قبل اندلاع جائحة "كوفيد-19"، كانت واشنطن تلتئم حول إجماع جديد بين الحزبين أساسه أن المنافسة بين القوى العظمى، وبخاصة مع الصين، ينبغي أن تكون المبدأ الرئيس المنظم للسياسة الخارجية للولايات المتحدة. بالنسبة للبعض، أثارت الجائحة الشكوك في هذه الفكرة باعتبار أن التهديدات العابرة للحدود تشكل خطراً أكبر على الجمهور الأميركي من القوى المنافسة الصاعدة. ولقد جادل المشككون في تنافس القوى العظمى، مثل السيناتور بيرني ساندرز، وهو مستقل عن ولاية فيرمونت، بأن الولايات المتحدة يجب أن تسعى إلى تهدئة التوترات مع الصين حتى يتمكن البلدان من العمل معاً لإدارة المخاطر العابرة للحدود مثل الأوبئة وتغير المناخ.
لكن النقاش حول ما إذا كانت منافسة القوى العظمى أم التهديدات العابرة للحدود هي التي تشكل خطراً أكبر على الولايات المتحدة هو نقاش خطأ. بالنظر إلى التقييمات الاستراتيجية قبل عشر سنوات حول الصين وروسيا، من ناحية، وبشأن الأوبئة وتغير المناخ، من ناحية أخرى، من الواضح أن واشنطن تشهد أسوأ السيناريوهات تقريباً على الجانبين. وعلى الرغم من أن التنافس بين القوى العظمى لم يؤد إلى اندلاع حرب ساخنة بعد، يبدو أنه على وشك إشعال فتيل حرب باردة. وبينما تستمر أسوأ جائحة منذ قرن، تزداد أزمة المناخ تفاقماً.
إن ما أظهرته جائحة كورونا بقوة هو أننا نعيش في عصر تهديدات عابرة للحدود ومنافسة بين القوى العظمى– وهو عصر تُفاقم فيه الظاهرتان بعضهما البعض. منذ اندلاع الوباء، أصبحت الحكومة الصينية مهووسة بإحكام قبضتها على السلطة ورفض التعاون مع المجتمع الدولي لمحاربة الفيروس. من جانبها، قدمت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب الأبعاد الدولية لاستجابتها للوباء بشكل حصري تقريباً في إطار التنافس مع الصين، ما أدى إلى إخماد أي أمل في تعاون متعدد الأطراف، حتى مع الديمقراطيات الأخرى. في ذروة الوباء، أصبحت منظمة الصحة العالمية ساحة للتنافس بين الولايات المتحدة والصين، تاركة بقية العالم يدافع عن نفسه.
سيشكل التنافس بين القوى العظمى والتهديدات العابرة للحدود سياسات الولايات المتحدة المتعلقة بالأمن القومي والخارجي في السنوات المقبلة، ولا يمكن لواشنطن التقليل من شأن أحدهما بهدف التعامل بشكل أفضل مع الآخر. في هذا الصدد، لن تنجح محاولة تخفيف التوترات مع الصين من أجل التعاون في مجال الصحة العامة العالمية، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن بكين لا تستطيع الالتزام بمصداقية بأن تكون أكثر شفافية وتعاوناً في المستقبل. وبصورة مماثلة، لن يؤدي احتدام المنافسة مع الصين- من دون خطة لحشد العالم ضد التهديدات العابرة للحدود (التي يمكن أن تغذي المنافسة بين القوى العظمى)- إلا إلى كوارث في المستقبل.
تحتاج الولايات المتحدة إلى استراتيجية للتعامل مع التهديدات العابرة للحدود في ظل ظروف المنافسة بين القوى العظمى. ينبغي عليها السعي للتعامل مع الخصوم، وبخاصة الصين، للتأهب لمواجهة الأوبئة في المستقبل والتصدي لتغير المناخ. ولكن في حال فشل التعاون، يجب أن تكون لديها خطة احترازية لحشد الحلفاء والشركاء لتوفير نسبة كبيرة جداً من المصالح العامة العالمية، حتى لو كان ذلك يعني تحمل المزيد من التكاليف. لن يكون أي من هذا سهلاً، لكن كل ذلك ضروري.
