لستُ كرويا، لكني شجعت بحماسة نادي الأهلي، في مدينتي بنغازي. حدث ذلك في أول الصبا، وكانت حماستي المتطرفة، تمنعني من حضور مباريات فريقي الأهلي مع الفرق الكبيرة، مثل نادي الهلال. ففي يوم المباراة، تصيبني حمى الخسارة، لذا أشغل نفسي بتخرصات لا منطق لها، وأدس نفسي في رمل غير المهتم، وأتقصى النتيجة، بخفاء المرعوب. وحين تكون الصاعقة، أنني هزمت، أقصد هزم الأهلي، أُبردُ الأمر وأهونه على نفسي، بأن ما حدث، كان يجب أن يحدث، وأنني كنت أتوقع ذلك.
هكذا تبين لي هذه السنة، أن على طريقتي، في سيناريو الصِبا ونادي الأهلي البنغازي، العرب وأمثالهم يتابعون جائزة نوبل، ما تخص الآداب خاصة. فالعرب وأمثالهم ليس لهم في غير الآداب نصيب، ومن ذا طفق الجمع يهلل، عقب فوز عبد الرزاق غورنا (قرنح)، الأفريقي ذو الأصول العربية! والأمر اللافت أن الجائزة، هذا العام، باغتت الجميع. فنوبل هذه المرة أضافت لنفسها بأن أضافت اسماً غير معروف، وكاتباً متميزاً وليس نجماً، إذ إن النجم هو ما يُلمع الجائزة عادة. وتأسيساً على ذلك، وجدتني أتلقط ما يتيسر، حول هذا الكاتب، مما قيل إن له، صفحة في السوشال ميديا، فيها لا يتعدى معجبوه المئة.
طبعاً، ليس ثمة عمل بشري من دون غرض، لكن غرض نوبل، في هذه، حقق المستوى المطلوب من هذه الجائزة، أي أنها وكدت كاتباً يتميز بمنزع الكاتب المبدع، لا المبدع النجم. فأسلوبه نسج يدوي، يركز على التفصيل، والتأني في ضم المفردات الاعتيادية، وجمله نحت خاص، فيها إيقاع الشفهي وإلقاء الحكاء، فالنزر اليسير مما ترجم، ينبض بهذه الخصوصية غير النمطية، بمعني لا تأتي بالعجب، بقدر ما تمنح المعتاد، روح المكتشف. والقليل الذي طالعت، يجعل الكاتب تحت نور الظل، فسرديته كلما اشتد نورها اشتدت ظلالها، لأنه يمزج ما بين الطريقة والموضوعة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لقد ترك غورنا، بعيداً من الأضواء، فنسج منواله وطريقته، وغرف من معين تجربته، كمهاجر قديم، حينما لم تكن الهجرة، هجرة غير شرعية! وفي قصة "أقفاص" (ترجمة أحمد جمال شرابي)، ينساب السرد، وتنسج اللغة في تدفق، محمول بحدث بسيط، ومن دون تكلف، تنمو القصة والحدث معاً، ومن دون تفاصيل، نشتبك في العلاقة بين حميد والفتاة، ونستقي من هذا المسكوت عنه، ونعرف بعمق، المؤشر إليه، الهجرة، التيمة الرئيسة في كتابات غورنا، هي الروح التي لا نتبينها، لكنها تتجسد كظلال الشخصيات.
لقد هاجر غصباً، من جزيرة مُسْتَعمَرة إلى جزيرة مُسْتعمِرة، وهكذا عجنته اللغة الإنجليزية وكوّنته ثقافتها، باعتباره زنجبارياً مسلماً، أي زنجي. وعن السواحلية كلغة أولى، ومن مكون ذاكرته، يقول غورنا "الكتابة المعاصرة الوحيدة، بالسواحلية التي وعيتُها، كانت قصائد قصيرةً، منشورةً في الصحف، وبرامج القصص الرائجة، على المذياع، أو كُتب القصص النادرة". لعل هذا ما شفّ، عن أصالته ككاتب، حيث يقول "بدأتُ الكتابة، خلال السنوات القليلة الأولى، من إقامتي في إنجلترا، حين كنت في سن الحادية والعشرين، وبمعنى ما، تعثرتُ بالكتابةِ مُصادفةً، ولم تكن تنفيذاً لخُطة ما، لقد بدأتُ الكتابة عرضاً، مثقلاً بالمعاناة، من دون أي خطة، بل مدفوعاً بالرغبة، في قول مزيد فحسب" (الكتابة والمكان، ترجمة حيدرة أسعد). والمصادفة، توصم حياة المهجرين، وفلسفة وجودهم، حتى أن نوبل صدفة تلقاها غورنا، كما دهشة العالم أيضاً، فهو كاتب مغمور، معجب بالصمت. وفي مقال أليكس شيبرد "لماذا فاز عبد الرزاق غورنا بجائزة نوبل في الآداب؟" (ترجمة عبد الرحيم يوسف)، كتب "روايات غورنا نفسها مجهولة، إلى حد كبير خارج بريطانيا، وليست معروفة تماماً داخلها. وعلى الرغم من أن الناشرين الأميركيين، نشروا أعماله في الماضي، إلا أن حقوق طبع كل عناوينه تقريباً، قد أعيدت إلى أصحابها. فلم تبع كتبه، وفقاً للصحافية جين فريدمان، إلا 3000 نسخة في كل الولايات المتحدة".
لقد كشفت نوبل عن كنزها المجهول تقريباً، من دون مقدمات، أو إشارات في الطريق، فكان غورنا كاتب نوبل، ما منحها خاصية، المبادرة والاكتشاف مرة ثانية. وإن الفائز بالجائزة، في حالة كهذه، جائزة نوبل نفسها، الفوز بكاتب مبدع مغمور، وهذه هي الجائزة الحقيقة، التي تمنح للثقافة البشرية وإبداعها.