يفتش القادة السياسيون في لبنان عن كوة يمكن فتحها في جدار الأزمة السياسية المستعصية من دون أن يجدوا ما يسمح بخرق يضيء الطريق لإنهاء التعطيل والشلل اللذين أصابا العمل الحكومي بسبب تداخل مجموعة من القضايا الخلافية الكبرى، وأهمها الأزمة المستجدة منذ زهاء 12 يوماً مع دول الخليج والسعودية، والتي انفجرت بعد تصريحات وزير الإعلام جورج قرداحي عن أن السعودية والإمارات تمارسان "عدواناً" على اليمن، ودافع عن الحوثيين.
قرداحي جزء من نسق
وكما يقول أحد رؤساء الحكومة السابقين لـ"اندبندنت عربية"، فإن تصريح قرداحي كان القشة التي قصمت ظهر البعير، إذ إن قضية قرداحي وجه من وجوه المواقف اللبنانية المسيئة إلى علاقة لبنان بدول الخليج العربي، والرياض تحديداً. فقبله كانت التصريحات المسيئة التي أدلى بها وزير الخارجية في الحكومة السابقة شربل وهبة، والتي فرضت استقالته بطلب من الرئيس ميشال عون، وبعد قرداحي جاءت مواقف لوزير الخارجية الحالي عبدالله بوحبيب في تسجيل نشرت مضمونه صحيفة "عكاظ" السعودية، والذي لام المملكة لأنها لم تتصل به لطرح ملاحظاتها، وتحدث عن ضرورة الحوار "لا الإملاء"، ورأى أن تهريب الكبتاغون إليها يحصل لأن هناك سوقاً لهذه الآفة فيها، ما اعتبره رافضو كلامه تبريراً لعمليات التهريب هذه... فهناك نسق من المواقف والأخطاء في السياسة الخارجية للبنان أوقعته في ورطة تدهور علاقاته بالسعودية ودول الخليج. وسأل: "بالإضافة إلى القصف الحوثي المستمر للأراضي السعودية، والحملات السياسية المتواصلة من قبل الحزب والمسؤولين الإيرانيين ضدها، هل ننسى خلية "العبدلي" المتورط فيها "حزب الله" وإيران في الكويت، والتي صدرت في حق أفرادها الذين ألقي عليهم تباعاً صيف عام 2017، ثم بعدها أحكام بالسجن واتهم الحزب بتدريب عناصرها الذين كانوا ينوون القيام بأعمال عسكرية على الأراضي الكويتية، فتسبب ذلك بطرد 15 دبلوماسياً إيرانياً، بينما أكد القضاء الكويتي أن الحزب قام بتدريب هؤلاء، للقيام بما يشبه الانقلاب، خصوصاً أنه وجدت في مخابئ الخلية مجموعة من الأسلحة والعتاد بينها 5 آلاف بزة عسكرية؟ فالأمثلة كثيرة عن تورط الحزب في التدخل في دول الخليج.
رفض "حزب الله" لبيان ميقاتي
وفي وقت يردد رئيس الحكومة السابق نفسه ما بات موضوع شبه إجماع في بيروت عن أن الأزمة مع دول الخليج هي نتيجة تراكمات كثيرة في ممارسات "حزب الله"، فإن الأنظار اتجهت إلى ردود الفعل على ما إذا كان البيان الذي أدلى به رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، الأربعاء، في 4 نوفمبر (تشرين الثاني) سيفتح الباب على معالجة أزمة العلاقة مع دول الخليج. وهو وصفها بـ"الامتحان الأصعب" على حكومته، حين قال، "مخطئ من يعتقد أنه يمكنه أخذ اللبنانيين إلى خيارات بعيدة عن تاريخهم وعمقهم العربي وعلاقاتهم الوطيدة على كل الصعد مع الدول العربية ودول الخليج بخاصة، ومع السعودية تحديداً". فهذه العبارة وغيرها في بيانه الذي أشار فيه إلى تعطيل مجلس الوزراء، هي مواقف قصد فيها "حزب الله" من دون أن يسميه.
إلا أن بيان ميقاتي الذي جاء بعد تنامي الدعوات إلى استقالته لأنه لم يتمكن من حمل الوزير قرداحي على الاستقالة من أجل فتح نافذة حوار مع السعودية ودول الخليج، قوبل بالرفض والصد من قبل الحزب وقرداحي الذي بات تصنيف موقفه على أنه بتوجيه من الحزب.
قرداحي رد بعد أقل من ساعة على دعوة ميقاتي له إلى تغليب المصلحة الوطنية (بالتنحي) فرفض الاستقالة، وأكد أنه يقدم استقالته إذا كانت هناك ضمانات بأن الجانب السعودي سيتراجع عن إجراءاته، وسيستقبل ميقاتي في الرياض. وبدا في ذلك يطرح مطلباً أكبر من حجمه ومن موقعه السياسي، ويدل بوضوح على أنه شرط تعجيزي يقف الحزب خلفه، خصوصاً أن معالجة الأزمة تعود إلى رئيس الحكومة وليس له أو للحزب. فتاريخ العلاقة بين دول الخليج وبين لبنان كانت على الدوام مرتبطة بدور الرئاسة الثالثة في البلد.