السرية والبقاء
لقد فاقم التنافس بين الولايات المتحدة والصين من حدة الجائحة، فيما فاقمت الجائحة بدورها التنافس الأميركي – الصيني، وأدت إلى إعاقة التعاون الدولي بشكل عام. لكن التأثير السلبي المتبادل بين تنافس القوى العظمى والتهديدات العابرة للحدود كان واضحاً حتى قبل "كوفيد-19". خلال العقد الذي تلى وباء السارس في 2002-2004، طورت الولايات المتحدة والصين علاقة تعاون بشأن الصحة العامة العالمية. وعشية الجائحة الحالية، كان لدى الولايات المتحدة عشرات من المتخصصين في الصحة العامة متمركزين في سفارة الولايات المتحدة في بكين. كانوا ينتمون إلى مؤسسات أميركية مثل مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها (CDC) ووزارة الصحة والخدمات الإنسانية، والمعاهد الوطنية للصحة والأغذية، وإدارة المخدرات. كان من بينهم فريق من نحو 12 مسؤولاً من مراكز السيطرة على الأمراض يعملون على التأهب للأمراض المعدية والأوبئة. (كانت إدارة ترمب قد سحبت عدداً من المسؤولين الصحيين العاملين في مجال الإيدز والممولين من خلال خطة الطوارئ الرئاسية لإغاثة بلدان مثل أوغندا، لكن فريق السفارة الذي كان يعمل على التأهب للوباء ظل في مكانه).
في كتاب "الهزات الارتدادية" الذي ألفته مع محلل السياسة الخارجية كولن كال، أخبرنا عدد من مسؤولي السفارة الأميركية أن تعاون هذا الفريق مع الحكومة الصينية أصبح أكثر صعوبة مع اشتداد التنافس بين الولايات المتحدة والصين، إلى حد كبير بسبب تصرفات الصين. في عامي 2018 و2019، على سبيل المثال، رفض المسؤولون الصينيون مشاركة عينات كاملة من سلالة إنفلونزا الطيور المعروفة باسم H7N9 مع "المراكز المتعاونة" التابعة لمنظمة الصحة العالمية لمكافحة الإنفلونزا، وهو الأمر الذي كان مُحبطاً لنظرائهم الأميركيين. في ذلك الوقت، اعتقد خبراء الصحة العامة أن هذا النوع من الإنفلونزا، أو مُتحوراً منه، قد يكون مصدر الجائحة العالمية التالية.
كما ازداد تردد مسؤولو الصحة العامة الصينيون في التعامل مع نظرائهم الأميركيين. في عام 2019، نظمت السفارة الأميركية في بكين حدثاً للاحتفال بمرور 40 عاماً على العلاقات الأميركية الصينية. خطط المسؤولون الأميركيون لتسليط الضوء على التعاون في مجال الصحة العامة - الذي يُنظر إليه على نطاق واسع كقصة نجاح في علاقة ثنائية مضطربة في بعض الأحيان. وبينما كان من المقرر أن يتحدث العديد من مسؤولي الصحة العامة الصينيين في ذلك الحفل، ألغى جميع المسؤولين الصينيين مشاركاتهم في الحفل قبل 24 ساعة من انطلاقه، وسط تصاعد التوترات التجارية. كان ذلك نذير شؤم بما سيأتي.
عندما اندلع "كوفيد-19"، أحاط الحزب الشيوعي الصيني الجائحة بسرية شبه مطلقة وسكتت جميع قنوات التواصل بين بكين وواشنطن، كما حدث بين بكين والحكومات الأخرى. سعى القادة الصينيون لإخفاء المعلومات الحيوية حول الوباء المستجد في الصين عن بقية العالم، إلى درجة أنهم حاولوا منع العلماء الصينيين من مشاركة التسلسل الجيني للفيروس مع العلماء في البلدان الأخرى. (لكن عالماً صينياً خالف الأمر عن عمد وتعاون مع نظيره الأسترالي). كما ضغطت بكين على منظمة الصحة العالمية لكي لا تعلن المرض "حالة طوارئ صحية عامة تثير قلقاً دولياً،" وهو تصنيف رسمي كان سيتطلب استجابة دولية منسقة، ولكي لا تدعم وضع قيود السفر على الصين، أو تبقى حتى على الحياد بشأن ذلك.
أوضحت جائحة كورونا بقوة أن هذا العصر هو عصر التهديدات العابرة للحدود والتنافس بين القوى العظمى.
