يتم استدعاء الطبيب عقب تعرض شاب لحادث على الطريق. يدخل الأول الغرفة ويشخص الحالة بأنها خطرة وتستدعي استئصالاً فورياً للطحال. لكن نظراً لضيق الوقت الذي لا يسمح بالنقل إلى مستشفى، وخطورة الحالة يخبر من حوله أنه سيضطر لإجراء العملية من دون "بنج"! ونجحت العملية واستعاد المريض عافيته وانتهى الفيلم الذي لعب فيه الراحل العظيم يوسف بك وهبي دور جراح استأصل طحالاً من دون تخدير.
حدث هذا في فيلم "ليلى بنت الريف" (1941). لكن هذا لا يحدث سوى في الأفلام القديمة التي استوقفت كثيرين للتندر على الخيال الشارد والفن الهائم في زمن يشترط فيه المريض الحصول على جرعة تخدير كافية تقيه شرور الألم أثناء حشو الضرس.
توقف استمرارية الألم
الضرس وحشوه وخلعه، والرأس وإصاباته وأمراضه، والمفاصل والعظام والقلب وآهاته وعلل الجسم البشري المرتبطة بتاريخ البشر على ظهر الكوكب جميعها يشير إلى أن العالم عرف العمليات الجراحية منذ فجر التاريخ، وفي أقوال أخرى قبل حلول الفجر بقليل وربما كثير.
حياة البشر والعديد من الكائنات تعني وجود ألم والحاجة إلى تدخلات علاجية بعضها يحتم الخضوع لعمليات جراحية تستوجب شكلاً من أشكال "إدارة الألم". "تاريخ إدارة الألم" عنوان ورقة بحثية للباحثين في جامعة أركنسو الأميركية للعلوم الطبية كارمن كيث وأحمد غالب. تشير الورقة إلى أن فكرة إدارة الألم عمرها ما يزيد على ثلاثة آلاف عام في مصر، والدليل على ذلك العديد من البرديات والرسوم المحفورة على الجدران. وانتقلت الفكرة وأدواتها وطرق تطبيقها إلى العديد من الحضارات القديمة. ويؤكد الباحثان أنه في وقت مبكر من عصر الأسرة الخامسة (2450 ق.م) وتمحورت نظرية الألم لدى المصريين القدماء حول "توقف استمرارية الألم".
توقف استمرار الألم أثناء تثبيت العظام المكسورة أو خلع أسنان فاسدة أو سد جروح ثاقبة، بل وتركيب طرف صناعي بعد بتر الأصلي تطلب في مصر القديمة شكلاً من أشكال توقف استمرار الألم.
الأفيون والمصريون القدماء
وإذا ذُكِر الألم، ذُكِر الأفيون وهو الذي يستخرج منه حالياً المورفين ذائع الصيت لتخفيف الآلام المبرحة الناجمة عن أمراض أو عقب عمليات جراحية. المصريون القدماء استخدموا الأفيون، وكذلك حمض الخليك مع أحجار رخامية بالإضافة إلى عقاقير مستخرجة من نباتات طبيعية وقائمة طويلة من وقف استمرارية الألم لجأ إليها المصريون القدماء أول من عرف التخدير.
حتى في مثل هذا اليوم الذي يتذكر فيه العالم تاريخ نشر أول ورقة علمية في دورية "لانسيت" في بريطانيا عن "الكلوروفورم" باعتباره مخدراً شبه مثالي وذلك في 12 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1847، ينظر العالم كذلك إلى أحدث القطع الأثرية المنضمة إلى "المتحف القومي للحضارة المصرية" في منطقة الفسطاط في القاهرة. أقدم طرف صناعي في التاريخ عبارة عن إبهام قدم يمنى عُثر عليه في مقرة فرعونية لابنة أحد كهنة آمون في عصر "الانتقال الثالث" (915-710 ق.م). التشخيص العلمي يقول إن ابنة الكاهن أصيبت بانسداد في الشرايين ما أدى إلى بتر إصبع القدم، وأن عملية البتر تمت بمهارة فائقة، وأن الجرح التأم تماماً، ثم تم تركيب طرف اصطناعي من الخشب يساعدها على ممارسة حياتها بشكل شبه طبيعي. وكل ما سبق تم باستخدام وسائل "تخدير" مختلفة قد لا تكون "كلوروفورم" المحتفى به اليوم، لكنها حظيت بتخدير يليق بالحضارة الإنسانية قبل آلاف السنوات.
