تضع الشاعرة السورية لينا شدود في مجموعتها الشعرية الجديدة "أرني وجهك" (دار الدراويش للنشر والترجمة، ألمانيا، 2021) شرطاً قاسياً لكتابة القصيدة، هو نفسه الشرط القاسي الذي تلتزم به من أجل قراءة العالم، والبقاء المؤقت على قيد الحياة. هذا الشرط هو الإمساك الحيادي البارد بالألم الملتهب، والقدرة الفائقة على التعامل المثير معه كأنه جسم خارجي غريب، بأصابع نحات يتعاطى جمالياً مع خامة صلبة.
أما مجرد الوعي بأن هذا الألم هو وجع حيوي نابع من الداخل الإنساني، ومشغول من الانهيارات الروحية والتصدعات الجسدية، فمعناه على الفور تلاشي الذات وانسحابها من الوجود. وهذه هي الحقيقة المريرة التي تسخر منها في رحلة هروبها من الخطر ونجاتها الافتراضية المستحيلة من السقوط في الفخ: "انظر، كم هو ريشي خفيف/ لن أنجو/ يا لطمأنينتنا الزائفة/ بينما الكل يبحث عن فريسة".
هذا النزوع إلى تشريح القسوة، والتفاعل المنطقي والتحليلي والتصويري مع مفرداتها وعناصرها وخميرتها النشطة، قد ينم عن قوة ظاهرية ولا مبالاة إزاء المشاهد المرعبة المنتشرة على الأرض، خصوصاً ما أفرزته آلة الحرب من دمار وجثث وتشوهات في البنية الاجتماعية، ظلت تتصاعد إلى أن بقيت الريح وحدها تعصف في المنازل الخاوية والقبور المظلمة: "كم عنفوا الريح/ حتى أرتهم وجهها/ وكأنهم لم يكونوا".
لكن هذا الإمساك بتلابيب القسوة، على الجانب الآخر، يخفي بالضرورة هشاشة وضعفاً، وخوفاً من مباركة فكرة العدم المسيطرة على الجميع، في وطن متشرذم مشحون بالنزاعات والنيران والأدخنة والمرايا المهشمة، ما يجعل محاولة المرء رؤية وجهه بمثابة إمعان في مطالعة التشظي والتفكك والانكسارات الفردية والجماعية: "ها أنا أشرف على قدري/ وبالشروط التي أرغب بها، وبكل شهيتي للقول/ .. / أخمن إنني راضية الآن/ ما رأيك لو نشعل اللغة/ ونرفع ما بقي من أنقاض حتى لا نتألم هكذا/ هل الألم شرطنا الوحيد للوجود؟".
استئناس الوحشة
في "أرني وجهك"، تمعن لينا شدود، صاحبة المجموعات الشعرية "لا تش بي لسكان النوافذ" و"أمكث في الضد" و"لما استقبلني الماء" و"من قلب العالم... من عالم بلا قلب"، في ترويض الكوابيس، واستئناس الوحشة، بحيث ضلت المخيلة تماماً بعدما صارت الأشباح وحدها هي المرئية، وباتت الزهور المتبقية بلا عبير، ولم يعد النهر يجرؤ على التكلم في غروب لا يأتي بعده سوى غروب، وصار هناك نقص في الحبكة والتشويق في هذا الوقت العصيب، الذي هو دائماً ليس على ما يرام "هل تسمعين النشيج المكتوم، لتلك الكائنات المستوحشة، التي تتبادل الغصات، وتضرم النار في حيواتها المتكررة؟/ هي غير راضية/ تعرفين ذلك من مشيها المتعثر/ ومن إطالة نظرها إلى السماء/ القرى الرابضة تحت سطوة الجبل/ تفتقدها".
هكذا، تولد القصيدة في المعركة الدائرة، أو في الخندق المعزول الذي يلجأ إليه الفارون من الغارات. وفي الحالتين، فإن النص الشعري يتجسد هندسياً بوصفه مغامرة محسوبة من أجل عدم فقدان اللغة في عالم اللاجدوى، إذ صار التماسك أعز منال في الفضاء الجديد، الذي لم يعد يعترف بالأبنية والأنساق والقوالب.
