من المؤكد أن ما من أحد كان في إمكانه أن يرسم صورة تعبق بالسلبية لذاك الذي يُنظر إليه عادة بوصفه بطل تحرير أميركا اللاتينية، سيمون بوليفار، قبل أن يقدم على ذلك ولو بشيء أقرب إلى الخجل الكولومبي الكبير غابريال غارسيا ماركيز في كتابه المتأرجح بين السيرة والرواية "الجنرال في متاهته". ونعرف أن حتى ماركيز حين أصدر ذلك الكتاب وكان قد وصل إلى قمة شهرته، جوبه بعاصفة من الاستنكار والنقد يقال إن صديقه فيديل كاسترو كان وراءها. مهما يكن، تمكن كتاب ماركيز يومها من أن يفرض حضوره بعد أن وازن كثر بين السلبيات التي وصفها الكاتب في النص، وكانت قليلة على أي حال وتنتمي في معظمها إلى مرحلة ما بعد هزيمته النهائية حيث راحت الشكوك تستبد به، وبين الإيجابيات العديدة التي عزاها إليه. يومها لم يحطم ماركيز الأسطورة تماماً لكنه هزها إلى حدود معقولة، حدود سيخفف من وطأتها ما اعتبر توصيفاً إنسانياً للبطل الذي تحمل اسمه مدن عديدة في القارة اللاتينية ودولة بأسرها وتنتشر تماثيله حتى في القرى الصغيرة. البطل الذي لا يُمس عادة. لكن ماركيز فتح ثغرة ولو مترددة. وها هو من بعد ما فعل ماركيز بنحو ثلث قرن، كاتب كولومبي آخر أكثر شباباً من ماركيز وأكثر جرأة منه، يوسع الثغرة في رواية جرؤت على ما لم يجرؤ عليه أحد من قبل.
انقسامات في كل مكان
نتحدث هنا عن رواية عنوانها "عربة بوليفار" للكاتب إيبيليو روزارو التي قد يكون لافتاً فيها أنها صدرت أول الأمر في برشلونة الإسبانية عام 2012 وليس في أي بلد أميركي لاتيني. والحقيقة أن هذا قد لا يعني شيئاً، لكنه قد يعني الكثير. فأن تكون الرواية صدرت في إسبانيا أمر سيبدو لنا منطقياً طالما أن الاستعمار الذي خلص منه بوليفار بلدان أميركا اللاتينية كان استعماراً إسبانياً. وبالتالي لا يمكن لما جاء في الرواية أن يغضب الإسبان. ومع ذلك قد لا يكون هذا مقصوداً بالنظر إلى أن "عربة بوليفار" سرعان ما وزعت في العديد من بلدان القارة اللاتينية مثيرة النقد والعتب ولكن ليس قدراً كبيراً من الغضب في نهاية الأمر. ولسوف نفهم هذا الموقف بعد قليل، في ارتباطه بالسياسات الراهنة، سياسات الزمن الذي نعيش، لا سياسات الزمن الذي عاش فيه بوليفار. ولعل من الضروري أن نذكر هنا ومنذ الآن أن "أحداث" الرواية لا تدور في زمن بوليفار بل في الزمن الراهن وحتى قبل بدايات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين حيث عمت الاحتفالات بالذكرى المئوية الثانية للاستقلالات التي حققها بوليفار، على الأقل في البلدان التي تعرف اليوم بكولومبيا وبوليفيا والإكوادور وفنزويلا. والحقيقة أننا حين نتنبه إلى أن الجزء الأكبر من تلك الاحتفالات مُولت من قبل هوغو شافيز رئيس فنزويلا في ذلك الحين وتبنتها في البلدان الأربعة التي نشير إليها تنظيمات تسير على منوال هذا الأخير في اعتبار البوليفارية نظرية ثورية معادية للإمبريالية، يمكننا أن نفهم الحياد الذي قوبلت به الرواية وعدم حماسة كثر في استنكارها. كان الموقف بالأحرى موقفاً من شافيز لا من بوليفار كما سنرى بعد سطور!
