لم يحدث أن حظيت أزمة قلبية بهذا الكم من التشخيص السياسي والتأويل الاجتماعي. ولم يسبق لصحة وزير في الحكومة المصرية أن تسببت في هذا القدر من الانقسام الشعبي بين متضرع للسماء من أجل الشفاء، وشامت في ما جرى مشككاً في ما حصل، ومتأرجح بين الدعاء والانتقاد لمسيرة سيدة هي الأكثر إثارة للجدل في تاريخ الحكومات المصرية.
جعبة مليئة بالكثير
وزيرة الصحة والسكان المصرية هالة زايد لا تحمل في جعبتها فقط ما يزيد على ثلاثة عقود من العمل الطبي المائل دائماً صوب الإدارة والرقابة والمتابعة، لكنها تحمل مسيرة علاقات وأنشطة طبية إدارية وتنظيمية بعضها دار رحاه في وزارة الصحة خلال أعوام سابقة لأحداث يناير (كانون الثاني) 2011، والآخر ارتبط ارتباطاً وثيقاً بـ"دبلوماسية" "مستشفى 57357" المكوكي، الأكبر والأشهر والأكثر تجهيزاً في مصر لعلاج سرطان الأطفال دفعه إلى دوائر طبية وسياسية عدة.
اليمين الدستورية
ويبدو أن دور زايد تجذر كثيراً حين تقلدت منصب رئيسة لجنة إدارة المستشفيات الطبية المتحفظ عليها التابعة لـ"الجماعات الإرهابية"، وعلى رأسها الإخوان المسلمون في أعقاب أحداث يونيو (حزيران) 2013. بعدها بخمسة أعوام، تكللت مسيرة الطبيبة بإدلائها اليمين الدستورية لتكون ثاني وزيرة صحة وسكان امرأة في تاريخ مصر، بعد مها الرباط التي تبوّأت المنصب منتصف عام 2013 ومكثت فيه أقل من عام واحد.
لكن زايد مكثت في الوزارة منذ أدائها اليمين الدستورية في يونيو 2018، التي صحبتها بداية موجة هادرة من الشد والجذب الشعبيين، وهي السمة اللافتة في المجتمع المصري على مدار العقد الماضي، تحديداً منذ أحداث يناير 2011، وما تبعها من موجات استقطاب سياسي وديني واجتماعي حادة. زايد التي أصيبت بوعكة صحية شديدة، تراوحت معلوماتها المتداولة بين جلطة في القلب وارتفاع ضغط دم شديد ومفاجئ وارتشاح في المخ، تزامناً مع لحظة درامية قاسية، إذ أُلقي القبض على مدير مكتبها وخمسة آخرين من الوزارة في حضورها بتهم فساد ظلت تنافس زميلها وزير التربية والتعليم والتعليم الفني طارق شوقي في تصدر قائمة "السجال الشعبي"، الذي تدور رحاه في الأغلب حول منظومتين حيويتين لا يخلو منهما كل بيت مصري ألا وهما الصحة والتعليم، واللذين أضيف إليهما بعد ثالث في ملف الصحة، فالوزيرة التي تقلب الدينا رأساً على عقب بتصريح هنا وإجراء هناك وجولات مكوكية في أزمنة بالغة الصعوبة، تضعها على رأس قائمة القيل والقال.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
على مدار ثلاثة أعوام، عمرت الأجواء والأثير بـ"قالت" الوزيرة و"قيل" عن الوزيرة. ولسبب ما غير معلوم، اختارت زايد، سواء بنيّة مسبقة أو من دونها، أن تنتهج الطريق الأكثر إثارة للجدل.
النشيد الوطني
جدل إذاعة النشيد الوطني صباح كل يوم في مستشفيات مصر أثار قدراً هائلاً من النقاش والسخرية القاسية. فبعد أيام من شغلها منصب الوزيرة، أصدرت قراراً يبدو أن الغرض منه كان نابعاً من جرعة وطنية مكثفة بإذاعة السلام الجمهوري في كل المستشفيات صباح كل يوم. وبين هلع مديري مستشفيات لا تملك إذاعة داخلية، وهرع آخرين لاتخاذ اللازم للبدء ببث النشيد، ومتسائل حول إذا ما كان بث النشيد يعني توقيف العمل والوقوف احتراماً له، ومتضرر من البث الذي يبدو متناقضاً مع مبدأ الهدوء المطلوب للمرضى في المستشفى، وساخر من الفكرة إذ إن الوطنية لا تأتي بقرار، وصائد في مياه عكرة من قبل معارضي النظام، دارت دوائر السخرية والتعجب إلى أن هدأت، لا سيما أن النشيد لم يُبث والقرار تبخّر في الهواء.
