تستعد المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، للتنحي في وقت لاحق من هذا العام، بعد أن عززت منذ فترة طويلة مكانتها كواحدة من أنجح القادة الاقتصاديين والسياسيين في العالم. فخلال فترة عملها، تعاملت مع 5 رؤساء وزراء بريطانيين و4 رؤساء فرنسيين و7 رؤساء حكومة إيطاليين و4 رؤساء للولايات المتحدة الأميركية.
لكن على الرغم من سجلها الحافل، أمضت ميركل، زعيمة رابع أكبر اقتصاد في العالم، كثيراً من حياتها المهنية السياسية مضطرة إلى إثبات نفسها، بينما حاول نظراؤها التغلب عليها. فأحضر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ذات مرة كلباً من فصيلة "لابرادور" في لقائه مع المستشارة المشهورة بخوفها من الكلاب، فيما انتقدها بشدة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترمب، بينما تركها رئيس الوزراء الإيطالي السابق، سيلفيو برلسكوني، ذات مرة تنتظر لمدة 15 دقيقة، بينما كان يتحدث على الهاتف. فعندما أصبحت أول امرأة تتولى أعلى منصب في ألمانيا في عام 2005، اعتبر كثيرون أنها تفتقر إلى الخبرة، وأنها بحاجة إلى الكاريزما حتى تستمر.
هل كانت ميركل "زعيمة مؤقتة"؟
وفق تقرير لشبكة "سي أن أن" الأميركية، قالت جويس مشبن، أستاذة العلوم السياسية، إنه "كان يُنظر إلى ميركل على أنها زعيمة مؤقتة عندما ارتقت لأول مرة في صفوف حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي".
وأشارت إلى أن "عديداً من منافسيها الذكور حاولوا الإيقاع بها، وكان هناك شعور بأنها ستحتفظ بهذا المكان حتى يتمكنوا من العثور على رجل حقيقي من "الاتحاد الديمقراطي المسيحي" ليحل محلها... لقد قللوا تماماً من قدرتها على التعلم."
لكن، انتهى الأمر بميركل إلى قيادة الحزب لمدة 18 عاماً، وتنحت من هذا المنصب في أواخر عام 2018. وسرعان ما بات واضحاً مدى صعوبة استبدالها. واستمر خليفة ميركل المختار بعناية، أنجريت كرامب، لأكثر من عام بقليل في المنصب، ثم اختار الحزب أرمين لاشيت خلفاً لها في زعامة "الاتحاد الديمقراطي المسيحي". وفاز لاشيت، وهو حليف لميركل منذ فترة طويلة، يشغل حالياً منصب الوزير- الرئيس لولاية شمال الراين - وستفاليا الفيدرالية، بنسبة 52.79 في المئة (521 صوتاً)، متفوقاً على فريدريك ميرز، محامي الشركات، الذي حصل على 47.21 في المئة (466 صوتاً).
وقاد لاشيت الحزب في الانتخابات الفيدرالية في سبتمبر الحالي. وكان انتخابه تصويتاً واضحاً لصالح استمرار سياسة ميركل المعتدلة. فيما ترى مشبن أن "مفتاح نجاح ميركل يكمن في المزيج الفريد لخلفيتها وقدراتها... إن تجربتها في نشأتها كابنة قس في ألمانيا الشرقية الشيوعية أثرت بعمق على اتخاذ قرارها السياسي، وبصفتها عالمة سابقة حاصلة على درجة الدكتوراه في كيمياء الكم (Quantum chemistry)، فإنها غالباً ما تتعامل مع المشكلات بنفس طريقة الحسابات المعقدة.
وعندما تورط معلمها السياسي هيلموت كول في فضيحة فساد في عام 1999، شجبته علناً، ودعته إلى الرحيل. وأضافت مشبن، "كان الناس ينظرون إليها على أنها شخص نزيه".
وبالإضافة إلى كونها أول امرأة تصل إلى المستشارية في ألمانيا، كانت ميركل أيضاً أول سياسية من ألمانيا الشرقية السابقة تتولى هذا المنصب بعد سقوط جدار برلين.
وأشارت ميركل إلى هذا الجزء من خلفيتها التاريخية أخيراً، عندما ضغطت من أجل مزيد من القيود المفروضة على فيروس كورونا، واعترفت بأنها بصفتها شخصاً يرى أن حرية السفر حق مكتسب بصعوبة، لم تكن مرتاحة للقواعد الجديدة، لكنها أوضحت سبب ضرورتها.
أول المواجهين لتداعيات ومخاطر كورونا
في الوقت ذاته، ترى كورينا هورست، نائبة مدير صندوق مارشال الألماني في بروكسل، أن "ميركل كانت نوعاً جديداً من القادة... إنها تنضح بالتعاطف والاستقرار والموثوقية... هذا فريد من نوعه، وقد أعاد في بعض النواحي، تعريف ما يبحث عنه الناس في القائد، لأنه يتعارض بشدة مع أي نوع من الصور النمطية الذكورية التي كانت لدينا."
وحتى أشد منتقديها يعترفون بأن ميركل تتمتع بقدرات خاصة عندما يتعلق الأمر بمعالجة الأزمات، بعد أن خاضت ألمانيا في الأزمة المالية العالمية، وأزمة الديون في منطقة اليورو وأزمة الهجرة، وخرجت من كل ذلك بسلام. وبقيت قبل أشهر من التنحي، في طليعة المواجهين لجائحة فيروس كورونا المستجد.