الكلوروفورم في مقابل الإثير
لكن قبل عشرات السنوات، وتحديداً في عام 1842، اكتشف الطبيب البريطاني روبرت غلوفر أن حقن الكلاب بمادة "الكلوروفورم" يفقدها الوعي، لكنه لم يربط بين ذلك وبين فائدة الكلورفورم في الجراحات. الربط المفيد جاء بعد أربع سنوات مع غاز "الإثير".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فقبل ذلك بأشهر قليلة، توصل طبيب أسنان آخر يُدعى ويليام مورتِن، إلى حل ثانٍ يتمثل في الإثِير، وهو غاز يتسبب في النعاس ويتميز برائحة نفاذة وهو مزيج من الكحول وحمض الكبريتيك. وكان أول من استخدمه بغرض التخدير في عمليات التوليد الطبيب البريطاني في جامعة إدنبرة جيمس يونغ سيمبسون وذلك في عام 1847. قبلها بعام، لجأ طبيب أسنان أميركي هو وليان مورتون لغاز الإثير كذلك ليجري تجربة خلع سن مريض من دون ألم، وجاءت النتيجة جيدة بعد تجربة سابقة قام بها طبيب أميركي آخر انتهت نهاية كارثية. فقد أجرى هذا الطبيب تجربة علنية مشابهة، إذ استنشق المريض الغاز وبدأت عملية الخلع ليصرخ المريض ألماً بينما المتابعين غارقين في الضحك بسبب فشل التجربة.
في تلك الأثناء، كان البريطاني سيمبسون يجرب ويعاود التجارب ويخلط الغازات والسوائل ويخضع وأصدقاؤه وأفراد أسرته لتجربتها إلى أن توصل لحقيقة مفادها أن "الكلوروفورم" هو أفضل أنواع التخدير وأسرعها وأكثرها قبولاً من حيث الرائحة لدى المريض المراد تخديره مقارنة بالإثير. ونشر نتائج بحثه في 12 نوفمبر (تشرين ثاني) عام 1847 ليوزع 400 نسخة في أيام قليلة، وهو عدد كبير حينئذ.
حينئذ كانت عبارة "عملية جراحية إحدى مرادفات "موت" أو "ألم لا يحتمله بشر". فقد كانت عمليات التخدير بدائية، والكثير منها كان عديم الفائدة حيث قدر لألم الناجم عن شق الجلد أو الاستئصال والخلع وغيرها تفوق قدرة المادة المخدرة على تسكين الألم. بل كان البعض يلجأ إلى الضرب على الرأس، وتحديداً بؤرة معينة في جمجمة المريض لإفقاده الوعي قبل إجراء الجراحة.
التخدير العاطفي
عالم الجراحة كان مليئاً بالألم والمعاناة، ليس فقط للمريض وذويه، بل للجراح وطاقم العمل. فصل مثير في كتاب عن تاريخ الجراحة عنوانه "الجراحة والمشاعر: عالم ما قبل التخدير" للمؤلف مايكل براون يشير إلى أن العواطف كانت جزءاً لا يتجزأ من الجراحات في زمن ما قبل التخدير الحقيقي، إذ كانت العمليات الجراحية تجرى من دون أو بأقل القليل من المواد المخدرة، ما يعني أن مشاهد الصراخ والألم كانت تسبب آلاماً نفسية شديدة للجراحين وطواقم العاملين معهم. ويشير المؤلف أن البعض كان يعتقد أن الطواقم الجراحية في زمن ما قبل التخدير كانت تتبع "ثقافة تدريب النفس على عدم الشعور بالشفقة والانفصال العاطفي".
