تحركات الرحّل وتنظيم علاقاتهم مع السكان المستقرين بخاصة المزارعون، لذلك منح هذا القانون رجال الإدارة الأهلية سلطات قاضي الدرجة الثالثة للفصل في النزاعات والخصومات وحفظ الأمن بين القبائل، في وقت تبنت الإدارة البريطانية في 1928 نهجاً جديداً في تنظيم الإدارة الأهلية لتصبح أكثر فعالية بدمج القبائل الصغيرة في القبائل الكبيرة، ودمج الكيانات القبلية الصغيرة مع بعضها البعض لتكوين كيانات تتحمل المهام الكبيرة المطلوبة منها.
استقطاب سياسي
ولفت الباحث في الدراسات اللامركزية والحكم المحلي إلى أن الإدارة الأهلية شهدت بعد استقلال البلاد من الاستعمار في 1956 استقطاباً سياسياً حاداً، لكسب تأييد ونفوذ زعمائها، وهو ما أضرّ بها وأدى إلى استهدافها من قبل الحكومات الشمولية، وتم حلها في فترة حكم الرئيس الأسبق جعفر النميري في 1970، في وقت أحكم نظام الرئيس السابق عمر البشير، مطلع تسعينيات القرن العشرين، سيطرته التامة على رجالات الإدارة الأهلية من خلال حكومات الولايات (الأقاليم)، فضلاً عن تحويل معظم سلطاتها إلى اللجان الشعبية التي استحدثت بداية حكم النظام السابق، وبالتالي، تضاءل دورها، ولجأت القبائل التي كانت تأتمر بسلطاتها وقراراتها إلى حسم خلافاتها ونزاعاتها بقوة السلاح.
ورأى وكيل وزارة الحكم المحلي السابق أن ما حدث من متغيرات خلال الفترات والحقب السابقة أدى إلى تباين وضع الإدارة الأهلية من ولاية إلى أخرى، حسب ظروفها ومؤثراتها، فمثلاً في ولاية غرب دارفور، ما زال رجل الإدارة الأهلية يجد التقدير والاحترام، وما زال دوره مؤثراً في حفظ الأمن وتحقيق التعايش السلمي بين القبائل، بينما في ولايات أخرى، أصبحت الجماعات المسلحة هي التي تدافع عن القبيلة، وتوفر الحماية لأفرادها، وأصبح رجل الإدارة الأهلية مجرد شخصية عادية، لا تتعدى سلطته نطاق أسرته الصغيرة، ونوّه إلى أن عودة الإدارة الأهلية لوضعها الطبيعي تتطلب الوقوف على المتغيرات التي طرأت على تركيبة المجتمع الريفي والتحول الاجتماعي الكبير الذى حدث فيه خلال الفترة السابقة، ومن ثم، يمكن لكل ولاية أن تحدد الأدوار الجديدة التي يمكن أن تقوم بها الإدارة الأهلية، بحسب الظروف المحلية لكل ولاية.
نفوذ قبلي
في السياق أيضاً، أكد وكيل أحد نظار الإدارات الأهلية محمد عبد الرحمن المشرف، أن الإدارات الأهلية، وعلى الرغم من مردودها الإيجابي على البلاد من نواح عدة، لكنها تعرضت للظلم من الحكومات العسكرية والمدنية السابقة، فما أن جاءت حكومة جديدة وإلا أحدثت هزة وخللاً لهذا المكون الاجتماعي المهم بحله أو تقليص سلطاته، لتكتشف بعد ذلك أهميته عندما تواجهها التحديات الحقيقية بخاصة النزاعات القبلية، فلا تجد بديلاً لإيقاف نزيف الدم وبسط الأمن والاستقرار في تلك المناطق المتأزمة إلا عبر الاستعانة برجالات الإدارة الأهلية من نظار وسلاطين وعمد، وذلك لما يتمتعون به من نفوذ ووضع قبلي وعشائري يمكنهم من تسوية أي نزاع بالتراضي، وبين أن السودان بلد مترامي الأطراف، ويصعب على الدولة الإمساك بزمام الأمور كلها بخاصة في الريف، في ظل عجزها عن تقديم الخدمات المختلفة، لذلك يبرز دور رجل الإدارة الأهلية من خلال ممارسته سلطات عديدة تسهم بشكل كبير في تماسك النسيج الاجتماعي، وبالتالي، لا بد من تمتعه بمركزه الاجتماعي كاملاً، وقال إن المطلوب حالياً تنقيح قانون الإدارة الأهلية ليكون فاعلاً ومؤثراً وممكناً لأصحاب الشأن للقيام بدورهم المنوط بهم على الوجه الأكمل، ومن المهم تعريف الإدارة الأهلية ليكون القانون الجديد منحازاً للإدارات التاريخية المعروفة والموجودة على أرض الواقع، وإبعاد كل من دخل هذا المجال بطرق ملتوية.
