هل من متعهد لحالة الفوضى الدائمة في لبنان؟ سؤال تتباين حوله الإجابات والمواقف باختلاف الخلفية السياسية والطائفية لصاحبه. وإذا أدرنا ظهرنا للاتهامات المتبادلة، التي ظهرت بأبهى وجوهها في حادثة الطيونة، هناك حقيقة واقعية لا يمكن إنكارها في لبنان: "سلاح فردي متفلت" يذهب ضحاياه العشرات من الضحايا سنوياً. يبقى متخفياً لفترات من الزمن، ولكن سرعان ما يظهر ويعبث خلال لحظات بأمن المجتمع. هذا السلاح، تغذيه عوامل مختلفة. البعض منها أسبابه ثقافية، فتقرّه الأعراف الاجتماعية، وأخرى على ارتباط بالحاجة السياسية، فتلجأ إليه الجماعات لتصفية الحسابات. وفي الأحوال كافة، تلعب الانقسامات الطائفية والسياسية دورها في حماية بقائه بحجة التوازنات المفقودة.
ضحايا السلاح بالجملة
يمكن وصف شهر أكتوبر (تشرين الأول) الحالي بالكارثي لناحية وقوع الإشكالات بالجملة، وسقوط عدد كبير من الضحايا بفعل انتشار السلاح الفردي المتفلت خارج إطار الدولة المركزية.
من خميس الطيونة الأسود، الذي أوقع سبع ضحايا، وأعاد إحياء خطوط التماس عند طريق صيدا القديمة بين عين الرمانة والشياح، وصولاً إلى وادي الجاموس في عكار التي أشعل خلاف على خلفية أفضلية مرور نار الثأر بين عائلتين، أدى إلى سقوط ست ضحايا وعدد من الجرحى، ودخول محافظة عكار في دائرة ردود الفعل المتقابلة، من إحراق منازل وسيارات وسفك للدماء ومصادرة كمية من الأسلحة الفردية العائدة إلى أحد النواب السابقين.
وما بين هذا وذاك، تطور خلاف فردي بين أحد المواطنين وأحد الدعاة الإسلاميين، فأطلق الشاب المنتمي إلى السلك العسكري النار على عائلة ب.د، وأصاب أربعة منهم بإصابات بليغة، أقعدتهم في المستشفى. كما أنه لا يمكن تجاهل الخلافات العشائرية المتكررة التي تحوّل منطقة البقاع إلى ساحة حرب، وكذلك حالة التوتر الدائمة التي تعيشها المخيمات الفلسطينية بسبب انتشار السلاح فيها.
تتعدد الحوادث وتتكرر، وما قدمناه ليس نماذج حصرية، وإنما هي عبارة عن أمثلة حية عن إشكالات تبدأ أحياناً بسيطة، لتتسع وتؤدي بالسلم الأهلي إلى الهلاك، مستفيدةً من حالة التجاذب الدائمة بين الأحزاب السياسية والمجموعات الدينية والطائفية. ويأتي سقوط ضحايا ليطرح إشكالية السلاح الموجود خارج سلطة الدولة، والغطاء الذي يحظى به.
الأحياء الفقيرة وثقافة السلاح
ومن اللافت للأنظار وفرة السلاح في المناطق المهمشة والأحياء الفقيرة، وبين أيدي محدودي الدخل في المناطق المختلفة، فتارة يتحول إلى أداة لتصفية الحسابات الفردية، وتارة أخرى أداةً لتحصيل المكاسب الشخصية وترويع الآمنين.
يقول المنطق إن السلاح الفردي مستورد، وثمنه بالعملة الصعبة، وليس بمقدور الفقراء والمعدمين شراء قطع سلاح تبدأ بـ 400 دولار للمسدس البدائي، وتتدرج إلى الآلاف بالنسبة إلى القطع المتطورة. الأمر الذي يفتح الباب للبحث في فرضيتين، إما أن الخوف من الآخر والقلق من المستقبل سيطر على فكر اللبناني، وجعله يعطي الأولوية لشراء السلاح على حساب الغذاء والمسكن. أو أن هناك مصدراً ما (أو حتى مصادر)، صاحب قوة ونفوذ وتمويل هو من يؤمن السلاح لهذه الشرائح المختلفة.
