في كتابها الجديد "مقهى ريش، عين على مصر" الصادر عن دار نهضة مصر، تقدم الكاتبة والشاعرة الإماراتية ميسون صقر قراءتها الخاصة لمسار التحديث في مدينة القاهرة، طوال ما يزيد على مئة وخمسين عاماً. وتجدد صقر في الكتاب روابطها مع الثقافة المصرية، التي نمت في ظلالها إلى حد أنها كتبت الكثير من نصوصها الشعرية بالعامية المصرية، لكنها تذهب هنا إلى التاريخ وتتقصى تفاعلاته. يقع الكتاب في مجلد ضخم من 654 صفحة، ويحفل بعشرات الصور والوثائق من مصادر، ومراجع مختلفة.
مشروع متكامل
تمنح صقر للقارئ في المقدمة مفاتيح، يعكسها منهجها في البحث والكتابة، فهي تكتب عن وعيها بالتاريخ والمكان عبر لغة شعرية لامعة، تشير إلى ما تثيره لديها فكرة الانتماء المعزز بالصورة ومساراتها في الذاكرة، وهي الفكرة ذاتها التي شغلتها في ديوانيها الأخيرين "رجل مجنون لا يحبني" و"جمالي في الصور"، لأنهما قاما على ما تثيره الصور من دلالات تشتبك مع الذاكرة الشخصية قبل أي شيء آخر.
ولا يمكن قارئ إبداعها أن ينظر إلى كتابها الجديد كمشروع يبتعد عن هذه الرؤية التي تشكل ملامح مشروعها الإبداعي إجمالاً، ولكنه هنا يعتني بـ"الذاكرة العامة" ويتعزز بأدوات البحث والنظر للكثير من الروايات بعين الشك و"المجد كل المجد للتفاصيل والتاريخ المهجور من السرد العام"، فبفضلها يمكن تدوين تاريخ آخر يكمن تحت التاريخ الرسمي.
انطلقت رحلة صقر في البحث عن "مقهى ريش" من شغف شخصي بتاريخ المقهى الذي أسس في قلب العاصمة المصرية منذ عام 1908، وتأصل هذا الشغف بعدما أتاح لها وارثه الراحل مجدي عبد الملاك مئات الوثائق والعديد من المواد البصرية والصور، استدعت لديها الكثير من التساؤلات التي كانت كفيلة بدفعها إلى استكمال رحلة البحث عن آلية تربط المقهى بذاكرة المكان على اتساعه وتنظر له في قلب النسيج العمراني.
شغف ممتد
امتد الشغف بميسون في رحلة استمرت لنحو عشر سنوات عاشتها في البحث وإعادة تركيب للمشهد العام، باستعمال الكثير من المواد، بل تبدو في الكثير من المواضع كأنها تستعيد موهبتها الأولى كرسامة ترغب في عمل "كولاج" بخامات تجمع البصري مع المكتوب والشفهي مع المدون، ونجحت في صياغة نص هو أقرب إلى جدارية للقاهرة ورحلتها مع الحداثة.
لا تخلو هذه الجدارية كذلك من ندوب يسهل استنباطها من حكايات الأسى التي يوردها الكتاب عن بعض رواد المقهى من المثقفين الذين تحولوا إلى نماذج أو أنماط درامية، سواء تلك التي أرخ لها الراحل مكاوي سعيد في كتابه "مقتنيات وسط البلد" أو ندد بها نجيب سرور في "بروتوكولات حكماء ريش"، أو من تهكم عليهم أحمد فؤاد نجم في هجائيته الشهيرة "يعيش المثقف على مقهى ريش".
يتجلى المقهى في الكتاب كمستودع لتفاعلات وتقاطعات أكبر من وظيفته المباشرة، ومن هنا اكتسب فرادته، إذ يتم النظر إليه كـ"حالة متناغمة" اعتنت المؤلفة برصدها في الصور والوثائق والإعلانات وطوابع البريد، متأملة قدرة المثقف على التقاط الحساسية المرهفة لروح المكان الذي شكل حراكاً حراً للإبداع وفضاء للمعارك الثقافية والفكرية التي صارت عنواناً للثقافة العربية صعوداً وهبوطاً.
لا تنظر ميسون صقر إلى المقهى كمكان غير منحاز وتتعاطى معه كنص ثقافي مفتوح على تأويلات عدة تستجلب معها أزمنة متراكمة وحكايات تجدد نبضها، عبر مقارنة الروايات وإعادة بناء الماضي بطريقة فعالة تعتني بـ"سوسيولوجيا المكان"، أي بالتاريخ الثقافي والاجتماعي أكثر من أي شيء آخر وتبتكر مداخل لفك رموزه.
سرد شفهي
يتحول المقهى عبر صفحات الكتاب إلى كيان يمتزج فيه الحقيقي بما يضيفه الخيال، لكن المؤلفة لا تقبل به في إطار "اليوتوبيا المسرودة شفهياً" بل تعتني بتقصي الوقائع وفحص الروايات المدونة ثم تلجأ إلى جمع روايات شفاهية موازية، لينهض المكان معها من جديد في وضعه الراهن، إذ يبدو كبنيان يقاوم سطوة الغياب.
