جدد الرئيس التونسي قيس سعيد دعوته إلى انتهاج سياسة التقشف في المال العام بسبب الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد، وهي الدعوة الثانية لرئيس الجمهورية في أقل من أسبوعين، في إشارة واضحة إلى اتجاه لوضع استراتيجية عامة لتقليص النفقات العمومية لمواجهة العجز المتراكم للمالية العمومية. يأتي ذلك على مشارف نشر قانون المالية لسنة 2022 الذي يحدد ميزانية الدولة في ظل غموض يلف مفاوضات البلاد مع صندوق النقد الدولي، والميزانية التكميلية لسنة 2021، وأرفق الرئيس دعوته بالإشارة إلى ضرورة التعويل على المقدرات الوطنية قبل البحث عن موارد مالية من الخارج، وبذل الجهود للتصدي لتحقيق العدالة الجبائية.
يذكر أن غالبية الحكومات المتعاقبة على تونس في العشرية الأخيرة اعتمدت سياسة تقشف، في وقت تواصل عجز الميزانية، ووسط مخاوف من اللجوء إلى إجراءات قاسية من قبيل التخفيض في الأجور وتسريح العمال، نوه ملاحظون تحدثت إليهم "اندبندنت عربية " ببادرة سعيد ونجاعتها في حال حسن تجسيم التقشف الذي من شأنه أن يخفض من وطأة العجز، وقدموا نماذج عديدة بإمكان الدولة التونسية اتباعها لتحقيق هذا الخيار.
نفقات متزايدة
وسجلت تونس تراجعاً في عجز الميزانية على أساس الانزلاق السنوي في الأشهر السبعة الأولى من السنة الحالية بنسبة 41.82 في المئة، وتراجع إلى 2.63 مليار دينار (932 مليون دولار)، بينما بلغ عجز الميزانية 4.52 مليار دينار (1.6 مليار دولار) في الفترة نفسها من 2020، وينتظر أن يبلغ عجز الموازنة، العام الحالي بأكمله، 7.94 مليار دينار (2.81 مليار دولار) ما يساوي 6.6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، في حين ارتفع عجز الميزانية سنة 2020 إلى 11.22 مليار دينار (أربعة مليارات دولار) ما يضاهي 9.6 في المئة من الناتج المحلي.
وفسرت وزارة الاقتصاد والمالية تراجع العجز بزيادة مداخيل ميزانية الدولة بنسبة 10.8 في المئة إلى 18.15 مليار دينار (6.4 مليار دولار) حتى يوليو (تموز) 2021، لكن ارتفاع نفقات الميزانية بقي محافظاً على نسقه التصاعدي، وبلغ 0.3 في المئة، وكان بلغ 20.69 مليار دينار (7.336 مليار دولار) مقابل 20.63 مليار دينار (7.315 مليار دولار) سنة 2020.
وقد التجأت تونس إلى اقتراض 8.78 مليار دينار (3.11 مليار دولار) لتغطية العجز المسجل في ميزانية الفترة المنقضية من سنة 2021.