بيان كتلة نواب الحزب (الوفاء للمقاومة) صدر بعد ساعات قليلة على إذاعة ميقاتي موقفه، فحمّلت الكتلة السعودية مسؤولية افتعال الأزمة الأخيرة مع لبنان. واعتبرت الكتلة أن "التوصيف الصحيح الذي كان الإعلامي جورج قرداحي (الوزير راهناً) قد استخدمه للتعبير عن طبيعة الحرب ضد اليمن لا يبرر على الإطلاق ردة الفعل السعودية"، بل إن الكتلة ذهبت إلى حد شن حملة على المطالبين بانسحاب قرداحي، وانتقدت "انزلاق بعض اللبنانيين إلى التحريض ضد (حزب الله) والمقاومة"، وأسفت "لتدحرج بعضهم نحو منحدرات التملق والمجاملة لدول وجهات غير لبنانية"، في إشارة إلى موقف معظم القوى السياسية التي ردت الأزمة إلى ممارسات الحزب حيال دول الخليج.
الحزب بات في الواجهة أكثر
وفي موقف آخر، ركز الحزب على بعد آخر لتشبثه ببقاء قرداحي وعدم استقالته، حين قال الشيخ علي دعموش، نائب رئيس المجلس التنفيذي فيه، إن "هدف السعودية الرئيس تطويق المقاومة و(حزب الله) وتغيير المعادلة السياسية الحالية في لبنان وإنتاج واقع سياسي جديد يؤدي إلى إضعاف دور المقاومة". وهذا يعني أن الحزب يخوض عبر قرداحي معركة القرار في السلطة الذي اعتاد أن يكون له، عبر حليفه الرئيس عون، فبات هو في الواجهة مباشرة بعد أن ضعف الأخير، وبات يحسب حساب وضع تياره الانتخابي، لا سيما مع تصاعد تململ جمهوره من إخضاع الحزب الوضع في البلد لمزيد من التأزم الذي ينعكس على أوضاع اللبنانيين عامة.
لكن خصوم الحزب يرون في مقاربة دعموش دليلاً على أنه مأزوم بعد أن توسعت الاعتراضات على سياساته وعلى فرضها بالقوة على لبنان، سواء في المواقف السياسية أو في الشارع اللبناني، بل إن عدد اللبنانيين ينسبون أسباب التدهور الاقتصادي والمالي في البلد إلى هيمنة الحزب على القرار السياسي وعلى مؤسسات في الدولة تمت مصادرتها بقوة النفوذ وهيبة السلاح.
استحسان لموقف ميقاتي يخفف من مطلب استقالته؟
وإذ قطع الحزب بموقفه هذا الطريق على المراهنات بأن يؤدي موقف رئيس الحكومة إلى استقالة قرداحي، لفتح طريق الحوار مع دول الخليج، وسط معلومات بأن الرئيس عون أيده في الموقف الذي أطلعه عليه قبل إعلانه، فإن ردود الفعل من قوى تقف في المقلب الآخر، استحسنت موقف رئيس الحكومة. ورأى رئيس الحكومة السابق الذي تحدثت إليه "اندبندنت عربية" أن ما قاله ميقاتي "جيد مع أنه كان يفترض أن يصدر قبل الآن. فالمطلوب العودة إلى التزام السياسة الخارجية التي تتماشى مع السياسات العربية استناداً إلى بيان رؤساء الحكومة السابقين الذين دعموا ترشيحه على أساسه باستعادة موقع لبنان العربي وعلاقاته السوية مع محيطه العربي وهويته العربية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعن رفض "حزب الله" لبيان ميقاتي ورد كتلة نوابه عليه، اعتبر أن "على الحكومة أن تقوم بعملها وتنتهج الخط الذي التزمته وفقاً للبيان الوزاري للحكومة، والذي أخذت ثقة البرلمان على أساسه، والذي ينص على التزامها تحسين علاقات لبنان العربية والحفاظ عليها، والمتعارف عليه هو تطبيق مبدأ النأي بالنفس عن الحروب والنزاعات الإقليمية، وليس مقبولاً كلما أقدمت على موقف أو قرار أن تسأل رأي فلان أو فلان. ومن لا يوافقها الرأي فلينزع الثقة عنها في المجلس النيابي. المشكلة تكمن في أن دويلة "حزب الله" باتت تسيطر على الدولة اللبنانية وتمنعها من ممارسة دورها، وتمنع عنها الهواء إلى درجة بتنا نقول إن أوضاعنا كانت أفضل أيام الوصاية السورية، وصار لبنان مصدراً لتهريب المخدرات، وليس فقط لتصدير الإرهاب".
