تسود حالة من الترقب في سوريا، بشأن عملية عسكرية تركية كبرى على غرار التوغل العسكري الذي وقع في أكتوبر (تشرين الأول) 2019، ذلك بعد تصريحات رسمية من أنقرة هددت بالرد على هجمات استهدفت قواتها، أخيراً، في المناطق الواقعة تحت سيطرة القوات التركية والفصائل السورية الموالية لها في شمال البلاد.
وقال زير الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو، الأسبوع الماضي، إن تركيا "ستفعل ما هو ضروري لأمنها"، وذلك رداً على ما قال، إنه "زيادة في هجمات وحدات حماية الشعب الكردية السورية"، المدعومة من الولايات المتحدة. وسبق تلك التصريحات، تعليقات أخرى من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ذكر فيها أن هجوماً أسفر عن مقتل شرطيين تركيين، في وقت سابق من الشهر الحالي، كان "القشة التي قصمت ظهر البعير"، وإن أنقرة عازمة على القضاء على التهديدات المقبلة من شمال سوريا.
وأسفرت هذه التعليقات عن ترقب واسع لهجوم عسكري من تركيا من شأنه أن يفاقم محنة الأقليات في الشمال السوري، ممن فروا من بيوتهم وقراهم قبل سنتين عندما شنت أنقرة عملية توغل عسكري سيطرت على إثرها على شريط حدودي بطول نحو 120 كيلومتراً، وفق المرصد السوري لحقوق الإنسان. وأسفر التوغل العسكري التركي في عام 2019 عن تهجير ما يزيد على 300 ألف شخص من شمال شرقي سوريا، ما دفع الأمم المتحدة ومنظمات إغاثية وحقوقية إلى التحذير من كارثة إنسانية جديدة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واتهمت منظمة العفو الدولية، آنذاك، القوات العسكرية التركية وتحالف الجماعات المسلحة السورية المدعوم تركياً، بارتكاب انتهاكات جسيمة وجرائم حرب، بما في ذلك القتل العمد، والهجمات غير القانونية التي قتلت وجرحت مدنيين، خلال الهجوم. وفي حين نفت أنقرة مسؤوليتها عن تلك الجرائم، إلا أن المنظمة الحقوقية الدولية أكدت وجود أدلة دامغة. وطالب مجلس الأمن تركيا بالانسحاب من الشمال السوري.
تجدد سيناريو 2019
وبالنظر إلى هذا الماضي القريب، تتزايد المخاوف بين سكان الشمال السوري، وتحديداً الأقليات الدينية والعرقية من موجة جديدة من التهجير. وأعرب قادة مسيحيون سوريون، الأسبوع الماضي، عن مخاوفهم من تصاعد الهجمات التركية في شمال شرقي سوريا، قائلين، إن النشاط العسكري الأخير دفع العديد من المسيحيين وأفراد الأقليات الأخرى إلى ترك منازلهم بالفعل.
وأدى التوتر بين "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) التابعة للإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا من جهة، والقوات التركية والفصائل المسلحة المدعومة منها من جهة أخرى، إلى سلسلة هجمات منذ أغسطس (آب) الماضي. وقال مسؤولون عسكريون آشوريون في المنطقة، لوسائل إعلام أميركية، الأسبوع الماضي، إن تركيا نفذت هجمات على بلدة "تل تمر" ذات الأغلبية المسيحية والقرى المجاورة.
تغيير ديموغرافي
وحذرت رئيسة اللجنة الأميركية للحرية الدينية الدولية، نادين ماينزا في حديث لـ"اندبندنت عربية"، من أن "الاحتلال التركي للأراضي عبر شمال سوريا يمثل تهديداً خطيراً، ليس فقط للأقليات الدينية الضعيفة في تلك المنطقة، ولكن أيضاً للإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا نفسها". وأشارت ماينزا إلى ثناء اللجنة على الإدارة الذاتية- التي يقودها الأكراد- "لتعزيزها الحرية الدينية بشكل يسمح للمسلمين والمسيحيين والإيزيديين وغيرهم بممارسة دياناتهم علانية وحتى تغيير هوياتهم الدينية". وأضافت أن "تركيا والجماعات المدعومة منها، استهدفت المسيحيين والأكراد على وجه التحديد لتغيير التركيبة السكانية لشمال سوريا... ففي سبتمبر (أيلول) الماضي، أعرب سوريون مسيحيون عن قلقهم بشأن الهجمات على بلدة تل تمر ذات الأغلبية المسيحية، والتي استهدفت المدنيين".
وكانت وزارة الخارجية الأميركية أعلنت في يوليو (تموز) الماضي، فرض عقوبات على جماعة "أحرار الشرقية" المدعومة من تركيا، وهي "جماعة متورطة في نهب الممتلكات الخاصة للمدنيين ومنع النازحين السوريين من العودة إلى ديارهم"، وفق ماينزا. وأشادت اللجنة الأميركية للحرية الدينية الدولية بقرار وزارة الخارجية، وأكدت أن الجماعة المسلحة منعت المواطنين من العودة إلى ديارهم على أساس الانتماء الديني والعرقي، وهي متواطئة بشكل مباشر في "الانتهاكات ضد الأقليات الدينية والعرقية، بما في ذلك الاتجار بالنساء والأطفال الإيزيديين".
