عند مشاهدة العرض المسرحي "وهنا القاهرة" عليك ألا تحمل معك "حقيبة النقد"، وعليك، كذلك، أن تكون مرناً في تعاملك مع العرض، ولا تفرض عليه تصوراتك عن المسرح... ناقش ما يقدم أمامك، لا ما كنت تود أن يقدم، واعلم أن كل ما هو تقليدي ومكرور ومتوقع، لم يعد صالحاً لإثارة الدهشة.
عرض "وهنا القاهرة" الذي قدمته إحدى الفرق المستقلة التي تطلق على نفسها "فرقة المسرح الخطير"، على مسرح الجامعة الأميركية بالقاهرة، ضمن فعاليات المهرجان القومي للمسرح المصري من 27 سبتمبر (أيلول) حتى 9 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، من كتابة وإخراج رشا الجمال، وهو عرض مختلف جداً، وهذا ليس حكماً بالقيمة، فالاختلاف وحده ليس كفيلاً بصناعة عرض مسرحي جيد، المهم أن يكون هذا الاختلاف عن معرفة، لا عن قلة حيلة. اختلاف العارف لا الجاهل، العارف بماهية المسرح، والممتلك لأدواته، والذي سعى، بمعرفته هذه، إلى الانحراف عن السائد والمألوف، وحاول الخروج من صيغة اعتبرها أضيق من أن تتسع لتجربته ورؤيته للعالم، إلى صيغة أخرى أكثر رحابة، وأكثر اتساقاً مع ظرفه التاريخي الذي يحياه، ومشكلاته التي تؤرقه، ويحياها بشكل يومي.
مشاهد وفواصل
ستة مشاهد، أو ست قصص، لا رابط مباشر بينها، يضمها العرض، وهي: "الشيطان همام"، عن البلطجة التي يمارسها البعض، و"بنت لابسة ليموني"، عن التحرش بالفتيات، و"حوت مدينة نصر" عن النصب والاحتيال، و"نشيد الولد" عن سعي الأمهات لتأمين مستقبل أولادهن، و"40 شتا"، عن أحلام الشباب المجهضة، و"اطلع فوق انزل تحت"، عن الصراع الطبقي وصعود من يطلقون عليهم "أغنياء الحرب"، فضلاً عن بعض الفواصل الكوميدية. كل هذا يشكل معاً رؤية هذه المجموعة من الشباب لواقعهم، وسعيهم إلى إيقاظ وعي المتلقي، في شكل بسيط وغير مباشر، وساخر في كثير من الأحيان.
لا قضايا كونية كبرى يناقشها العرض، لكنها في الوقت نفسه تمس المشاهد، فيجد ذاته فيها، أي يجد صورته/ قضيته، مجسدة أمامه على خشبة المسرح، بخاصة أنه يحياها يومياً. فالمشاهد تدور حول السعادة والطمع والإحباطات، ومشاكل البنات، والاصطدام بالواقع الخشن، والتحرش، والصراع الطبقي، وخوف الأمهات على أبنائهن، وما إلى ذلك من مشكلات يومية يلمسها المشاهد عن قرب... كل ذلك من خلال أحداث يومية معروفة ومتداولة.
صورة المدينة
قبل بداية العرض، هناك ما يمكن اعتباره تهيئة للجمهور، حيث تنساب، عبر أجهزة الصوت، بعض البرامج الإذاعية الشهيرة، وبعض الأغنيات الكلاسيكية التي تختلط بها، وهي مما يطلق عليها "أغاني المهرجانات"، وكأنها رثاء لزمن مضى، وإشارة إلى انتشار القبح والضجيج والزحام، الذي تعكسه بعض صور مدينة القاهرة تم بثها على أربع شاشات في عمق المسرح .
عنوان العرض "وهنا القاهرة"، وليس "هنا القاهرة"، ووجود الواو هنا ليس اعتباطاً، بل هو كفيل بالإشارة إلى قاهرة أخرى غير التي كانت، قاهرة أكثر ازدحاماً وضجيجاً وعنفاً وتشوهاً، وكأنه الحنين إلى القاهرة الأكثر رقياً وتحضراً وجمالاً، بل كأنه الرد على "هنا القاهرة" التي كانت تطلق على سبيل الفخر والاعتزاز بقاهرة المعز لدين الله الفاطمي، التي أسسها قبل 1053 عاماً من الآن.