وعملت ميركل كصوت العقل وصانع الصفقات، بينما يصفها علماء السياسة بأنها "هادئة" و"براغماتية" و"دبلوماسية". ويرى غابرييل أبيلز، أستاذ السياسة المقارنة بجامعة توبنغن بألمانيا، أنه "لا يوجد شيء ساحر فيها... إنها في الواقع عقلانية للغاية، ولن يفكر الناس فيها أبداً على أنها فاسدة". ويعتبر أبيلز أن "ميركل تجسد ما يبحث عنه معظم الألمان في زعيم، بينما ننظر أحياناً إلى دول أخرى لديها عدد أكبر من القادة الكاريزماتيين، لا نريد هؤلاء لأنفسنا، لقد سئمنا من ذلك في التاريخ".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأثمر "تصميم" ميركل التوصل إلى اتفاق خلال بعض أكبر الأزمات في العقد الماضي. وكانت قادرة على التوسط في صفقة بين منطقة اليورو واليونان، وأقنعت كبار المسؤولين في روسيا وأوكرانيا بالتحدث مع بعضهم البعض. وبصفتها عالمة سابقة ووزيرة للبيئة، فقد وضعت أيضاً مركز المناخ على قائمة اهتماماتها منذ بداية قيادتها. وترأست أول مؤتمر للأمم المتحدة حول المناخ في برلين، وأقنعت القادة الآخرين لمجموعة الثماني بقبول الحاجة إلى خفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. وترى أستاذة العلوم السياسية، جويس مشبن، أن "ميركل جعلت (الرئيس الأميركي الأسبق) جورج بوش يعترف بوجود مشكلة تغير المناخ... لقد كانت وسيطاً عظيماً".
أزمة اللاجئين تتحول إلى مكاسب
لكن القيادة بالإجماع لم تنجح دائماً. ففي أواخر العام الماضي، كافحت من أجل إقناع قادة الولايات الفيدرالية في ألمانيا بتنفيذ قيود أكثر صرامة على مستوى البلاد في شأن فيروس كورونا عندما بدأت مستويات العدوى بالارتفاع. وبصفتها الرئيسة الدورية لمجلس الاتحاد الأوروبي في الأشهر الستة الماضية، كافحت للتوصل إلى إجماع مع المجر وبولندا حول التزامهما بسيادة القانون في الاتحاد الأوروبي.
وكانت هناك أيضاً أوقات لم تبحث فيها ميركل عن حل وسط، وعلى الأخص في عام 2015 عندما رحبت باللاجئين الفارين من النزاعات في سوريا وأماكن أخرى. وقالت للشعب الألماني في ذلك الصيف، "للأشخاص المضطهدين سياسياً الحق في اللجوء. يمكننا أن نفخر بإنسانية قانوننا الأساسي. كما نمنح الحماية لكل من فروا إلينا من الحروب. أضعها ببساطة: ألمانيا بلد قوي، يجب أن يكون الدافع الذي نتعامل به مع هذه الأمور هو: لقد حققنا الكثير. يمكننا أن نفعل ذلك". وقالت، "لقد كان عملاً إنسانياً، وكان الشيء الصحيح الذي ينبغي عمله. لقد مكنت المواطنين الألمان الذين شعروا بالتعاطف مع اللاجئين، ولكن ربما لم يكونوا نشيطين، ومنحتهم التقدير والدعم حتى قاموا بتنظيم وفتح منازلهم محلياً"، لكن كثيرين انتقدوا هذه الخطوة، وبخاصة بعد وصول ما يقدر بنحو 1.2 مليون شخص إلى ألمانيا خلال العام ونصف العام التاليين.
وتسبب التدفق الكبير للاجئين في البداية في بعض المشاكل، وعزز من دور الأحزاب اليمينية المتطرفة المناهضة للهجرة والبحث عن وطن بديل مثل ألمانيا، لكن يبدو أن هذا الشعور كان مؤقتاً، إذ تلاشت الخلافات حول اللاجئين وبدأت سياسة الترحيب بهم تؤتي ثمارها اقتصادياً.
ومثل دول أوروبية أخرى، تواجه ألمانيا قنبلة ديموغرافية موقوتة، مع وجود عدد كبير من المتقاعدين وقلة عدد العمال. ووفق المعهد الألماني لسوق العمل والأبحاث المهنية، فإن 49 في المئة من اللاجئين في سن العمل الذين وصلوا إلى البلاد منذ عام 2013، تم توظيفهم اعتباراً من فبراير (شباط) من العام الماضي. وكان أكثر من نصف هؤلاء في وظائف تتطلب مهارات وأكثر من ثلثيهم يعملون بدوام كامل، بينما التحق 17 في المئة منهم في برامج تدريبية مدفوعة الأجر و3 في المئة تابعوا دورات تدريبية مدفوعة الأجر. وكان معظم الباقين إما يدرسون أو يبحثون بنشاط عن وظائف أو في إجازة أمومة أو والدية، فيما حصل نحو 85 في المئة من اللاجئين على دورات في اللغة الألمانية.