وضعت تصرفات الحكومة الصينية منظمة الصحة العالمية في موقف حرج وقيدت خياراتها. خلال وباء السارس، انتقدت المديرة العامة لمنظمة الصحة العالمية غرو برونتلاند، تستر الحكومة الصينية على تفشي المرض ورفضها التعاون الكامل مع المجتمع الدولي. ساعدت هذه الاستراتيجية في إقناع بكين بتغيير مسارها والانخراط مع منظمة الصحة العالمية في نهاية المطاف. لذا كانت الولايات المتحدة تأمل في أن تستخدم منظمة الصحة العالمية نفس الأسلوب بشأن "كوفيد-19" وتنتقد الصين علانية- أو على أن ترفض الإشادة بالصين- بسبب رفضها التعاون.
لكن كبار المسؤولين في منظمة الصحة العالمية اعتقدوا أن الرئيس الصيني شي جينبينغ كان أكثر استبداداً وأقل استجابة للضغط الخارجي من أسلافه، وإذا حاولوا انتقاده، فمن المحتمل أن يُغلق عليهم تماماً. كما اعتقد مسؤولو منظمة الصحة العالمية أن العمل مع الصين هو الأمل الوحيد لوقف الفيروس، وإذا تطلب ذلك الإطراء العلني على بكين، فليكن– وهو تقدير موقف وضع منظمة الصحة العالمية في مسار تصادمي مع الولايات المتحدة.
يستحيل القول على وجه اليقين لماذا تصرفت الحكومة الصينية بالطريقة التي تصرفت بها، لكن السرية والسيطرة هما سببان منطقيان في ضوء ما تراه الغالبية العظمى من الخبراء الصينيين من أن الأولوية القصوى للرئيس شي هو بقاء النظام. لم يرغب شي في تسهيل استجابة عالمية لـ"كوفيد-19" والتي يمكن أن تلقي اللوم على بلاده وتعزلها من خلال قيود السفر، وكلاهما قد يضر بشرعية النظام على الصعيد المحلي. وبدلاً من التعاون، سخر شي الوباء لصالحه، وأصبح قمع الصين للفيروس مصدر فخر وطني، وهو ما تقدمه بكين كنقيض حاد لتجربة الولايات المتحدة.
بمجرد أن سيطرت الصين على الفيروس في الداخل، أصبحت أكثر حزماً في سياستها الخارجية. وربطت المساعدة في مكافحة الأوبئة، وفي وقت لاحق، الحصول على لقاحها بالإشادة العلنية بالصين واتخاذ خيارات سياسة مواتية مثل الانخراط معها في المكون الصحي لمبادرة الحزام والطريق. كما ردت على سعي أستراليا لإجراء تحقيق دولي في أصل "كوفيد-19". وبينما كان العالم يتخبط في الجائحة، فرضت الصين قانوناً صارماً للأمن القومي على هونغ كونغ، وأثارت خلافاً حدودياً مميتاً مع الهند، وانخرطت في دبلوماسية "الذئب المحارب" في جميع أنحاء العالم من خلال ردود قوية على الانتقادات، بما في ذلك عن طريق الترويج للأكاذيب ومعلومات مضللة. بالنسبة لقادة الصين، كشف الوباء عن تراجع للغرب لا يمكن تلافيه، وأكد قوة بكين وقدراتها وخلق مجالاً أكبر للحزب الشيوعي الصيني للتصرف بحرية.
