بعد مرور قرابة ثلاثة أعوام منذ قيام ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018 التي أطاحت الرئيس السابق عمر البشير، تغيّر المشهد ووجد السودانيون أنفسهم من جهة في مواجهة مع قوى سياسية تعمل من خلال منصة الشعبوية، ظلت تطالب في الفترة الأخيرة بتولي قيادة المرحلة الانتقالية من المكون العسكري، ومن جهة أخرى في مواجهة قواه التي تدّعي الدفاع عن الديمقراطية، فأدى ذلك كله إلى إضعاف الفترة الانتقالية، بينما لا يزال الشارع يتمسك بثوريته، لذلك جاء رد الفعل على تحرك العسكر عنيفاً إذ عدّوه ضد تفضيلاتهم السياسية. كما اعـتُـبرت الفترة الانتقالية مستهدفة في ذاتها ولقطع الطريق أمام التحول الديمقراطي، فبرزت القضايا المسببة للخلاف والشقاق بين المكونين المدني والعسكري. ومن دون أي تفويض ديمقراطي مباشر، أصبح يُنظر إلى رئيس الوزراء المقال عبدالله حمدوك على أنه رمز وضامن لقيام حكومة مدنية منتخبة ديمقراطياً، ظلت مجمدة تحت ظل حكم العسكر طوال ثلاثين عاماً.
ما بين الوساطة الداخلية التي تقودها شخصيات مستقلة، وتلك التي تتولاها دولة جنوب السودان، ووساطة المجتمع الدولي التي يقوم بها ممثل الأمم المتحدة الخاص إلى السودان، رئيس بعثة يونيتامس، فولكر بيريتس، بين المكونين المدني والعسكري، يترقب السودانيون النتائج التي ربما تظهر خلال أيام، في وقت تتسع الفجوة بين التوقعات بعودة حمدوك إلى رئاسة مجلس الوزراء بعد الموافقة على شروطه، وبين اختيار رئيس وزراء جديد في حالة رفضها والوصول إلى طريق مسدود.
إدارة الحوار
بدأت جهود الوساطة الدولية قبل احتجاجات 25 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، مثّلتها لجنة وساطة محلية من شخصيات مستقلة على رأسها الأكاديمي قاسم بدري، وعميد الصحافيين السودانيين محجوب محمد صالح ورجل الأعمال أنيس حجار، إذ باشرت عملها من أجل رأب الصدع بين الطرفين. وتواصل عمل هذه اللجنة بعد الاحتجاجات لكن من دون الإعلان عن أي نتائج على مقترحها الذي تضمّن "تشكيل مجلس الدفاع العام برئاسة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، وإعادة رئيس الوزراء المقال عبدالله حمدوك إلى منصبه مع وزراء تكنوقراط، إلى جانب تشكيل المجلس التشريعي بنسبة تمثيل تصل إلى 40 في المئة من الشباب، وتشكيل مجلس شيوخ ليكون بديلاً لمجلس السيادة ويتكون من 100 شخصية سياسية ومدنية وعسكرية".
وإقليمياً، دعا وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، السودانيين إلى إدارة حوار يجمع كل الأطراف بهدف الخروج بنتائج مرضية، موضحاً أن "لأمن السودان أهمية قصوى بالنسبة إلى المملكة". أما جهود الوساطة الدولية التي عبّر عنها فولكر بيرتيس في تغريدته على "تويتر"، "بحثنا خيارات الوساطة وسبل المضي قدماً بالنسبة إلى السودان. سأواصل الجهود مع أصحاب الشأن في السودان"، فوضعت شروط الطرفين في كفتين متوازيتين، ما أظهر تباينها.
