كما كان متوقعاً، تأجل مسار العدالة الذي كان انطلق به قاضي التحقيق طارق بيطار منذ تعيينه خلفاً للقاضي السابق فادي صوان، في قضية "انفجار مرفأ بيروت" إلى أجل غير مسمى. بدأ المسار السياسي الموجه ضد التحقيقات بشكل واضح مع انتقادات الأمين العام لـ"حزب الله"، حسن نصر الله، حين قال إن عمل بيطار "مسيس"، مروراً بزيارة رئيس لجنة الارتباط والتنسيق في الحزب وفيق صفا قصر العدل، حاملاً رسالة تهديد إلى المحقق العدلي، وصولاً إلى تقديم وزير الأشغال السابق المدعى عليه، يوسف فنيانوس الدعوى "الارتياب المشروع"، ودعوى طلب الرد من النائب نهاد المشنوق.
طارت جلسات التحقيق
وبدل أن تكون بداية الأسبوع الحالي موعداً لبدء سلسلة جلسات التحقيق التي حددها بيطار لعدد من المدعى عليهم، أصبح يوم كف يده عن متابعة الملف. فبمجرد أن تبلغ بيطار الدعوى المقدمة ضده من النائب نهاد المشنوق وقبله الوزير السابق يوسف فنيانوس المدعى عليهما، طارت الجلسات التي كان حددها لاستكمال التحقيقات وأولاها جلسة الاثنين 27 سبتمبر (أيلول) الحالي، التي كانت مخصصة لاستكمال استجواب المدير العام السابق لمخابرات الجيش العميد كميل ضاهر، الذي رفض محاميه تعليق الجلسة، فيما تمكن بيطار من استجواب العميد السابق في المخابرات جودت عويدات، إلا أن العميد السابق في مخابرات الجيش غسان غرز الدين لم يحضر، وذلك بسبب تضارب في موعد جلسة الاستماع إليه.
كما طارت كل الجلسات الباقية، وأولاها كانت محددة في 28 سبتمبر للاستماع إلى قائد الجيش السابق جان قهوجي، يليها في 30 سبتمبر جلسة مخصصة للتحقيق مع المدعى عليه النائب علي حسن خليل، ثم كان محدداً في الأول من أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، موعد جلسة المدعى عليهما النائبين غازي زعيتر ونهاد المشنوق، فيما كانت محددة جلسة رابعة في الرابع من أكتوبر للتحقيق مع المدعى عليه رئيس الحكومة السابق حسان دياب، الذي لا يزال موجوداً في الولايات المتحدة الأميركية.
حتى ما قبل تبلغه لم يتراجع
في موازاة ذلك، كان وفد من أهالي ضحايا تفجير 4 أغسطس (آب) يلتقي رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود، في قصر العدل، لتأكيد رفضهم كف يد القاضي بيطار كونه لا يتلقى اتصالات من سياسيين وماضياً بالتحقيقات حتى النهاية.
وكان بيطار منهمكاً في جلسة الاستماع إلى عمداء سابقين في الجيش اللبناني، وفي إصدار ادعاءات جديدة قبل تبلغه خبر كف يده عن الملف، بانتظار أن تبت المحكمة التمييزية برئاسة القاضية رندة كفوري قرار قبول أو رفض تنحيته عن القضية. فقبل تبلغه القرار كان أحال إلى النيابة العامة التمييزية طلبين جديدين موجهين إلى وزير الداخلية والأمانة العامة لمجلس الوزراء، لطلب إذن بملاحقة كل من المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم، ورئيس جهاز أمن الدولة اللواء طوني صليبا. والمعلوم أن بيطار سبق وطلب بملاحقة إبراهيم وصليبا، إلا أن وزير الداخلية المستقيل محمد فهمي رفض ذلك، فحوّل المحقق العدلي في قضية تفجير مرفأ بيروت طلبه إلى المجلس الأعلى للدفاع كونه الجهة الصالحة للبت بملاحقة رئيسَي جهازَين أمنيين لا يزالان في منصبيهما.