نقطة تحول
لقد أثرت الجغرافيا السياسية أيضاً على طبيعة استجابة الولايات المتحدة لـ"كوفيد-19". وعلى عكس الاعتقاد السائد، أدرك بعض كبار المسؤولين في إدارة ترمب بشكل أسرع من نظرائهم الأوروبيين التهديد للأمن القومي الذي يشكله الفيروس. ولقد بدأ كبار المسؤولين في مجلس الأمن القومي التركيز على الوباء في أوائل يناير، بعد أيام فقط من انتشار أخبار تفشي المرض في ووهان الصينية. كانوا مهتمين بالوباء إلى حد كبير بسبب شكوكهم في النظام الصيني، حيث كان ماثيو بوتينجر، نائب مستشار الأمن القومي، قد غطى وباء السارس كصحافي في صحيفة "وول ستريت جورنال"، وشاهد كيف تقاطرت الأخبار من ووهان في أوائل عام 2020 من خلال عدسة تستر بكين السابقة. ولكن على الرغم من أن بوتينجر ومسؤولين آخرين في مجلس الأمن القومي كانوا متبصرين في التعامل مع الخطر، فإنهم فشلوا في نهاية المطاف في إقناع ترمب بالتأهب اللازم للتعامل مع الوباء عندما وصل إلى الولايات المتحدة في نهاية المطاف.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
طوال عام 2020، كانت إدارة ترمب تنظر إلى الأبعاد الدولية لـ"كوفيد-19" بالكامل تقريباً من منطلق التنافس بين الولايات المتحدة والصين. عندما بدأت الإدارة في صياغة ردها، تم استبعاد أو تهميش في لحظات حاسمة أولئك الذين فضلوا نهجاً أكثر شمولاً للتعامل مع الصحة العامة في الداخل والخارج. وكانت النتيجة تركيز إدارة ترمب بشكل أكبر على تحميل الصين مسؤولية تفشي المرض وتقليل اعتماد الولايات المتحدة على بكين، أكثر من تركيزها على تفاصيل سياسة الصحة العامة العالمية أو العمل الجاد لحشد العالم ضد للوباء.
من ناحة أخرى حفز "كوفيد-19" إدارة ترمب على تكثيف المنافسة مع الصين. عندما أبرمت اتفاقية المرحلة الأولى التجارية مع الصين في يناير (كانون الثاني) 2020، انقسمت إدارة ترمب إلى معسكرين: أحدهما يريد احتواء الصين والآخر يريد التركيز بشكل ضيق على الاختلافات الاقتصادية معها لا السعي وراء منافسة استراتيجية أوسع. ولقد تحدث ترمب باللغة المتشددة التي يفضلها فصيل الاحتواء، لكنه انحاز إلى المعسكر الذي يركز على القضايا الاقتصادية في إبرام اتفاقية التجارة. ومع ذلك، بحلول منتصف مارس، انضم ترمب إلى فصيل الاحتواء، مقتنعاً بأن الأزمة- وعمليات الإغلاق التي استلزمتها– أصبحت تهدد الآن آفاقه السياسية الشخصية.
حفزت جائحة "كوفيد -19" إدارة ترمب على تكثيف المنافسة مع الصين
أخبرني مسؤولان في إدارة ترمب فضلاً استمرار التعامل مع الصين أنه قبل "كوفيد-19"، كان ترمب يمارس الضبط على فصيل الاحتواء. لكن بمجرد أن رأى أن الفيروس بدأ يشكل تهديداً لفرص إعادة انتخابه، أصبح مستعداً لتأييد سياسات فصيل الاحتواء لمواجهة إصرار الصين. ووفقاً لمسؤول كبير آخر مرتبط بفصيل الاحتواء، ساعد الوباء واستجابة الصين له في توحيد الإدارة وراء استراتيجية أكثر شمولاً للرد على بكين. أشار هذا المسؤول إلى أنه بين مارس 2020 ونهاية العام، اتخذت الولايات المتحدة إجراءات احتواء أكثر مما اتخذته طيلة السنوات الثلاث السابقة، بما في ذلك فرض قيود على شركات التكنولوجيا الصينية، والعقوبات على المسؤولين الصينيين، وتخفيف القيود على الاتصالات الدبلوماسية مع تايوان، والاعتراف بالقمع في شينجيانغ باعتباره إبادة جماعية. بهذا المعنى، كان الوباء لحظة محورية في التنافس بين الولايات المتحدة والصين.
لقد طغت المنافسة بين البلدين على كل شيء آخر، بما في ذلك تعاون الولايات المتحدة مع الحلفاء بشأن الوباء، مما ترك فراغاً في القيادة العالمية لا يمكن لأحد أن يملأه. لم يتمكن وزراء خارجية دول مجموعة السبع من الاتفاق حتى على بيان رسمي في مارس 2020، وتم إلغاء قمة قادة مجموعة السبع في يونيو ولم تتم إعادة جدولتها أبداً خلال رئاسة ترمب. حاول الاتحاد الأوروبي التعجيل بزيادة التمويل لمنظمة الصحة العالمية و"كوفاكس"، المبادرة العالمية لمشاركة اللقاحات، لكنه لم يقترب أبداً من تنظيم استجابة عالمية. في المقابل، أغاظت السياسة الخارجية الحازمة للصين، ومحاولاتها استخدام المساعدة الوبائية لتعزيز مصالحها، القادة الأوروبيين وأقنعتهم بتشديد مواقفهم تجاه الصين طوال عام 2020.
