هل يمكننا الافتراض اليوم وقد مرّ من القرن الحادي والعشرين ما يزيد على خُمسه، أن النسيان الذي بات يلف عدداً من كبار مبدعي القرن السابق المناضلين هو إشارة إلى غياب القضايا الكبرى عن عالم اليوم، عن زمن الاستهلاك و"الأفكار السريعة" على نمط "الوجبات السريعة"؟ وعلامة على غياب القيم الإنسانية التي مهما قلنا عن القرن العشرين يبدو أنها ستبقى لصيقة به دون غيره من العصور؟ نقول هذا وفي ذهننا الكاتب الفرنسي جان جينيه الذي لا ريب أن ذكرى مئوية ولادته قد مرت قبل دزينة من السنين وسط صمت كئيب، كما مرت الذكرى الخامسة والثلاثون لرحيله في العام الماضي وسط صمت أكثر كآبة. ونقول هذا وعتبنا يتوجه إلى العرب أكثر مما إلى الفرنسيين مواطني جينيه، وذلك بالتحديد لأن جينيه كان ينبغي أن يعني للعرب بشكل خاص، ولكل معذبي الأرض بشكل عام، أكثر مما من شأنه أن يعني للأوروبيين على أية حال.
نسيان عربي محزن
فبالنسبة إلى القارئ العربي بصورة عامة، وإلى أبناء الثورة الفلسطينية في الربع الأخير من القرن العشرين بصورة خاصة، كان جان جينيه الكاتب الفرنسي الذي احتضن القضية الفلسطينية أكثر من أي كاتب فرنسي آخر. هو الذي وضع كتاب "الأسير العاشق" عن تجربته في المخيمات الفلسطينية، كما أنه هو الذي وضع ذلك "النص - الشهادة" الرائع حول مجازر صبرا وشاتيلا. أما بالنسبة إلى قارئه الفرنسي، فإن جينيه هو ذلك الكاتب الذي عاش كالمتشرد، ومات وحيداً في غرفة فندق متواضع، والمؤلف الذي كرس أعماله كلها تقريباً للحديث عن المهمشين والضعفاء والمضطهدين في كل مكان. وفي هذا الإطار كان كل نص يكتبه جان جينيه، وهو لم يكتب كثيراً على أية حال - بالكاد عشرة كتب كبيرة خلال خمسين عاماً - كان هذا النص أشبه بالفضيحة للسلطات والمجتمع. ففي كتاباته وقف جينيه، وهو الذي ارتاد السجن منذ شبابه، إلى جانب اللصوص والفقراء، مبرراً تصرفاتهم، ووقف إلى جانب الخدم ضد سادتهم، وإلى جانب الثوار الجزائريين ضد السلطات الفرنسية... ووصل به الأمر إلى أن يعلن مناصرته لثورة الفهود السود في أميركا، ثم انتقل إلى تأييد الثورة الفلسطينية غير آبه بشتى أنواع الضغوط التي جابهته. وكيف يأبه كاتب تمكنت مسرحيته "السواتر" التي وضعها عن الثورة الجزائرية في عز احتدام تلك الثورة، من أن تقلب باريس كلها وتحرك شوارعها، سلباً وإيجاباً، حين عرضت؟
عدو مجتمع النفاق والقوة
كان جان جينيه، رجل مشاكسة وعدو مجتمع النفاق والقوة. واللافت هنا أن جينيه لم يأتِ من وسط بورجوازي متخلياً عن طبقته، كما يحدث عادة بالنسبة إلى المثقفين من طرازه، بل أتى من صفوف البؤس والفقر، وعرف - في سجلات البوليس - منذ صباه كسارق وخارج عن القانون. وهو، بهذه الصفة ثم بقدرته على كتابة هذا كله، بهر المناخ الثقافي الفرنسي إلى درجة أن جان بول سارتر وضع عنه كتاباً عنونه "جان جينيه قديساً وشهيداً". إذاً، جينيه الذي عانق كل القضايا وتبناها، وناصر العرب وأفريقيا والضعفاء إلى درجة أنه حين مات في عام 1985 أوصى بأن يدفن في الأرض الأفريقية - في المغرب - فكان له ما أراد، ولكن مع فارق لم يكن في الحسبان، حيث لاحظ الكاتب المغربي الطاهر بن جلون في نص كتبه عن رحيله، أنه مدفون على حافة البحر في بلدة الأعراش "بين ماخور سابق وسجن حالي"! غير أن الرجل لم يكن مناصراً للقضايا من دون قيد أو شرط. ومن هنا كان من الطبيعي، حتى للضحايا الذين دافع عنهم في كتاباته - فلسطينيين وجزائريين أو سوداً أميركيين ومهمشين آخرين في مجتمعات القوة - أن يقفوا ضده منتقدينه بين الحين والآخر، وهو ما كان هذا ليزعجه أبداً على أي حال. ومن بين الأعمال التي كتبها جان جينيه يمكننا هنا أن نتوقف عند واحدة من أبرز مسرحياته وأقدمها، "الزنوج"، وهي مسرحية قدمت للمرة الأولى في عام 1959، وأثارت على الفور لغطاً وضجة، ذلك أن موضوع المسرحية كان العنصرية، وهو واحد من المواضيع التي كانت لا تزال شبه محرمة في ذلك الحين. فالعنصرية، بالنسبة إلى مجتمعات أوروبا المطمئنة إلى ذاتها، كانت هناك في البعيد، في أميركا وفي أفريقيا. فإذا بجينيه جاء ليقول: "وماذا لو كانت العنصرية تعيش هنا وتترعرع بيننا؟!".