وفي ما يشبه الرفض الضمني لتطبيق الطلب، ماطل المجلس الأعلى للدفاع، الذي يرأسه رئيس الجمهورية ميشال عون، في الرد ولم يتخذ قراراً مباشراً بشأنه، لحجج مختلفة، حتى شُكلت الحكومة الجديدة وصار للداخلية وزير جديد هو القاضي بسام مولوي. فعاد بيطار وأرسل طلبات جديدة إلى مولوي، متبعاً الأصول القانونية. وسارعت مصادر مولوي إلى نفي تبلغها حتى الآن أي طلب إذن بملاحقة اللواءين إبراهيم وصليبا. وكشفت مصادر قضائية عن أن بيطار وقبل تجميد تحقيقاته كان أصدر ادعاءً جديداً على قاض ثالثٍ له علاقة بتفجير المرفأ.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الطلب مردود بالشكل
ماذا بعد توقف التحقيقات وتعطيل عمل القاضي بيطار؟ سؤال حملناه إلى المدعي العام التمييزي السابق القاضي حاتم ماضي، فرد جازماً أن "طلب رد بيطار للارتياب المشروع مردود بالشكل"، مضيفاً "لو كنت مكانه لأكملت التحقيقات لأن كل ما عدا ذلك مخالف للقانون". وأكد ماضي أن "على محكمة التمييز أن ترد الطلب إذا كانوا يفهمون القانون". وسأل القاضي ماضي، "هل محكمة التمييز هي التي عيّنت القاضي بيطار لتقرر تنحيته، أم أن وزير العدل هو الذي اختاره بالتنسيق مع مجلس القضاء الأعلى". ودعا ماضي، مبدياً حسرته على القضاء، إلى وقف "الحرتقة" بالقانون (أي التلاعب به)، وسأل "لا يعجبكم هذا القاضي وقبله لم يعجبكم قاضٍ آخر، من أين نأتي بالقضاة؟ من السماء؟".
لا يرى المدعي العام التمييزي السابق أي مبرر في تأخير البت بقرار رد القاضي بيطار، فقال "يمكن لمحكمة التمييز أن تتخذ قرارها برفض طلب المشنوق وفنيانوس خلال خمسة أيام كحد أقصى حتى يتمكن المحقق العدلي من استئناف عمله". وذكر أن "ذات الأسلوب استُخدم في زمن القاضي فادي صوان الذي كانت تنحيته عن القضية مخالفة أيضاً للقانون ومن دون أسباب موجبة. وأخّرت تنحيته التحقيقات نحو أربعة أشهر، فهل المطلوب هو المماطلة وخلق حجة جديدة لتأخير التحقيقات أربعة أشهر إضافية، فمتى إذاً تُكشف الحقيقة ويصدر القرار الظني؟ بعد 400 عام؟". وشجب ماضي كل ما يحصل قائلاً "آسف على أهالي الضحايا وعلى القضاء فمن المعيب ما يحصل فيه". ولدى سؤال ماضي أخيراً عما إذا كانت هناك إمكانية أن يُستبدل ببيطار قاضٍ ثالث؟ أجاب "هل سيجدون قاضياً آخر يقبل بهذه المهمة؟".
"ضغوط خارجية؟"
الصحافي فيصل عبد الساتر المقرب من "حزب الله" علق على كفّ يد قاضي التحقيق قائلاً "من المتوقع أنْ يحدث ذلك"، مؤكّداً أنّه "لا يجوز إفتعال مشكلة مع أهالي الشهداء لأنّ هدف الجميع الوصول إلى الحقيقة"، مُشككاً بمسار التحقيق الذي لا "يمكن أن يوصل إلى هذه الحقيقة"، وأعطى بضعة أمثلة عن الإستنسابية في التحقيق والتوقيفات والإتهامات" مُتسائلاً حول ما يُشاع عن "ضغوط خارجيّة يتعرَّض لها القاضي البيطار أو من شركات التأمين التي تريد حرف التحقيق بما يخدم مصالحها من أجل عدم التعويض على المتضرّرين بمئات المليارات".
هل تماطل محكمة التمييز حتى عودة الحصانات؟
كثر ممن ناشدوا رئيسة محكمة التمييز، القاضية رندة كفوري، البت سريعاً بقرار رد القاضي بيطار عن تحقيقات انفجار المرفأ، لا سيما بعدما تبين أن قطبةً مخفية كانت وراء تقديم طلب الرد بحقه وشل عمله، لأن النواب المُدعى عليهم يُعتبرون حالياً خارج نطاق الحصانات كون المجلس النيابي ليس في دورته العادية التي تُفتح بشكل طبيعي في أول ثلاثاء بعد منتصف أكتوبر المقبل، ليعود عندها المدعى عليهم النواب الثلاثة، نهاد المشنوق وغازي زعيتر وعلي حسن خليل للتمتع بالحصانات النيابية التي لا يمكن للمحقق العدلي تجاوزها وإحضارهم للتحقيق من دون موافقة مجلس النواب بثلثي أعضائه. فإما تنقذ القاضية كفوري ومعها مستشارو هيئة محكمة التمييز التحقيقات في أفظع جريمة حصلت في تاريخ لبنان، وإلا فعلى الدنيا السلام، وسينضم ملف انفجار المرفأ إلى باقي الأحداث التي حصلت ولم تصل يوماً إلى العدالة ولا الحقيقة في هذا البلد.