ووفق ما أسفر عنه لقاء حمدوك بسفراء دول الترويكا "الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والنرويج"، فإنه يتمسك بالعودة إلى التزام الوثيقة الدستورية، وضرورة إطلاق سراح المعتقلين السياسيين والوزراء ومزاولة مجلس الوزراء لأعماله بكامل طاقمه. وفي الاتجاه الآخر، يرفض البرهان الرجوع إلى ما قبل حل الوثيقة الدستورية ومجلس السيادة الانتقالي، وكرر إعلانه عن تكوين مفوضية الانتخابات والمجلس التشريعي ومجلس القضاء الشهر المقبل، تمهيداً للانتخابات في يوليو (تموز) 2023. وبوصول المبعوث الأميركي الخاص للقرن الأفريقي جيفري فيلتمان إلى الخرطوم، فجر اليوم الثلاثاء، ربما تجتمع مقترحات هذه الوساطات مع مطالب الطرفين لإنهاء الأزمة.
لقاء مباشر
ويبدو وفد دولة جنوب السودان أكثر تفاؤلاً، وهو مكون من مستشار رئيس الدولة سلفاكير ميارديت للشؤون الأمنية ورئيس وفد الوساطة الجنوبية توت قلواك، ووزير الاستثمار ضيو مطوك ووزير الخارجية مييك أيي دينق من أجل الوساطة. وقاد هذا الوفد من قبل عملية التفاوض بين الحكومة الانتقالية والحركة الشعبية لتحرير السودان شمال، جناح عبد العزيز الحلو، ورعى اتفاق جوبا للسلام الموقع في 3 أكتوبر العام الماضي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من جانبه، أعلن ضيو مطوك أن وفد حكومته للوساطة التقى الفريق عبد الفتاح البرهان وعبدالله حمدوك، كل على حدة في إطار المساعي لتقريب وجهات النظر بينهما. وأوضح "طلبنا من الطرفين ضرورة الجلوس إلى الحوار لأن حل هذه الأزمة لن يتم عبر المراسلة، ولا بد من لقاء مباشر للوقوف على جذور المشكلة، والعمل على تقريب وجهات النظر بين الطرفين ووقف تصاعد التوتر". وأضاف، "وافق حمدوك والبرهان على اللقاء مع التمسك بمطالبهما، وهي لا تبدو صعبة التحقيق، فحمدوك متمسك بالوثيقة الدستورية وطالب بإطلاق سراح المعتقلين والعودة إلى اتفاق تقاسم السلطة الذي كان قائماً قبل إعلان البرهان حالة الطوارئ في البلاد، أما البرهان فاعترض على أداء قوى إعلان الحرية والتغيير، ولن تُحل هذه المسألة إلا بالحوار المباشر للوصول إلى اتفاق".
وتابع، "كوفد وساطة، استمعنا إلى الطرفين، ولكن لم نقدم أي رؤى أو مقترحات حتى الآن، وبانتظار جلوسهما معاً حتى تتبلور الأفكار من مقترحات الوساطات المختلفة بشكل أفضل، تواصلنا مع الترويكا وسنلتقي ممثل الأمم المتحدة الخاص إلى السودان فولكر بيريتس وعلى تنسيق كامل مع الأمم المتحدة". وركّز مطوك على أن "النقطة الجوهرية التي خرج بها الوفد أن المقترحات المقدمة إلى الطرفين عادة تكون مقبولة عند طرف ومرفوضة لدى الآخر، لذلك لن نتبنّى المقترحات ما لم يتفقا على الحوار". وأكد أن هذه الوساطات ستصل قريباً إلى نتائج جيدة تدعم عملية السلام والاستقرار في السودان.