مراجعة الامتيازات
وقال المحلل الاقتصادي عبد الجليل البدوي، إن المال العام لا ينحصر في مصاريف الأجور والوظائف العمومية، بل يشمل كل ما هو قطاع عمومي من إدارة، أو مؤسسات وأملاك عمومية من عقارات أو أراض، إضافة إلى المدخرات من العملة الصعبة، ويشمل التقشف، في حال اللجوء إليه، حسن التصرف في الإدارة والأموال، ثم تحقيق الأهداف التي تقوم على أساسها هياكل الإدارة، علاوة على الحرص على جودة الخدمات ومردودية الإدارة، فالحرص على المال العام يشترط حسن أداء الموارد البشرية العاملة بالإدارة العمومية وتحسين مستوى الإنتاجية لديها، كما يحتم النظر في الامتيازات الممنوحة للموظفين بالوظيفة العمومية، ويتم ذلك، تابع البدوي، بالنظر في الامتيازات المالية من سيارات وظيفية ومنازل إدارية وتقليصها، وتحويلها من امتيازات نوعية إلى مالية مثل المنح المباشرة، ما من شأنه أن يوفر جزءاً كبيراً من حجمها المالي، بخاصة وأنها تبلغ ملياري دينار (709 مليارات دولار) حالياً في جزئها المتمثل في مساكن وظيفية وسيارات فقط، وهو مبلغ مرتفع بالنظر الى ارتفاع حجم النفقات العمومية، وإضافة إلى إجراءات أخرى بالإمكان اللجوء إليها لتخفيض هذه النفقات، ومنها التقليص في الوظائف، وقد استشرت هذه الظاهرة في السنوات الـ10 الأخيرة، واعتمدتها أطراف سياسية معينة لبسط نفوذها على القطاع العام
تجاوزات
ومن المتوقع مراجعة طريقة التصرف في الأملاك العامة لتحقيق التقشف المطلوب بعد التفطن إلى الفساد الذي مس أملاك الدولة، لا سيما الأراضي الفلاحية، وما طالها من التصرف فيها عن طريق المحاباة وتجاوز المصلحة العامة بالسرقة والاختلاس.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويمثل الحرص على مدخرات البلاد من العملة الصعبة من أهم مقومات سياسة التقشف، ويتجسد ذلك في ترشيد التوريد بمقاومة الاستيراد العشوائي، وهو التزود بالسلع غير الأساسية من خارج البلاد على أساس الترضيات وخدمة أجندات التحالفات السياسية على غرار ما حصل في السنوات الأخيرة لجهة إغراق السوق التونسية بالسلع التركية، إضافة إلى الحد من نفوذ أباطرة التوريد الذين برزوا في العقد الأخير، وتحصلوا على عقود ونيابات توريد بطرق ملتوية، ثبت أنهم ممولون للأحزاب ويتسببون في إهدار العملة الصعبة باعتماد طرق غير قانونية، ما أدخل البلاد في نفق من العبث بمدخراتها لمدة طالت إلى 10 سنوات، ويظل الإصلاح ممكناً في حال انتهاج الطرق المذكورة للحفاظ على الأموال العمومية.
ميزان المدفوعات
ورأى المحلل والمدير العام السابق للسياسة النقدية بالبنك المركزي التونسي محمد سويلم أن التقشف يأتي بدافع الرغبة في التحكم في العجز المستفحل في المالية العمومية، لمحاولة الحد من تفاقم المديونية بسبب تراكم العجوزات، وهذا التراكم راجع إلى عدم السيطرة على ميزان المدفوعات بأن تتجاوز نفقات الدولة مداخيلها، وفي حال الرغبة في السيطرة على العجز وتخفيض المديونية وجب التحكم في النفقات، والآلية التقليدية المعتمدة في ذلك هي التقشف.
ومن المفترض اعتماد هذه الآلية في تونس للحد من مصاريف الإدارة العمومية من المؤسسات والوزارات والشركات التابعة لها، بمراجعة نفقاتها الخاصة المتمثلة في المقابل المالي للخدمات المقدمة لها، علماً أن جزءاً كبيراً من الشركات العمومية في تونس تعاني من حالة شبه إفلاس، وهي غير مدرة للأرباح مثل شركات النقل والكهرباء والغاز والفوسفات، وبذلك يزيد حجم نفقاتها من دون تسجيل مداخيل.
كما يتعين إيقاف تطور حجم كتلة الأجور إذ يتطلب الظرف الاقتصادي الاستثنائي الالتزام بمقاييس استثنائية، وأهمها إيقاف المفاوضات الاجتماعية الدورية المطالبة بترفيع أجور الموظفين، وهي التي تعتبر من المصاريف التي تثقل كاهل الدولة بسبب الارتفاع القياسي التي شهدته منذ سنة 2010 حيث زادت من 5.8 مليار دينار (ملياري دولار) إلى 20 مليار دينار (سبعة مليارات دولار) سنة 2020، ويعود ذلك إلى نمو حجم الوظائف بالقطاع العام التي تبلغ حالياً 750 ألف وظيفة مقارنة بـ350 ألف سنة 2010، وبالتالي، فإن نجاح سياسة التقشف رهن هدنة اجتماعية موقعة بين الحكومة والمنظمات الوطنية التونسية، وعلى رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل، تشمل توقيع اتفاقيات ثنائية تنظم تخفيض كتلة الأجور وحجم الوظائف بهدف ألا يؤدي هذا الخيار الناجع إلى أزمة اجتماعية حادة في البلاد.