في غياب الأحداث الكبرى
ليس في مسرحية "الزنوج" حدث معين. إنها أشبه بفرجة استعراضية تقوم على أساس محاكمة نظرة الأبيض إلى الزنوج. وذلك من خلال محاكمة تجري أمام المتفرجين على خشبة المسرح لقاتل أسود متهم باغتصاب امرأة بيضاء وتنتهي بمجموعة من منتحرين وميتين هم القضاة أنفسهم، إضافة إلى محاكمة أخرى تجري في الكواليس وكل هذا في حضور ملكة وقضاة ومسؤولين لا يعرف أحد على أية حال لماذا هم هنا وماذا يفعلون وما هو دورهم في الحكاية كلها، لكننا نعرف أنهم في نهاية الأمر يشكلون جزءاً يبدو أن لا مهرب من حضوره في هذا الحفل المسرحي الذي يكاد يكون لعبة مرايا مزدوجة وحتى مثلثة سرعان ما يكتشف جمهور المتفرجين في الصالة أنه جزء منها، شاء ذلك أم أباه. ويكتشف أن من غير وجوده لا يمكن لشيء أن يكون ممكنا. ولكنه ليس جمهوراً متفرجاً فقط، بل هو جمهور فاعل، أو حتى "مفعول به" و"مفعول لأجله" أيضاً، كما يقال في دروس قواعد اللغة العربية.
محاكمة الجمهور الأبيض
لقد أبدى جينيه على الدوام أمله في أن تقدم هذه المسرحية من قبل فنانين من السود، ولكن أمام جمهور أبيض "فهذا الجمهور هو المعني بها أكثر من غيره". وأضاف جينيه مرة: "أرغب مثلاً في أن يكون بين الحضور في الصالة ولو شخص أبيض واحد تسلط عليه الأضواء ويفهم أن هذه المسرحية إنما تقدم له". فبالنسبة إلى جينيه، واضح أن السود يعرفون ما يعانون، يعرفون اضطهادهم، حالياً وتاريخياً، وليسوا في حاجة إلى كاتب أبيض يأتي ليثير لديهم الوعي. البيض هم في حاجة إلى مثل هذا الوعي. وما يقوله جينيه هنا، ينطبق أيضاً، مثلاً، على كتاباته عن فلسطين، فهو لم يكتبها للفلسطينيين، بل للغرب وللإسرائيليين. أما مسرحيته عن الثورة الجزائرية فليس الجزائريون من هم في حاجة إليها. الفرنسيون هم المعنيون بها، وهكذا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أقنعة للرجل الأبيض
إن الخصم هو المعني، والخصم يبقى في الصالة لا يمكنه أن يلعب دوره. إذاً، في مسرحية "الزنوج" سيضع الزنوج هؤلاء على وجوههم أقنعة تجعلهم يمثلون أدوار البيض، شرط أن يبرز من خلال القناع ما يؤكد كونهم في الأصل سوداً. إن أسود سيلبس قناع الحاكم، وأسود آخر سيلبس قناع الملكة، وثالثاً قناع القسيس والقاضي... وما إلى ذلك، وفي لحظة من لحظات العرض يجب أن تسقط الأقنعة، في شكل يحدث لدى المتفرج الأبيض في الصالة تلك الصدمة التي تضعه أمام مرآة نفسه. فمرة أخرى، بالنسبة إلى جان جينيه (1909–1985)، ليست المسألة أن يأتي كاتب أبيض من الغرب ليقول للمضطهدين إنكم مضطهدون: "هم يعرفون هذا. أما من هو في حاجة إلى اكتساب الوعي، فهو نحن الذين نهبنا خيرات الأمم واخترعنا العنصرية وغزونا بلاد الناس، وأخرجنا السكان الأصليين من أراضيهم لنحولهم إلى لاجئين". وإذا كان جان جينيه قد وعى كل هذا، فذلك لأنه، إذ سرق وأودع السجن ووقف دائماً على هامش المجتمع، صار في وسعه أن يضع نفسه داخل جلد الرجل الأسود، وداخل جلد الجزائري وداخل جلد الفلسطيني، وحتى داخل جلد الخادم كما في "الخادمتان"، وهي مسرحيته الأشهر، والأكثر ارتباطاً بالمجتمع الفرنسي، وقد كان يرى أن هذا التحول الدائم هو قدر الكاتب ومهمته.