إعادة هيكلتها
وأوضح المشرف أن إعادة هيكلة الإدارة الأهلية وفقاً للإرث التاريخي، والعمل على تقنينها والمحافظة عليها كالدستور يزيد من حيويتها، بخاصة أنها تتميز بأن متطلباتها في الحكم بسيطة جداً مقابل ما تقوم به من أدوار عظيمة، مشيراً إلى أنها مشابهة للنظام البلدي في أوروبا، فهي ليست نمطاً أكاديمياً بقدر ما هي نمط اجتماعي تقليدي تحكمه أعراف وتقاليد تظهر رجل القبيلة بأنه الحاكم الفعلي وسط مجتمعه، وتابع، "صحيح لم تكن الإدارة الأهلية الآن كسابق عهدها، فقد واكبت التطورات التي صاحبت العصر، ويشهد لرجالاتها بالكفاءة والمعرفة والتحصيل العلمي والأكاديمي العالي، لكن لم تختلف مسؤولياتها وأدوارها ومكانتها، فعلى الرغم من تغير الحكومات وتشويهها هذه الإدارات الأهلية، فإنها ظلت ثابتة في مكانها، فهي مدرسة متكاملة من المعرفة والخبرات والإرث الاجتماعي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولفت وكيل ناظر الإدارات الأهلية إلى أن ما تشهده بعض مناطق البلاد من صراعات وتفلتات أمنية سببه تفكك الإدارات الأهلية وضعفها، لذلك يجب على الحكومة الانتقالية الحالية إعادة الحيوية لهذه الإدارات، باعتبارها أداة فاعلة في درء وفض النزاعات المحلية والمحافظة على العلاقات المجتمعية.
هياكل الإدارة الأهلية
ويتكون هيكل الإدارة الأهلية في السودان من ثلاثة مستويات تشمل ناظر القبيلة أو السلطان، أو "مك العموم" في بعض الأقاليم، ويمثل كل منهم القائد والزعيم الروحي للقبيلة، وتدين له القبيلة بالولاء والطاعة، وتختاره الحكومة بعد التشاور مع القيادات الأهلية للقبيلة، وتكون له سلطة الإشراف العام على العمد والمشايخ في ممارسة مهامهم الرسمية، ومسؤولية حفظ الأمن ومنع الاحتكاكات والنزاعات بين أفراد قبيلته، ومعالجة بعض القضايا الداخلية لأفراد قبيلته ودياً عن طريق العرف القبلي، والإشراف على أعمال العمد في تحصيل الضرائب وتنظيم استخدام الأراضي الزراعية والمرعى وحماية الموارد الطبيعية، ومتابعة تنفيذ العمد والمشايخ الأوامر التي تصدر من مفتش المركز، فضلاً عن ممارسة سلطاته القضائية التي حددها القانون في الفصل بالقضايا الكبرى بين أفراد القبيلة، إلى جانب درء النزاعات وتحقيق التعايش السلمى مع القبائل المجاورة.
ثانياً، العمدة أو "المك" أو "الشرتاي"، في بعض المحافظات، وهو المستوى الأوسط في هيكل الإدارة الأهلية، وغالباً ما يتم اختياره برضا كل مشايخ القبيلة باعتباره الأكثر معرفة بتقاليدها وأعرافها، تتمثل سلطاته في الإشراف على أعمال الشيوخ في تنظيم استخدام الأراضي وحماية الموارد الطبيعية، وتنفيذ أوامر الحكومة، وحل النزاعات حسب الأعراف المحلية، وممارسة سلطاته القضائية التي نص عليها القانون، إضافة إلى الإشراف على عمل الشيخ في تحصيل الضرائب وتوريدها لخزينة الناظر، وتنفيذ أوامر الحضور والقبض على المطلوبين للمحاكمة، ومعالجة النزاعات التي تنشأ بين أطراف في مشيخات العمودية باستخدام العرف المحلي .
ثالثاً، شيوخ القرى والفرقان في المستوى الأدنى، وغالباً يكون لكل قرية شيخ في حال بلغ عدد سكانها بين 50 و100 نسمة، وهؤلاء يتم انتخابهم بواسطة سكان القرية، وتوكل إليهم مهام حفظ الأمن والنظام، وفض النزاعات المحلية عرفياً أو بالقانون إذا اقتضى الأمر، وتنظيم استخدامات الأراضي والمراعي والغابات وحمايتها، وتحصيل الضرائب الحكومية، وتنفيذ إعلانات الجمهور للمثول أمام المحاكم وتنفيذ إجراءات القبض على المطلوبين للمحاكم، والتبليغ عن المخالفات الصحية والأوبئة والأمراض المعدية للحيوان والإنسان، إضافة إلى جمع الأهالي لأعمال النفير والعمل التعاوني، وتجميع قطعان الحيوانات للتطعيم ضد الأوبئة والأمراض.