خلال هذه الفترة، لم يكن هناك أي تعاون دولي تقريباً بشأن تطوير اللقاح أو توزيعه، ولم يكن هناك تنسيق بشأن قيود السفر أو توزيع الإمدادات الطبية، وكان هناك تعاون محدود لوقف الأعمال العدائية في مناطق النزاع. ولقد أدى الاضطراب الاقتصادي الناجم عن "كوفيد-19" إلى تدمير البلدان منخفضة الدخل، والتي لم تتلق سوى القليل من المساعدات الدولية. وكانت البلدان المتضررة بشكل خاص، مثل بنغلاديش، هي تلك التي حققت مكاسب إنمائية كبيرة في العقدين الماضيين ورفعت نفسها إلى الطبقة الدنيا من الاقتصادات المتوسطة الدخل. في هذا الصدد، وجدت مؤسسة بيل وميليندا غيتس أنه في غضون 25 أسبوعاً فقط، عكس الوباء 25 عاماً من التقدم الذي تم تحقيقه في تغطية التطعيم، الذي يعتبر مؤشراً رئيساً للصحة العامة. ووفقاً للأمم المتحدة، يمكن للوباء أن يدفع 490 مليون شخص إلى الفقر– الذي يُعرف على أنه فقدان المياه النظيفة أو الغذاء الكافي أو المأوى- مما يؤدي إلى ارتفاع معدل الفقر العالمي إلى حوالى سبعة في المئة بحلول عام 2030، مقارنة بالهدف المرسوم قبل الجائحة والمتمثل في ثلاثة في المئة.
إسفين المناخ
إن الأوبئة ليست التهديد الوحيد العابر للحدود الذي يُنذر باحتدام المنافسة بين القوى العظمى وتضاؤل احتمالات التعاون الضروري، حيث يمكن لتغير المناخ أن يفعل الشيء نفسه. لقد أدى الانكماش الاقتصادي العالمي الناجم عن الوباء إلى انخفاض قصير ومتواضع في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون والغازات الأخرى المسببة للاحتباس الحراري، لكن هذه الانبعاثات بدأت سلفاً في الارتفاع مرة أخرى. وفقاً للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، وهي الهيئة الدولية للخبراء التي تمثل الإجماع العلمي بشأن المناخ، فإن حرارة الأرض تتجه للارتفاع بنحو ثلاث درجات مئوية بحلول نهاية القرن- وهو معدل وحجم تغيير قد يكون كارثياً، بحسب تحذيرات العلماء. وفي غياب عمل تعاوني جذري، سيشهد العالم مزيداً من حالات الجفاف وتكرار حرائق الغابات والمزيد من الأعاصير والعواصف والفيضانات الشديدة، والمزيد من انتقال الأمراض من الحيوانات إلى البشر، وغرق العديد من المناطق الساحلية والدول المنخفضة بسبب ارتفاع مستوى سطح البحر، ما سيؤدي إلى نزوح مئات الملايين من الناس وتدمير المحيطات والنظم البيئية الأرضية.
بدلاً من توحيد العالم حول هدف مشترك، من المرجح أن يؤدي تغير المناخ إلى تعميق المنافسة بين القوى الكبرى، بخاصة وأن التحول عن الوقود الأحفوري يخلق رابحين وخاسرين اقتصادياً. ويمكن للبلدان المناهضة بقوة للكربون أن تفرض عقوبات وقيوداً تجارية على البلدان التي لا تحارب انبعاثات الكربون، مما سيؤدي إلى ردود فعل مضادة وحروب تجارية جديدة. ففي تقرير صدر، أخيراً، عن المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، أشار جانكا أورتل وجنيفر تولمان وبيفورد تسانغ إلى ازدياد عوائق التعاون بين أوروبا والصين بشأن تغير المناخ وحذروا من أن "صُناع القرار يجب ألا يقللوا من شأن الجوانب التنافسية للغاية للتغير الذي تشهده الصين في إنتاج واستهلاك الطاقة".