هواء الأثير
هواء الأثير ومعه لغط أحاديث المقاهي والميادين استحوذت عليهما مجدداً زايد بعدها بقليل حين أقالت مدير أحد المعاهد الحكومية لعلاج أمراض القلب، وكان يحظى بشعبية بالغة بين العاملين والمرضى على حد سواء. ثم مضت قدماً في إثارة الجدل حين أغضبت العاملين في مجال التمريض والصيدلة. فأثناء زيارة لها إلى مدينة بور سعيد، قالت إن "غياب 100 صيدلي لا يشعرني بأزمة، بينما غياب ممرضة واحدة مؤثر بالنسبة لي". وقبل أن تسعد الممرضات بما قالته، كانت أجهضت فرصتهن، إذ قالت إن غالبيتهن يعانين السمنة، و"على من
يرغب بالالتحاق بقطاع التمريض فأمامه ثلاثة أشهر لإنقاص وزنه". وأثارت موجة غاضبة ثالثة حين انتقدت ارتداء الكثير من الممرضات النقاب والخمار، مطالبة إياهن بأن "تكون الطرحة قصيرة بعض الشيء".
الموقف الشعبي من الوزيرة تحسن نسبياً مع بزوغ عهد الوباء، فبدا من الواضح أنها تبذل جهوداً مضنية للحصول على أدوات الوقاية الطبية من كمامات ومطهرات، ثم قامت برحلات مكوكية لإبرام صفقات اللقاحات، وبين هذه وتلك ساعات عمل تكاد لا تنتهي لسن الإجراءات الاحترازية ووضع البروتوكولات العلاجية وتخصيص مستشفيات العزل وتوسيع قاعدة غرف الرعاية المركزة وتحديث معلومات الوباء أولاً بأول وتخصيص خطوط ساخنة للاستفسارات وإعلان يومي لأعداد المصابين والوفيات. وقائمة طويلة لم تنتهِ بعد من جهود الوزارة في عهد الوباء.
وعلى الرغم من هذا التحسن، فإن الوزيرة دائماً في مرمى النيران الشعبية، إذ تعرّضت لانتقادات حول غموض إجراءات السفر الخاصة باللقاح مرة، وعدم توافره للبعض ثانية، والإعلان عن أن التلقيح شرط لدخول المصالح الحكومية ثالثة، والتشكيك في الأعداد المعلنة للإصابات والوفيات مرة وهلمّ جرّا.
عواصف غاضبة
خطواتها المتسارعة ونشاطها لم يخلوا من تفاصيل أثارت ضدها عواصف غاضبة وأعاصير حانقة، أحدثها كان قبل أسابيع. فقد صدر قرار بعمل محاضر شرطية في المستشفيات التابعة لوزارة الصحة ضد الجهة التي يُحوّل منها مرضى "كوفيد-19" والذي يستلزم علاجهم أن يبقوا في غرف العناية المركزة بها، أو أولئك الذين يتوفون بعد 24 ساعة من دخول المستشفى، حتى لو كانوا تلقّوا علاجاً تحت إشراف طبيب في البيت قبلها، على اعتبار أن هذه الجهة مسؤولة عن تدهور حالة المريض والتأخر في قرار تحويله.
القرار أثار حالة عارمة من الغضب والاستياء بين الأطباء، لدرجة أن أمين عام نقابة الأطباء أسامة عبد الحي وصفه بأنه يرتكز على فكرة خاطئة. فهو يفترض أن الطبيب هو المتسبب في تأخر دخول المريض المستشفى، في حين أن كلا الطرفين التزم بروتوكول العلاج، وأراد الله أمراً آخر. وأضاف أن أطباء العالم ملزمون بذل الجهد والرعاية وليس الوصول إلى نتيجة.
موجات اعتراض
نتائج أعمال وقرارات زايد تتسبب دائماً في موجات اعتراض وانتقاد وثناء في الآن ذاته، فالبعض يرى في تقلدها منصب وزارة الصحة خلال مرحلة ضمن الأصعب في تاريح البشرية، بوجود وباء ماضٍ قدماً في الفتك بسكان الأرض، في حد ذاته مدعاة للتشجيع والثناء.
الثناء الجارف على "100 مليون صحة"، وهي المبادرة الرئاسية التي أطلقها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بهدف القضاء على فيروس سـي والكشف عن الأمراض غير السارية، يظل في قائمة إنجازات زايد، على الرغم من أن المبادرة انطلقت في عهد وزير الصحة الأسبق أحمد عماد. كما يرتبط اسمها بمبادرة قومية أخرى للكشف عن الأنيميا والسمنة والتقزم لدى أطفال المدارس الابتدائية في شتى أرجاء مصر. وفي السياق ذاته، تتطرق زايد دائماً إلى إنجاز القضاء على قوائم الانتظار، مؤكدة مراراً وتكراراً أن مدة انتظار المرضى للخضوع للجراحات والتدخلات الطبية الحرجة تقلصت من 400 يوم إلى 17 وفي أقوال أخرى 11 يوماً فقط.