الإمبراطور الروماني
مهما يكن من أمر تدور رواية "عربة بوليفار" كما أشرنا خلال ستينيات القرن العشرين بعد انقضاء أيام كرنفال يحتفل فيه عادة بذكرى بوليفار، لا سيما هنا في الرواية في بلدة تقع أقصى جنوب كولومبيا وتدعى "باستو" حيث قرر واحد من أهل البلدة، الدكتور بروسيسو أن "يحتفل" بالذكرى على طريقته، فصنع عربة على طراز عربات أباطرة الرومان القدماء سماها "عربة بوليفار" وجعل هذا الأخير قائدها وقد وسمه بكل ما كان معروفاً عن ديكتاتورية أولئك الأباطرة ونزوعهم إلى حب الذات وتعظيم أنفسهم ولا مبالاتهم بأمن الرعايا وحياتهم. ولئن كانت تلك العربة قد تمكنت من اختصار موقف سلبي من بوليفار يحمله كثر من أهل البلدة من الذين، كما حال كاتب الرواية روزيرو، يتناقلون أباً عن جد جيلاً بعد جيل ذكريات المجازر التي ارتكبها هناك بالفعل بوليفار وجنوده حين وصلوا إلى المكان ليحرروه، فإن آخرين من أهل البلدة نفسها انتفضوا ضد العربة وصاحبها ليقوم صراع حاد وصل إلى داخل البيوت بين الأهل وأبنائهم والأخ وأخيه إلى درجة أن الصراع العائلي العنيف انتقل إلى داخل بيت الدكتور بروسيسو نفسه إذ كانت زوجته من نصيرات بوليفار المؤمنات بأسطورته وعظمته مثلها في ذلك مثل العديد من تنظيمات الشبيبة الثورية. وهكذا تمكن الصراع من حول عربة بوليفار وقائداً من إيقاظ أحقاد قديمة...
ذكريات عائلية مريرة
في أحاديث صحفية عديدة أجريت معه حول روايته قال روزيرو أنه كاتب روائي أولاً وأخيراً وليس مؤرخاً. لكنه اشتغل طويلاً على أبحاث تتعلق ببوليفار وذلك انطلاقاً مما هو متداول في أوساط عائلته نفسها مؤكداً أنه لم يضف كثيراً من عنده فـ"بلدتنا التي احتلتها قوات بوليفار في عام 1822 لم تكن مؤيدة له، ومن هنا ما إن دخلتها تلك القوات حتى ارتكبت فيها مذابح، منها واحدة اقترفت يوم عيد الميلاد وراح ضحيتها نحو مئة قتيل ما جعل السكان يلقبون ذلك اليوم بـالميلاد الأسود". بحسب الذاكرة الجماعية لعائلة الكاتب الذي أضاف في تصريح صحافي "في المدرسة كانوا يحدثونني عن بوليفار البطل الإستراتيجي الكبير، القائد المقدام والرجل النزيه. أما في البيت وفي الأوساط العائلية فكنت أسمع دائماً حديثاً آخر على ألسنة أبي وأعمامي وجدي، بل كذلك على ألسنة كثر من سكان باستو الذين لا يتذكرون من بوليفار إلا كونه محارباً قاسياً لا يرحم". بيد أن ما لم يشر إليه روزيرو فهو ما لفت إليه ناقد أدبي في صحيفة "الباييس" الإسبانية من أن قراءة روزيرو لكتاب ماركيز "الجنرال في متاهته" كانت ما شجعه بل حتى حفزه لاستكمال صورة للجنرال المحرر لم يصل صاحب "مئة عام من العزلة" إلى التعبير عنها بوضوح مكتفياً بتصوير نهاية بوليفار ساكتاً عن المجازر التي اقترفها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من بوليفار إلى شافيز
من هنا اعتبر عدد من النقاد أن كتابي ماركيز وروزيرو يتكاملان ولا يتشابهان بل حتى لا يتعارضان. علماً أن روزيرو، حتى وإن كان يعرف أنه يكتب عملاً روائياً في نهاية الأمر، استند في بحوثه التمهيدية إلى عدد كبير من الكتب والوثائق التي لا يمكن لأحد رفضها بالنظر إلى أنه كان يعرف منذ البداية أنه لا يتمتع بقامة ماركيز التي تجعل ما يصدر عنه مقبولاً، وأنه يخوض موضوعاً يقف فيه عند حافة الخطر، في سعيه، كما قال إلى "تصحيح خطأ تاريخي عمره مئتي عام". ومع ذلك قال مؤكداً في نهاية الأمر، إنه إنما أراد أن يكتب رواية لا نصاً تاريخياً. فهو أديب لا مؤرخ، ومبدع لا رجل علم. ويبدو أنه تمكن من الوصول إلى هدفه دون أن يجابهه كثير من الاستنكار. أولاً بالطبع لأن النقاد أثنوا بشكل عام على رهافة لغته الأدبية وحسن استخدامه لمخيلته. ولكن ثانياً لأن الكتاب صدر في زمن كان من حسن حظ روزيرو فيه أن الديكتاتور الفنزويلي هوغو شافيز تبنى بوليفار والبوليفارية بصورة كلية، كما ذكرنا أعلاه، ما جعل كثراً يستخدمون الكتاب كورقة ضد شافيز فيما كان من سوء طالع الذين حاولوا التصدي لـ"عربة بوليفار" أن اعتبروا شافيزيين لا بوليفاريين ما حول الحكاية، كما يحدث داخل الرواية على أي حال، إلى نوع من استفتاء حول شافيز طلع منه إيبيلو روزيرو منتصراً..