ستتنافس الولايات المتحدة وأوروبا مع الصين في الوصول إلى المواد الخام وفي تطوير التكنولوجيات اللازمة لجعل اقتصاداتها محايدة للكربون، مثل المغانط والبطاريات والسيراميك عالي الأداء والصمامات الثنائية المشعة للضوء، من بين أشياء أخرى. وفي بعض هذه المجالات، تواجه الولايات المتحدة وأوروبا خطر الاعتماد على الصين، لذا سيرغبون في الاعتماد أكثر على أنفسهم أثناء تطويرهم التكنولوجيا النظيفة.
يمكن أن يؤدي تغير المناخ إلى إحداث شرخ في التحالف عبر الأطلسي إذا انتخبت الولايات المتحدة رئيساً آخر يسعى لتقويض الجهود المبذولة للحد من انبعاثات الكربون، كما فعل ترمب. وحتى إذا ظلت حكومة الولايات المتحدة متوافقة على نطاق واسع مع أوروبا فيما يتعلق بسياسة المناخ، فقد يستاء الأوروبيون إذا منع الكونغرس إجراءات مناخية هادفة مثل الالتزام بخفض انبعاثات الكربون أو الاستثمار في التكنولوجيا النظيفة. وهذا بدوره قد يقلل من رغبة أوروبا في المساعدة في دعم النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة.
حدود التعاون
يهتم بعض المحللين، من اليمين بشكل أساسي، بالجوانب الخارجية للتهديدات العابرة للحدود فقط لأنهم يريدون إلقاء اللوم بشأنها على الصين، كما يفعلون عندما يُلوحون بالتأثير الخبيث للصين على منظمة الصحة العالمية أو مسؤوليتها المحورية في مشكلة تغير المناخ باعتبار ذلك ورقة ضغط في التنافس الجيوسياسي. إنهم لا يحاولون حتى تقديم أجندة إيجابية للتعاون الدولي بشأن هذه التهديدات– ما يضمن حدوث خسائر بشرية فادحة وتزايد التوترات الجيوسياسية. يمكن أن يكون المرض المسبب للجائحة المقبلة معدياً مثل "كوفيد-19" ولكن قد يكون أكثر فتكاً ومقاوماً للتطعيم. في الوقت نفسه، فإن أزمة تغير المناخ تزداد تفاقماً.
في المقابل، يجادل محللون آخرون، من اليسار بشكل أساسي، بأن على الولايات المتحدة أن تترك جانباً التنافس مع الصين أو على الأقل أن تحاول تخفيف التوترات معها من أجل التعاون بشأن التحديات المشتركة. لكن من غير الواضح ما يقصدون بالضبط. من ناحية، إذا كانوا يقصدون تخفيف حدة الخطاب الأميركي من دون تقديم تنازلات جوهرية للصين، فمن الأفضل أن ينظروا إلى أوروبا، حيث كانت الحكومات أكثر استعداداً بكثير من إدارة ترمب للتعاون مع الصين، لكن الصين لم تتجاوب معهم. على العكس من ذلك، أصبحت الصين أكثر حزماً وصدامية في مقاربتها لأوروبا. من ناحية أخرى، إذا كانوا يقصدون تقديم تنازلات جيوسياسية كبيرة من جانب واحد للصين– مثل السماح لها بالاستحواذ على أراضٍ في بحر الصين الجنوبي، أو بشأن وضع تايوان- فلن تدفع الولايات المتحدة ثمناً باهظاً للغاية فحسب، بل من المحتمل أن تُشجع بكين من دون أن تضمن أي تعاون فعلي من قبلها بشأن الأوبئة أو تغير المناخ بما يتجاوز ما عرضته سلفاً. لذا فإن تقويض المصالح الأميركية عن عمد في أمور لا علاقة لها بالتهديدات العابرة للحدود ليس استراتيجية سليمة.
يمكن تجنب مواجهة مباشرة مع الصين– لكن لا يمكن تجنب المنافسة
لا يمكن تجنب منافسة استراتيجية مع بكين؛ لأنها متأصلة بعمق في النظام الدولي. ويرجع ذلك أساساً إلى أن الصين تسعى إلى توسيع نطاق نفوذها في آسيا على حساب الولايات المتحدة وحلفائها، الذين بدورهم يتمسكون بالتصدي لخطط بكين. وتنخرط الولايات المتحدة والصين أيضاً فيما أطلق عليه حديثاً جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي لبايدن "تنافس النماذج".