يؤكد العميد المتقاعد ناجي ملاعب أن إشكالية استعمال السلاح الراهنة، بدأت مع فشل الدولة في إدارة أزمة المحروقات، وتكليف القوى الأمنية تنظيم صفوف الوقوف أمام المحطات. وأدى سوء التنسيق بين القوى الأمنية إلى التصادم بين الأجهزة في بعض الأحيان مثلما جرى في منطقة فرن الشباك. هذه الحوادث أعطت انطباعاً سيئاً للمواطن حول عدم وجود جهاز تنظيمي متماسك يمكن الاستناد إليه. وبدأ استخدام السلاح بين المواطنين وسقط جرحى في كثير من الأحيان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يُقرّ العميد ملاعب بواقعة انتشار السلاح الفردي في لبنان، وهو لا يعتبره بالشيء الجديد، طالما أن الثقافة السائدة تعتبر "السلاح زينة الرجال"، وهو موجود كذلك لدى الطبقات غير الميسورة، إذ يمكن القول "في كل بيت هناك سلاح". كما أن اهتزاز ثقة المواطن بالقضاء، والتدخل السياسي في مسار العدالة، يفتح الباب أمام لجوء المواطن إلى استخدام السلاح لأنه "يشعر بأن السياسي قادر على حمايته والتأثير في قرارات القضاء".
يسلّط ملاعب الأنظار على أزمة "ترخيص السلاح"، ذلك أن قانون الأسلحة والذخائر في لبنان يمنع اقتناءه، كما يحظر الإتجار بالأسلحة، إضافة إلى أنه لا يمكن قانوناً استيرادها إلا لصالح الدولة والقوى الأمنية. هذا الأمر يعني بصورة آلية "منع وجود السلاح في المنازل" وأن "يكون محصوراً بيد الدولة اللبنانية"، على حد قول العميد المتقاعد الذي يعتقد أن "تفلت الحدود لتسليح الجماعات الفلسطينية في السابق، وتفلت الحدود حالياً فتح الباب لدخول السلاح إلى الجماعات خارج نطاق الدولة".
ويلفت إلى أن الضائقة المادية دفعت بعض المواطنين إلى بيع سلاحهم الفردي من أجل شراء الطعام.
في المقابل، لا يتخوف من أن يلعب هذا السلاح دوراً في وقوع حرب أهلية واسعة النطاق، ولكنه أداة فاعلة في تصفية الحسابات الفردية والمعارك العشائرية.
ما هو المصدر؟
يستغرب العميد ملاعب سهولة حصول الأفراد على السلاح، منطلقاً من تجربته الشخصية فهو باعتباره "ضابطاً متقاعداً لا يُسمح له بالاحتفاظ إلا بمسدسه الشخصي الذي أعطته إياه الدولة، ولا يمكنه الاستحصال أو حمل سلاح آخر. وفي حال ثبت أن لديه قطعة سلاح أخرى، ستتم ملاحقته قضائياً من قبل المحكمة العسكرية، والضابطة الجمركية، لأن القانون يمنع استيراد الأسلحة الفردية إلا لصالح القوى الأمنية". من هنا، يستهجن "كيف أن وزارة الدفاع ترخص الأسلحة الفردية من دون معرفة مصدرها".
ويتطرق إلى "السوق السوداء للأسلحة" التي تشكل المصدر لـ 98 في المئة من قطع السلاح المنتشرة في لبنان. لذلك، فإن "الأسلحة غير الشرعية الآتية من مصادر سوق غير شرعية، تستقطب أموالاً شرعية بالكامل وتحيا على خيراتها"، و"سوق الأسلحة غير الشرعية تدرّ ملايين الدولارات على أصحابها سنوياً".
وينوه العميد ملاعب إلى أن قوى الأمن الداخلي اعتمدت في الفترة الماضية على تعليمات تلزم المحقق في حال ضبط قطع سلاح أثناء العمليات الأمنية أو تفتيش المنازل أو إقامة الحواجز، التأكد من مصلحة الأسلحة والذخائر في المديرية العامة بشأن "عائدية السلاح المضبوط"، أي التدقيق في مصدره وإذا كان يعود إلى قيودها.
ويلفت إلى أن هذا الإجراء "مكّن القوى الأمنية من استعادة عدد كبير من الأسلحة التي نهبت من ثكناتها ومراكزها أثناء فترة الفلتان الأمني"، مشيراً إلى أن "بعض الأسلحة المضبوطة كانت أميرية (أي ملك الدولة) ونال أصحابها الترخيص بالحيازة والنقل".