وقال سنحريب برسوم، رئيس حزب الاتحاد السرياني، "نحن نعرف سياسة تركيا للتغيير الديموغرافي. وقد سبق لها أن فعلت ذلك من قبل في عفرين ومدن أخرى... وهي تنفذها الآن في تل أبيض ورأس العين من خلال مجموعاتها التي تعمل بالوكالة. هذه هي سياسة أردوغان للتغيير الديموغرافي والتتريك في هذه المناطق كجزء من مشروعه الأكبر للاحتلال الكامل لشمال سوريا".
وأشار بسام إسحاق، رئيس المجلس الوطني السرياني، إحدى أكبر الجماعات السياسية المسيحية في سوريا إلى أن "القصف التركي لمناطق على الحدود السورية التركية أدى إلى نزوح عدد كبير من السكان، بمن فيهم العديد من المسيحيين الآشوريين"، مضيفاً أن "القصف التركي الأخير على مدينة تل تمر تسبب في شعور بعدم الاستقرار والقلق بين سكان المدينة، مما دفع العديد من السكان المسيحيين الآشوريين إلى الفرار".
قرى الخابور
قبل اشتعال الحرب الأهلية في سوريا عام 2011، كان عدد المسيحيين الذين يقيمون في شمال سوريا يقدر بأكثر من 130 ألف، وهو العدد الذي انخفض بشكل كبير إلى مئات أو عشرات الأشخاص بعد استيلاء تنظيم "داعش" الإرهابي على المنطقة عام 2015، ثم التوغل التركي عام 2019. وأفادت تقارير صحافية غربية، أخيراً، بأن نحو 35 قرية آشورية في وادي الخابور أصبحت مهجورة بالفعل.
ووفق رئيسة اللجنة الأميركية للحرية الدينية الدولية، فإن "هناك أدلة دامغة على أن سياسات تركيا التمييزية تجاه الأقليات الدينية في شمال سوريا، بما في ذلك الاستهداف المتعمد والتهجير القسري للسكان على أساس الدين والعرق، تنتهك القانون الدولي". وأشارت إلى أن الجماعات الحقوقية المحلية ولجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة بشأن سوريا تدعم هذا الرأي، مضيفة "أنه أمر واضح، تركيا تواصل استهداف القرى السريانية الآشورية في سوريا، ما أجبر بعض آخر السكان المتبقين الذين نجوا من الإبادة الجماعية على يد داعش، على الفرار".
واتهمت لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة حول سوريا في سبتمبر (أيلول) الماضي، الجماعات السورية المدعومة من تركيا بارتكاب جرائم حرب ضد المسيحيين والإزيديين والأكراد والأقليات العرقية والدينية الأخرى في شمال سوريا. وقالت منظمات حقوقية، إن هذه الجماعات تجري تغييراً ديموغرافي من خلال طرد السكان الأصليين من المنطقة.
مزاعم لا أساس لها
وتنفي تركيا بشدة هذه الاتهامات، إذ قال مصدر في وزارة الخارجية التركية لإذاعة "صوت أميركا" الأسبوع الماضي، إن تلك "المزاعم لا أساس لها". وأضاف المصدر الذي لم تذكر الإذاعة الأميركية اسمه، إنه "لطالما كان لتركيا سجل نظيف في حماية المدنيين والبنية التحتية المدنية خلال عمليات مكافحة الإرهاب في سوريا". وأضاف أن "على المجتمع الدولي التركيز بدلاً من ذلك، على الفظائع والقمع وجرائم الحرب التي يرتكبها حزب العمال الكردستاني/ وحدات حماية الشعب التي يسيطر عليها ما يسمى قوات سوريا الديمقراطية، والتي تستهدف جميع السوريين بغض النظر عن الخلفية العرقية والدينية". وأكد أن "تركيا ستواصل بحزم أنشطتها المناهضة للإرهاب ضد حزب العمال الكردستاني/ وحدات حماية الشعب أينما تعمل".
وتعتبر أنقرة القوات الكردية السورية فرعاً من حزب العمال الكردستاني المحظور الذي تصنفه تركيا تنظيماً إرهابياً، كما تصنفه واشنطن ضمن قائمة الإرهاب. غير أن وحدات حماية الشعب (القوات الكردية) هي حليفة للولايات المتحدة وساعدت في هزيمة "داعش".
وتقول ماينزا إنه "من السخف أن تستخدم الحكومة والجيش التركيين العلاقات السابقة بين وحدات حماية الشعب وحزب العمال الكردستاني كذريعة للهجمات. الولايات المتحدة تتمتع بعلاقة قوية مع القوة الأمنية في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، كجزء من التحالف العالمي لهزيمة داعش".
وفي اتفاقيات منفصلة مع موسكو وواشنطن في عام 2019، أوقفت تركيا هجومها في شمال شرقي سوريا مقابل انسحاب مقاتلي وحدات حماية الشعب على بعد 30 كيلومتراً جنوب حدودها، لكن أنقرة اشتكت منذ ذلك الحين مراراً من انتهاكات الجانب الكردي للاتفاق واتهمت البلدين بعدم الوفاء بالوعود.