تسعى الصين إلى جعل العالم مكاناً آمناً للحزب الشيوعي الصيني وإلى إثبات فعالية نظامها. وهذا يستلزم التصدي لما تعتبره ضغوطاً من قبل الدول الديمقراطية الليبرالية يمكن أن تحبط أهدافها. من ناحيتها، تخشى الولايات المتحدة التداعيات السلبية للاستبداد الصيني على الصعيد الخارجي، مثل فرض الرقابة على الانتقادات الدولية لبكين أو تصدير أدوات القمع إلى دول أخرى. كما أن الولايات المتحدة قلقة أيضاً بشأن مصير ميزان القوة العسكري إذا وصلت الصين إلى تفوق دائم في تكنولوجيات أساسية. وحتى في الدبلوماسية، سيكون الخلاف مُزمناً في العلاقات الأميركية الصينية وسيؤثر على النظام الدولي الأوسع في المستقبل المنظور. في هذا الصدد، يمكن تجنب مواجهة مباشرة - لكن لا يمكن تجنب المنافسة.
تضع هذه المنافسة قيوداً حقيقية على التعاون. على سبيل المثال، في مجال الصحة العامة العالمية، هناك العديد من الدراسات حول كيفية تحسين الاستعداد للوباء، وتدعو هذه الدراسات قادة العالم إلى تعزيز منظمة الصحة العالمية بشكل كبير، بما في ذلك من خلال منحها نفس سلطة فرض القواعد الصحية الدولية التي تتمتع بها الوكالة الدولية للطاقة الذرية في فرض قواعد عدم انتشار الأسلحة النووية. لكن هذه التوصية ليست جديدة، حيث سبق أن أوصت العديد من مراجعات أداء منظمة الصحة العالمية خلال حالات الطوارئ الصحية السابقة، بما في ذلك وباء الـ"إيبولا" في غرب أفريقيا في 2014- 2016، بفرض عقوبات في حالة عدم امتثال الدول الأعضاء للوائح الصحية الدولية، لكن الدول الأعضاء لم تمنح هذه السلطة لمنظمة الصحة العالمية.
تكمن المشكلة في إقناع كل حكومة على الموافقة على آلية عقوبات قابلة للتطبيق عالمياً أو بعض آليات التنفيذ الأخرى. لن توافق الصين على أي إصلاح من شأنه أن ينطوي على عمليات تفتيش تدخلية في منشآت البحث العلمي لديها. وحتى إذا وافقت بكين على لغة غامضة تُفسر على أنها تسمح بهذه الإجراءات، فإن الدرس المستفاد من جائحة "كوفيد-19" هو أنها لن تفي بالتزامها عند حدوث أزمة.
عندما يفشل التعاون
إن الحاجة إلى التعاون بشأن التهديدات العابرة للحدود يجب أن تغير كيف تتنافس الولايات المتحدة مع الصين- وليس ما إذا كان ينبغي أن تتنافس معها. لا ينبغي للمسؤولين الأميركيين التخلي عن الصين بالكامل؛ وبدلاً من ذلك، ينبغي عليهم بذل جهد للعمل مع بكين بحسن نية، على الصعيدين الثنائي والمتعدد الأطراف. إن الاعتراف بأن هناك حدوداً صارمة للتعاون بين الولايات المتحدة والصين يختلف عن القول باستحالة التعاون. إن لدى الصين مصلحة في مجابهة الأوبئة وتغير المناخ، وقد تساعد الدبلوماسية بشكل متزايد. لكن التحدي الحقيقي هو تحديد ما يجب فعله عندما يكون التعاون مع الصين والمنافسين الآخرين أقل من المطلوب. في هذه الحالة تحتاج الولايات المتحدة إلى خطة احترازية لمواجهة التحديات المشتركة من خلال تحالفات الراغبين.