لكن أيام الجهات الرقابية والجهود التصحيحية تأتي بما لا تشتهي سفن الإنجازات.
فوجئ الجميع يوم الثلاثاء الماضي بخبر مقتضب مفاده بأن الوزيرة هالة زايد تعرّضت لأزمة صحية، وتم نقلها إلى المستشفى، وأنها في حالة صحية حرجة وغير مستقرة في قسم العناية الفائقة والزيارات ممنوعة.
مصادر، رفض جميعها ذكر أسمائهم، صرحت لجهات صحافية عدة أن زايد تعرضت لأزمة قلبية، وفي تصريحات أخرى، أصيبت بارتفاع ضغط دم مفاجئ أدى إلى حدوث ارتشاح في المخ وخضعت لقسطرة علاجية. في الوقت ذاته، فوجئ الجميع أيضاً بخبر مفاده بأن أفراداً من هيئة الرقابة الإدارية في مصر ألقوا القبض على مدير مكتب الوزيرة وآخرين في قضية رشوة تتابعها الهيئة منذ نحو شهر.
يشار إلى أن الرقابة الإدارية هي هيئة مستقلة تابعة لرئيس الجمهورية رأساً، ومهماتها مكافحة الفساد ومنعه باتخاذ الإجراءات والتدابير اللازمة للوقاية منه، ضماناً لحسن أداء الوظيفة العامة، وحفاظاً على المال العام.
الربط بين الحدثين
عملية الربط بين الحدثين لم تنتظر جهابذة أو منظرين أو خبراء استراتيجيين، بل سارع مغردون ومدونون ومواطنون عاديون إلى الربط "الذكي" بينهما على الرغم من أنها لا تزال قيد التحقيق، لكن الغريب أن الربط المتفق عليه شعبياً، قبل أن يتم التلميح له إعلامياً، وقف على طرفي نقيض بين مرجح بأن تكون الوزيرة على علم بقضية الفساد والرشوة، ما تسبب لها في أزمة صحية حين داهم أفراد الرقابة الإدارية مقر الوزارة، وبين جازم بأنها تتمتع بسمعة طيبة ما يجعل ربطها بالقضية مستبعداً.
مادة خام للقيل والقال
وبعيداً من الربط الشعبي الاستباقي، وفّرت مجريات الساعات القليلة الماضية مادة خام للقيل والقال. وفيما التاريخ الحديث حافل بوزراء بل ورؤساء ظلوا في مناصبهم حتى بعد إصاباتهم بوعكات صحية وأمراض بعضها خطير، مال التنظير الشعبي إلى المطالبة بانتظار ما ستسفر عنه القرارات الرسمية في شأن منصب وزير الصحة لقطع الشك في قضية الفساد بيقين القرار.
وزادت التصريحات المفرطة في الحرص والكلمات المدروسة بعناية من حدة القيل والقال. فبين تأكيد على أن زملاء الوزيرة وزميلاتها من الوزراء والوزيرات دائمو السؤال عن تطورات حالتها الصحية، ما يرجح بقاءها في المنصب، وتأكيدات صارمة على أن الزيارة ممنوعة عنها تماماً، ما يرجح عدم بقائها في المنصب، ظل المصريون يتأرجحون ذات يمين بقائها في المنصب وذات يسار إزاحتها عنه. إلا أن صدور قرار من رئيس مجلس الوزراء مصطفى مدبولي قبل ساعات بتكليف وزير التعليم العالي والبحث العلمي خالد عبد الغفار مهمات الوزيرة "لحين شفائها"، أعاد القيل والقال ولكن في مسارات أخرى منزوعة المعلومات، مغموسة في التكهنات ومتأثرة بمواقف مسبقة من الوزيرة.
عودة أم لا عودة؟
قوائم إنجازات زايد الجاري نشرها في صحف عدة تبث شعوراً لدى المصريين بأن الوزيرة ربما لا تعود، وكأن القوائم على سبيل الشكر السابق للرحيل، وإلى أن يتم حسم الأمر وبتّ المنصب، تدور الدوائر الشعبية في التأييد والاعتراض عليها وما أنجزته وما لم تنجزه في وزارة الصحة والسكان، والدعاء لها بالشفاء العاجل، بعضه مذيّل بأمنية الاستقالة أو الإقالة، والبعض الآخر مصحوباً بآمال البقاء والاستمرار في الحكومة المصرية الحالية.