وفوق كفتي الميزان، تتعادل وتتماهى اشتغالات الكتابة الحذرة المتأنية، القائمة على حفر المعاني وتكثيف العبارات وحشد تيارات الصور المتلاحقة والأفكار المتشابكة، مع ذلك التوجس من وعورة خوض خطوات الحياة، والإشفاق من التشتت في متاهاتها، في ظل ضياع بوصلة الطريق وخريطة الاتجاهات، وعدم استساغة تفاصيل حركة المعاناة اليومية الرتيبة، بكل ما فيها من فقدان وتعثرات وانزلاقات حال بزوغ الضباب وملاقاة سلاسل الجبال والتصدي للريح ومواجهة ثقل المكان الذي يحجب كل شيء، بما في ذلك الزمن: "خربنا كل شيء/ ومن ثم وضعنا في الميزان كل ما مر بنا/ فردنا للمتاهة القسم الأكبر/ لم ننس أننا خرجنا من الليل بشروط قاسية/ غامرنا في المشهد دون أن نفقد اللغة، أو نجزع".
لمحات اليوتوبيا
ترتضي الشاعرة لينا شدود في قصائد مجموعتها "أرني وجهك" بقبول أنه لا توجد اختيارات أخرى في المحنة الحالكة المنصوبة، المحكومة بنهاية تقضي بأنه لا بقاء. لكن ما تزرعه بداخلها الجذور، وما تحفظه الذاكرة برأسها وقلبها من أحجار اللغة، الطينية والكريمة، وما تحمله من ضفيرة هائلة تشير إلى مركز الأرض، يجعلها لا تنفك تترنم بالطيش الذي كانت تمجده ذات يوم، وتتشبث بالسعي إلى تفعيل الخيال وتحفيز الجنون وتدريب السحر من أجل مقارعة الزمن، كموجة تصارع صخور الشاطئ وحيدة وتتحطم رويداً رويداً، لكنها تذوب سعيدة بامتلاكها دهاء الحبار وصبره وتمسكه بحلم الصمود: "صحيح أن ما حلمنا به معاً لم يكن ممكناً دائماً، ولكن ألا تستحق لحظتنا الحاضرة هذه..، لحظتنا الحاضرة ببياضها النافر، كل هذا العناء؟".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولأن المفهوم الاعتيادي الواقعي للنجاة غير قابل للتحقق، فإن الرؤية الشعرية تمتد لتقترح إمكانية الحضور المثالي في مكان وزمان آخرين "هناك"، لتعويض الغياب "هنا"، الأمر الذي يؤكد الرغبة المتكررة في التكريس للبناء على حساب الهدم، والانحياز لليقظة ضد الغيبوبة، والانتصار للشموس الصغيرة التي طالما اضطهدها الجليد وحجبها الظلام: "أوقن من رحابة رؤيتك/ وأنك ببساطة تموتين هنا، لتبزغي هناك/ لن أمل الكتابة عنك/ طالما تؤرخين لي ما أشاء/ أنت منحوتتي الأعلى".
ومن خلال هذه اللمحات "اليوتوبية" الخاطفة، تنسج الشاعرة ومضات إشراقية متناثرة على امتداد نصوص الديوان، وتكون أحياناً ممسوسة بصيحات الغضب والتمرد على السأم القائم: "هذه المرة لم تطيلي غيابك/ عدت سريعاً لتومضي بغضبك القادر". وفي أحيان أخرى، تأتي هذه الالتماعات زاهية بألوان الأمل الاستثنائي. وعند هذا المطاف، قد تصدق الشاعرة للحظات قليلة، وهي تخاطب هذا "المثال المنحوت"، أنها تحدث نفسها، لكن ذلك لا يكفي بطبيعة الحال لإصلاح ما لا يمكن إصلاحه: "ها أنت اليوم تكسرين العادة/ وتضحكين للصباح/ وتضعين الحبوب للعصافير، وتمنعينها عن الحمام/ لن يزعجك اليوم نباح كلب الجيران/ ولا نزق باعة الخضار في السوق القريب/ هل يكفيك هذا؟!".