عندما يتعلق الأمر بالتأهب للوباء، فإن هذا يعني تقديم الدعم الكامل لمنظمة الصحة العالمية (بما في ذلك الضغط عليها لإجراء إصلاحات مطلوبة) ولكن أيضاً تشكيل تحالف من الدول ذات التفكير المماثل: تحالف عالمي للتأهب للوباء يجتمع بانتظام على مستوى رؤساء الدول ويعمل جنباً إلى جنب مع المنظمات غير الحكومية والقطاع الخاص، وأي دولة تقبل شروط العضوية يجب أن تكون قادرة على الانضمام. لكن يجب أن تكون هذه الشروط صارمة، وأن تتضمن التزاماً بالشفافية يتجاوز ما هو مطلوب حالياً بموجب اللوائح الصحية الدولية– وأن يتم، على سبيل المثال، منح مفتشي منظمة الصحة العالمية نوع السلطة التي يتمتع بها نظراؤهم في الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
سينكب أعضاء التحالف بشكل حاسم على تنسيق فرض قيود على السفر والتجارة، كلما أعلنت منظمة الصحة العالمية حالة طوارئ دولية للصحة العامة. كما سينسقون بشأن الرسائل العامة والجزاءات المالية والعقوبات. وتستهدف تلك الجزاءات والعقوبات الدول التي لا تفتح أبوابها بشكل كاف لمنظمة الصحة العالمية أو ترفض التعاون معها بشكل كامل. في هذا النسق، سيدعم التحالف منظمة الصحة العالمية ولن يحل محلها.
لكي ينجح أي تحالف من هذا القبيل، سيتعين على الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها تحمل نصيب أكبر بكثير من عبء توفير المصالح العامة العالمية. على سبيل المثال، كان من الممكن أن تلتزم مجموعة الدول السبع الكبرى في قمة يونيو بتطعيم العالم ضد "كوفيد-19"، بدلاً من مجرد تقديم الوعود بشراء وتوزيع 870 مليون جرعة لقاح، أي ما يقرب من 10 في المائة من الاحتياجات العالمية. يمكن للتحالف أيضاً أن يتقدم بشكل كبير لمساعدة الدول النامية على تطوير قدرتها على التأهب للأوبئة في المستقبل والاستثمار في العلاجات والتشخيص واللقاحات.
في ما يتعلق بتغير المناخ، فإن الوضع أكثر تعقيداً، إذ تعتبر الولايات المتحدة شريكاً لا يعتمد عليه كثيراً في هذا المجال. النسبة للصين، يمكن أن تجعلها غرائز البقاء من الناحية النظرية أكثر استعداداً للتخفيف من التهديدات المناخية من تعزيز منظمة الصحة العالمية. ويمكن أن تساعد المنافسة المستمرة والمنظمة مع الصين، الولايات المتحدة على بناء دعم الحزبين (الجمهوري والديمقراطي) للاستثمار في التكنولوجيا النظيفة التي من شأنها أن تمنع بكين من التفوق الدائم في هذا المجال. لكن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي سيحتاجان أيضاً إلى بناء تحالفات للراغبين في التعامل مع العواقب الأمنية الدولية لتغير المناخ المتسارع، مثل الظواهر الجوية الشديدة التي تهدد أعداداً كبيرة من الناس، ومعالجة أبعاد السياسة الخارجية للمناخ، بما في ذلك التعامل مع خطر زعزعة استقرار البلدان والمناطق التي تعتمد على صادرات النفط في حال التحول عن الوقود الأحفوري.
يتشكل هناك بشكل مستمر تكتلان منفصلان من القوى، واحد ديمقراطي إلى حد كبير تقوده الولايات المتحدة وآخر سلطوي تقوده الصين. هذان التكتلان مترابطان، ولكن تجتاحهما مشاعر الريبة والتنافس. يجب أن يكون التعاون عبر هذا الانقسام الخيار الأول في أوقات الأزمات المشتركة، ولكن كما أظهرت جائحة "كوفيد-19"، يجب أن تكون لدى التكتل الذي تقوده الولايات المتحدة دائماً خطة احترازية. في عام 2020، لم تكن لديها خطة كهذه، وهي بحاجة لإعداد خطة للأزمة المقبلة.
توماس رايت هو مدير مركز الولايات المتحدة وأوروبا في معهد بروكينغز، وهو مؤلف مشارك مع كولين كال، لكتاب "الهزات الارتدادية: السياسة الوبائية ونهاية النظام الدولي القديم"