ولعل الشاشات الأربع في عمق المسرح، تبث صوراً تتماس مع المشهد المقدم، ومنها صور من أفلام سينمائية أو لقطات لشوارع القاهرة قديماً، وكلها تم توظيفها لخدمة المشهد الحي، ولوضع المشاهد، دائماً، في مقارنة ليست في صالح حاضره، والهدف إيقاظ وعيه وتذكيره بوضعه الخطر الذي يحياه.
ديكورات محدودة
وكعادة الفرق المستقلة التي لا تحصل على دعم من الدولة، وتعتمد على إمكاناتها الذاتية، فهي لم تعتمد ديكورات بالمعنى المفهوم، سوى بعض القطع البسيطة التي يتم تدويرها (إعادة استخدامها) لخدمة هذا المشهد، أو ذاك، وبعضها يتم استخدامه بشكل ساخر، كأن يتم استبدال "عربة نقل القمامة" عند حمل أحد البلطجية بعد القضاء عليه، بـ"نقالة الإسعاف"، باعتبار أن عربة نقل القمامة هي الأليق به، وكل حلول لم تشعر المشاهد بوجود نقص ما على خشبة المسرح.
الممثلون، مارسيل ميشيل ميلاد، ومحمد سعدون، ومحمد صبري، ومحمد مجدي، ونادين خالد، ونديم، ووليد كمال، ومصطفى حسن منصور، وأكرم عماد لطفي، وشهد حازم، وجهاد حسام الدين، وعبدالله النحاس، لعب كل منهم أكثر من دور، نظراً إلى تعدد القصص، وغلبت الكوميديا على أدائهم، ولكن من دون افتعال، فالموضوعات التي تناولوها تثير الضحك والسخرية، بخاصة أن الكتابة نفسها اتسمت ببساطتها الشديدة وسخريتها اللاذعة، وهو ما وعاه الممثلون، فلم يبالغوا في الأداء، واكتفوا بالحدود الدنيا من التمثيل، باعتبارها كفيلة بتوصيل رؤية العرض.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولأن القضايا التي يثيرها العرض يمكن أن تنسحب على عامة الشعب، فقد اتسم نص العرض بحسه الشعبي، ولجأت الكاتبة المخرجة إلى فكرة الرواي. فأغلب الأحداث تدور من خلال راوٍ، أو رُواة، بينما توارت قليلاً المونولوغات، والديالوغات، وغلبت التقفية والتوقيع على معظم الجمل. كأننا أمام رُواة شعبيين، يتبعون تلك التقنية لجذب آذان المشاهدين، ولفت أنظارهم إلى أمور بعينها، أو كما كان يفعل لاعبو "القراقوز" قديماً بتقديمهم موضوعات تضرب في عمق السياسة، ولكن من خلال حيل وألاعيب تبعدهم عن المساءلة. ومن هنا يأتي مبرر تسمية الفرقة بـ"فرقة المسرح الخطير"، فهو بالفعل كذلك، وتكمن خطورته في إثارة موضوعات شائكة بالفعل، ولكن بشكل ساخر، يُحلّق من بعيد، ويستطيع تجاوز المحاذير الرقابية.
سلوكيات منحرفة
ولأن العرض يضم ستة مشاهد يتناول كل مشهد قضية بعينها، فقد اهتدت المخرجة إلى حيلة ذكية للربط بين المشاهد، باستخدام فواصل كوميدية عقب كل مشهد، تشتبك هي الأخرى مع موضوعات العرض. وهي فواصل تتناول سلوكيات خاطئة يرتكبها سكان المدينة، كالتحرش بالنساء، أو التبول على الأرصفة، كل ذلك بشكل ساخر وفي صميم العرض، ما يؤدي إلى ما يمكن اعتباره "وحدة الموضوع" على الرغم من اختلاف المعالجات من مشهد أو فاصل إلى آخر.
وعلى الرغم من سعي العرض إلى الاختلاف عن المسرح السائد، ومحاولته بناء ما يخصه، وما يخص هذه المجموعة من شباب الممثلين، فإنه لم يلجأ إلى استعارة أشكال أو تجارب غربية، بل لامس التراث المسرحي الشعبي بأشكاله المختلفة، ووظفه في طرح رؤيته، واعتمد قضايا معيشة. ومن هنا جاءت عناصر جذبه، وقدم وجبة مسرحية فيها من الضحك والتسلية بقدر ما فيها من الجدية والدعوة إلى إعمال الفكر وإعادة النظر في سلوكيات كثيرة خاطئة.