خيار أمثل
يقول فتح الرحمن الأمين، أستاذ العلوم السياسية في جامعة النيلين، إن "الخيار الأمثل للوساطة هو العودة إلى ما قبل 24 أكتوبر بتحقيق مطالب حمدوك، لأنها النقطة الأساسية للمضي بالسودان نحو الأمام وانطلاقاً من حيث تحققت الإنجازات. فقد شهد السودان منذ منتصف 2020 والربع الأول من عام 2021 زيارات وفود منظمات دولية وممثلي عدد من دول العالم، وتجاوز النزاعات الداخلية. وباعتبار عدد من الحركات المسلحة ضمن منظومة الحكومة المُقالة، فإن الوضع الحالي أو عدم إعادة الحكومة السابقة سيؤدي إلى تعثّر مفاوضات السلام، إذ إن الوصول إلى مرحلة التفاوض واتفاق السلام من الملفات التي تساعد على اندماج السودان في المجتمع الدولي".
وأضاف، "هناك أكثر من 60 قراراً دولياً صدرت ضد السودان في عهد حكم البشير العسكري بسبب قضايا النزاعات الأهلية الداخلية، إضافة إلى قوانين أصدرتها أميركا مثل قانون سلام دارفور في 2006، كما صدرت أيضاً مذكرة اتهام البشير وملاحقته من المحكمة الجنائية الدولية. وما أحدثته الحكومة الانتقالية من نتائج، هي تسوية ملف حقوق الإنسان وخروج السودان من قائمة الاضطهاد الديني وإشادة الولايات المتحدة بالانفتاح السياسي".
وتابع، "نجحت الحكومة الانتقالية في اختراق السياسة الخارجية وارتفع مستوى علاقاتها الدبلوماسية، واستطاعت أن تعيد الدمج مع المجتمع الدولي، إضافة إلى علاقاتها مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وسداد جزء من الديون، وأصبح السودان مهيّأً لقرض ملياري دولار. كما حصل فعلياً على 650 مليون دولار من قروض الدعم الاجتماعي من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بغرض إزالة التشوهات والآثار الاجتماعية الناتجة من تنفيذ برامج الصندوق، بعد توقيع اتفاقية معه للإصلاح الاقتصادي وتخفيف برامج التكيف الهيكلي من رفع الدعم وتحرير وتعويم سعر الصرف، ويتوقع أن تكون لها آثار اجتماعية، بالتالي أسهم الصندوق في قرض لدرء هذه الآثار". و"إذا لم يعُد الوضع إلى ما كان عليه، سيتواصل تجميد المانحين للمساعدات، خصوصاً ما أعلنت عنه الولايات المتحدة بتجميد مساعدات قدرها 700 مليون دولار".
تلبية المطالب
من جانبه، يرى اللواء الصادق عبدالله أن "ما دعا إلى حل الوثيقة الدستورية ومجلس السيادة الانتقالي كان ضرورات ذكرها القائد العام للقوات المسلحة الفريق البرهان لتجنيب البلاد النزاع الذي يمكن أن ينشب بين مؤسسات الحكم، بسبب الخطاب العدائي ضد القوات المسلحة، ثم التراشق الإعلامي".
وفي السياق ذاته، قال "تعويل الفريق البرهان على نجاح الوساطة سيتم بقبول عبدالله حمدوك العودة إلى تولّي مهماته، ولكن بمشاركة سياسية واسعة من غير الأحزاب السياسية إلى حين انعقاد الانتخابات، وهذا يعكس التزامه بالتحول الديمقراطي". وأضاف، "بالإمكان تلبية مطالب المكون العسكري بإبعاد الأحزاب السياسية من الحكومة في الفترة المقبلة واحتوائهم في المجلس التشريعي، وكذلك بالإمكان الاستجابة إلى مطالب تشكيل حكومة مدنية. ولكن نسبة لتعارض بعض المطالب مع بعضها، فيمكن الوصول إلى تسوية سياسية وهي بحسب ما يُتداول أن يتم استيعاب ممثلي الأحزاب السياسية والحركات المسلحة في المجلس التشريعي بعد تكوينه، وتكوين مجلس أعلى للدفاع والأمن بقيادة الجيش، وتكوين مجلس فخري من ثلاثة أشخاص كبديل للمجلس السيادي الملغى الذي كان يضم 14 عضواً".