كما أن رئيس حزب "القوات اللبنانية"، سمير جعجع، الذي هو من أشد خصوم "حزب الله"، بعد الصدام بين مناصريه ومناصري الحزب في الطيونة، اعتبر أن موقف ميقاتي "لافت، ومسؤول وشجاع، لعلَّ الآخرين يتجاوبون معه بالحد الأدنى من روح المسؤولية والوطنية لتجنيب اللبنانيين مآسي إضافية".
وفيما رأت أوساط مراقبة أن موقف ميقاتي خفف من احتمال مطالبة الأفرقاء الرافضين لهيمنة الحزب على القرار السياسي، باستقالة الحكومة لعجزها عن إقالة قرداحي والوقوف في وجه الحزب، وأن تعليق جعجع الذي يتمتع بعلاقة جيدة مع السعودية يؤشر إلى التخفيف من الانزعاج حيال عجز الحكومة، فإن بعض خصوم الحزب بقي على دعوته إلى الاستقالة، مثل الوزير السابق اللواء أشرف ريفي الذي قال، "لا رأي لمن لا يطاع… استقل".
حدد نهجه لكن لا أجوبة عما بعد
المصادر المقربة من رئيس الحكومة أوضحت أن ميقاتي قرر اتخاذ هذا الموقف بعد أن حال تعنت الحزب دون تطبيق مخرج قد يفتح باب الحوار مع الدول الخليجية، وبعد أن نصحه الأميركيون والفرنسيون بعدم الاستقالة، فهو حدد المنهج الذي سيتعامل على أساسه مع "حزب الله" في المرحلة المقبلة، ومن الطبيعي ألا يعجب ذلك الحزب، مع أن التواصل معه لم ينقطع. وهو قد التقى في اليوم التالي أحد قيادييه.
وتقول مصادر ميقاتي إنه مدرك أن الحزب لن يتجاوب معه، وله نهجه المختلف، ويتبع استراتيجية التصعيد، ويعتبرها أهم من مصالح الناس الذين يعانون الأمرّين من توالي الأزمات، ومن التصعيد الحاصل، ومن شل عمل الحكومة، بالتالي تجميد المعالجات المطلوبة للأوضاع المعيشية الصعبة التي يمرون بها. ويقر الذين يمتدحون ما أعلنه ميقاتي بأنه لا وضوح حتى الآن حول ما بعد ذلك، بالتالي لا أجوبة عما يحمله الغد، إلا أنه كلما تفاقم الصراع السياسي تتعرى المواقف وتزداد وضوحاً. ويشير هؤلاء إلى أنه إذا كان الهم الذي يدفعه إلى البقاء على رأس الحكومة أن يؤمّن الحد الأدنى من بديهيات العيش للناس في ظل التدهور الحاصل، وهناك من يعرقل ذلك، فقد حان وقت الفرز. والسعي لمعالجة الأزمة مع دول الخليج لا يهدف في الوقت الراهن إلى طلب مساعدتها المالية، بل تثبيت موقف مبدئي ونهج ثابت سياسياً لاستعادة الحوار، ولاسترجاع العلاقة الطبيعية بين المملكة ولبنان، وبين الشعبين اللبناني والسعودي، لأن البلد لا يمكنه احتمال تدهورها، نظراً إلى آثاره مالياً واقتصادياً، لا سيما إذا صعّدت دول الخليج إجراءاتها في شكل دراماتيكي. والأزمة مع السعودية ودول الخليج لم تعد قضية مساعدات منها للبنان وتوظيف أموال في اقتصاده المنهار، بل بات الملح هو استعادة التواصل بحيث لا يستحكم العداء بين البلدين.
أما أهداف ميقاتي على صعيد الأزمة الاقتصادية فهي ثلاثة: التفاوض مع صندوق النقد، وتحسين التغذية بالكهرباء، والبدء بالإصلاحات. وهذا يتطلب حكومة غير موجودة بحكم تعطيل اجتماعاتها من قبل الحزب.
يبدو من هذه المقاربة أن قرار ميقاتي بعدم الاستقالة في ظل استمرار التأزم واتخاذه الموقف الذي يميز رئاسة الحكومة عن "حزب الله" من دون أن تكون له سلطة عليه وعلى قرداحي كي يستقيل، لا تعني سوى الانتظار.
يأمل البعض بأن يؤدي انسداد الأفق إلى محاولة رئيس البرلمان نبيه بري القيام بمسعى ما لوقف الانحدار المتواصل الذي يعطل عمل الحكومة، في انتظار الظروف التي تسمح بمقاربة المأزق مع دول الخليج، إلا أن لا بوادر تشي بإمكان حصول ذلك قريباً.