ويطرح المؤلف رؤى مختلفة ترتكز على دراسة تاريخ غرف العمليات. ويشير إلى أن البعض ربما كان يلجأ إلى فصل عواطفه أثناء القيام بالعمليات الجراحية الموجعة جداً، لكن هناك ما يشير كذلك إلى أن غرف العمليات كانت تحفل أيضاً بتشكيلة من المشاعر المتشابكة التي لا تخلو من خوف ورأفة وتعاطف وشفقة من قبل الجراح والطواقم للمريض. ويدعو براون إلى أخذ "سياسات المشاعر والأنظمة العاطفية" التي كانت سائدة في أزمنة مختلفة قبل منتصف القرن الـ19، أي في أزمنة ما قبل التخدير الحديث.
وداعاً للألم الرهيب
التخدير الحديث الذي كتب كلمة "النهاية" أمام هلع الألم الرهيب الذي كان يفضي إلى الموت أحياناً حيث يتم شق جزء من جسد المريض وهو واعٍ ومدركٍ ويشعر بما يجري له من قطع وشق ووخز وإصلاح يستحق جائزة نوبل وأكثر. لكن هذا لم يحدث، وهو أمر غريب، لا سيما أن الكيميائي ألفريد نوبل حدد في نوفمبر عام 1895 خمسة أفرع لجوائزه تكريماً لـ"من منحوا البشرية أكبر فائدة" والطب بينها.
يتساءل البعض عما إذا كانت 120 عاماً من عمر جائزة نوبل لا تكفي لتكريم واحد أو واحدة ممن طوروا التخدير الذي أفاد البشرية جمعاء، لا سيما أن أغلب أفرع الطب من زرع أعضاء إلى مسالك بولية إلى أمراض قلب ومناعة ووراثة وغيرها حصل على اعتراف واحد على الأقل من نوبل بفائدته للبشرية. لكن يبقى "التخدير" محروماً من نوبل.
هذا الحرمان لا يقلل من شأن التخدير في حياة البشر والحيوانات التي تحتاج أثناء حياتها للخضوع لعملية جراحية أو حتى خلع ضرس. وشأنه شأن كل تدخل طبي لا يخلو التخدير من قدر من الخطورة. وبين تخدير عام كلي وآخر ناحي (في النخاع الشوكي أو حول الجافية أي أسفل الظهر) وثالث موضعي تتراوح مخاطر التخدير وآثاره الجانبية. بعض هذه الأخطار تختلف احتمالات حدوثه بحسب العمر والحالة الصحية العامة، والآخر يحدث من دون سابق إنذار ولكن في أحوال نادرة جداً.
هلوسات طريفة
وفي سياق أخف وألطف، فإن التخدير يؤدي أحياناً إلى تفوه المريض أثناء الإفاقة بالكثير من الجمل بعضها يعكس ذكريات وأفكاراً يختزنها عقل المريض، وأخرى عبارة عن هلاوس لا يخلو الكثير منها من خفة ظل. البعض شتم الطبيب، والآخر طلب الزواج منه أو منها. وهناك من يتحدث عن علاقته بصديقة لا تعلم عنها الزوجة، أو تشير إلى سخافة الزوج أو ثقل دم الزوجة والقائمة طويلة.
لكن لحسن الحظ، تحول أخلاقيات العمل الطبي والصحي دون إفصاح الطبيب أو أي من أفراد الطواقم الطبية عما تفوه به المريض وهو تحت تأثير التخدير، ولو حتى على سبيل الفكاهة.
وفي العام الـ21 من الألفية الثالثة، لم يعد التخدير يقتصر على منع شعور المريض بالألم أثناء خضوعه للعملية الجراحية، بل أصبح هناك ما يسمى بوحدات وعيادات وتخصصات "الألم". وينسب لطبيب التخدير الأميركي من أصل إيطالي جون بونيكا الفضل في تأسيس أول عيادة لإدارة الألم في ستينيات القرن الماضي، وكذلك في وضع جانب كبير من أسس وأخلاقيات العمل الطبي. فقد أسس بونيكا لمفهوم قوامه أن "الشعور بالألم عامل أساس للمعاناة الإنسانية وأن تسكين الألم حق من حقوق الإنسان".