يصمد "ريش" بتاريخه وذكرياته وأجوائه في مواجهة ما تتعرض له المدينة من عمليات اغتصاب، لذلك فإن الجزء الأول يقوم بالأساس على تأمل تاريخ العاصمة المصرية في أزمنتها المختلفة، ويستعرض بطريقة بانورامية رحلة العمران في العواصم المركزية التي عرفتها مصر منذ عصر الرومان، مروراً بالفتح العربي حين عرفت أرض الكنانة العديد من العواصم، إلى أن ظهرت القاهرة في عهد الفاطميين وبقيت إلى الآن ودخلت دورات متعاقبة من التحديث.
كانت البداية مع مشروع الوالي محمد علي في بناء دولة حديثة، وتعمق هذا المسار في عهد الخديو إسماعيل الذي أراد للقاهرة أن تكون "قطعة من أوروبا".
تؤكد ميسون صقر الطابع الكولونيالي الذي تشكل معه الفضاء الاستثنائي لعمارة القاهرة طوال الحقبة الاستعمارية، فعندما ولدت المدينة الحديثة ولدت معها المقاهي بصورتها الغربية التي تغاير المجالس الشرقية التي كانت قائمة من قبل.
وبفضل هذا الميلاد أصبحت منطقة وسط البلد مركز إشعاع ثقافي وسياسي واقتصادي واجتماعي، وفضاء للتعدد العرقي والثقافي ومصهراً لـ"هويات متنوعة" أسهمت في اتساع المجال العام وميلاد موجات من الحداثة الإبداعية والسياسية أيضاً. وتحولت المقاهي كذلك ساحة للنضال السياسي والاحتجاج. وفي هذا السياق لعب مقهى "ريش" أدواراً متعددة يوثقها الكتاب الذي يرى المقهى فاعلاً وشاهداً وصانعاً للأحداث وتصفه صقر بـ"الموقع الذي تعقد فيه صداقات لا تنتهي بين المقهى والتاريخ". وتكفي الإشارة إلى أن صوت أم كلثوم انطلق في أولى حفلاتها القاهرية من حديقة المقهى التي كانت منصة لإطلاق مواهب مسرحية وغنائية كبيرة مثل سلامة حجازي وفاطمة رشدي وصالح عبد الحي.
مقاومة الأفول
تقترب مهمة ميسون صقر في الكتاب، من مهمة "شمسة" بطلة روايتها "في فمي لؤلؤة" (2016). و"شمسة" في الرواية فتاة إماراتية كانت تدرس وتعيش في القاهرة، سافرت إلى بلدها من أجل بحث أنثروبولوجي يستند على حكايات الغوص وصيد اللؤلؤ، لكنها تتورط في عوالم يتداخل فيها الواقعي والأسطوري وتنفتح على رسائل ووثائق لرحالة ومستشرقين، تنتمي إلى الماضي المهمل وتضيء عبره مرحلة مهمة من تاريخ الخليج وهو يسعى للخلاص من ماضيه الكولونيالي.
ويأتي كتاب "مقهى ريش، عين على مصر" ليواصل مهمة "شمسة" ويحفز قارئه للتساؤل عما تركه الماضي الكولونيالي من ظلال على مدينة مثل القاهرة. لذلك يبرز علامات هذا الماضي بمختلف أشكالها كالتماثيل أو البنايات التي أضفت على حداثة القاهرة طابعاً مؤسسياً ميز تجربة النهضة المصرية وصاغ لها سياقاً فريداً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يظهر الكتاب رحلة تمصير تلك المؤسسات وكيف سعت النخبة السياسية والثقافية داخل المقهى وخارجه، للدفاع عن هويتها الوطنية وتبني استراتيجيات مقاومة للاستعمار، بأمل صياغة خطاب للتحرر الوطني، ويؤكد كيف أن المدينة دفعت أثماناً لهذا التحول. فمع نجاح الضباط الأحرار في الوصول إلى السلطة عام 1952 تعاقبت على المدينة أدوار مختلفة من العمران وتغييرات أزالت ملامحها التي تستحضر الأجواء الملكية السابقة، وعبر سعي الدولة لإجراء إصلاحات اجتماعية لصالح غالبية السكان، تشكَّل فضاء عمراني جديد، ونمت أشكال متباينة من الخليط المعماري والحياتي لا تتناسب مع العمق التاريخي للمدينة ولا مع جمالياتها الموروثة من العهد الاستعماري، وتؤطر حول معصمها أحزمة من المباني العشوائية أصبحت مصدراً من مصادر التهديد.
وبالتدريج تشكلت حول وسط المدينة أساطير وتصورات موسومة بـ"النوستالجيا"، يضاعف من حضورها أن الكتاب صدر في سياق حافل بمختلف صور الاستقطاب والتنازع، حول ما تبقى من المدينة المهددة، من وجهة نظر البعض، بفقدان ماضيها وهويتها الجمالية. وبالتالي فقد أصبحت نخبتها تحن بطريقة أو بأخرى إلى صورتها في الماضي بالتباساته المختلفة، لكنها تحصر هذا الحنين في المنظور الجمالي فقط. وأصبح ما يكتب عن المدينة أقرب إلى مرثيات لجمالها قبل أن تبلغ لحظة الأفول. وهكذا، فإن كتاب ميسون صقر لا يمكن إلا أن يقرأ كمحاولة لمقاومة هذا الأفول.