ما لم يدركه المجلس العسكري الانتقالي، حتى الآن، من طبيعة الثورة السودانية التي كشفت وعياً عميقاً في النضال السلمي والحقوق، هو أن ميدان الرهان السياسي مع هذه الثورة أشبه بمربع ضيق ومغلق لا تنفع فيه المناورات الطويلة، ما يعني كذلك أن التفكير التقليدي في ممارسات حيازة السلطة والتعامل مع الخصم (قوى إعلان الحرية والتغيير) بمعزل عن ما يمثله حقاً من قوة وازنة وأوراق ضغط حقيقية، سيكون مجازفة غير محسوبة العواقب في مناخ ثوري دقيق لا يحتمل ألعاب الوقت!
قوى إعلان الحرية والتغيير، وبعد الاتفاق مع المجلس العسكري على أكثر من 90 في المئة، رفضت اقتراح المجلس العسكري: قيادة عسكرية لمجلس السيادة عبر غالبية من العسكر بين أعضائه!
وسلوك كهذا من طرف الحرية والتغيير يعني تماماً أن الأمر بالنسبة إليها ليس فقط مجرد سلطة، إنما هو التزام ثوري بمطالب الثورة السودانية التي لا يزال مقر الاعتصام أمام مبنى القوات المسلحة في الخرطوم، هو ضابط مؤشر أدائها. فالاعتصام الذي يراهن مراهنةً جذرية على ضرورة تحقيق أهداف الثورة كافة عبر الهياكل المدنية الثلاثة للسلطة الانتقالية (مجلس سيادة مدني ـ حكومة مدنية ـ مجلس تشريعي) هو الضامن الحقيقي لنجاح قوى الحرية والتغيير، الأمر الذي اقتضى من هذه الأخيرة العودة إلى ساحة الاعتصام الشهيرة في الخرطوم لعقد حوارات سياسية مع الثوار حول طبيعة المرحلة القادمة.
الملاحظ أن قوى الحرية والتغيير حتى الآن، لم تقطع مع مشروعية الحوار مع المجلس العسكري، وإنما علّقت الحوار وتركت الباب موارباً، كما أنها في الوقت نفسه، أعلنت عن التصعيد والتلويح بالإضراب السياسي، من دون أن تشرع فيه حتى كتابة هذه السطور، وإنما اكتفت بترتيبات التحضير لمرحلة الإضراب من خلال تعهدات وتواقيع على دفتر حضور لأكبر عدد من الهيئات والمؤسسات الحكومية، وحددت له يومي الثلاثاء والأربعاء من هذا الأسبوع، كتجريب مؤقت لهذا السلاح، فيما لقيت خطوتها تلك استجابة كبيرة حتى الآن، كما لقيت دعوتها إلى تسيير مليونية يوم الخميس الماضي استجابة واسعة.
تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير الذي يضم 60 كياناً سياساً، سيكون عرضةً للتجاذبات الداخلية كلما مر عليه الوقت من دون إنجاز بقية الخمسة في المئة من الاتفاق، لا سيما في ظل تجديد المجلس العسكري الدعوة إلى انتخابات مبكرة يوم الخميس الماضي، حال الوصول إلى طريق مسدود في المفاوضات. كما ويدور في كواليس قوى إعلان الحرية والتغيير، نقاش لم يُحسم حتى الآن حول استبدال لجنة التنسيق التي كانت تقود التفاوض مع المجلس العسكري بمجلس قيادي يتولى التفاوض في المرحلة المقبلة.
وفيما لم يُحسم الأمر بخصوص الجسم الذي ستستقر عليه قوى إعلان الحرية والتغيير حال استئناف التفاوض مع المجلس العسكري، يظل خيارا التهدئة والتصعيد واردين، فحتى كتابة هذه السطور، الخيار الفعلي بخصوصهما من قبل قوى إعلان الحرية والتغيير لا يزال في المسافة صفر، ربما لترك المجال للوساطة في تقريب وجهات النظر بين المجلس وقوى التغيير، تمهيداً لاستئناف المفاوضات المتصلة بما تبقى من نسبة الـ5 في المئة حول قيادة مجلس السيادة ونسب التمثيل فيه بين المدنيين والعسكرين.
وكان السبب الذي توقفت به المفاوضات بين الطرفين هو إصرار العسكر على قيادة مجلس السيادة مع غالبية منهم 7 في عضوية المجلس مقابل 3 من المدنيين، فيما كان رأي الحرية والتغيير هو 8 من المدنيين و3 من العسكريين في مجلس السيادة مع قيادة مدنية.
وكان الموقف المقترح الأخير الذي دفعت به قوى إعلان الحرية والتغيير أمام المجلس العسكري هو غالبية بسيطة للمدنيين في مجلس السيادة مع رئاسة دورية بين العسكر والمدنيين، وهو ما رفضه المجلس العسكري وتوقفت من بعده المفاوضات يوم الإثنين الماضي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الصادق المهدي، رئيس تحالف نداء السودان، اقترح صيغة جديدة: مجلس سيادة بغالبية مدنية ورئاسة عسكرية، رفعاً للخلاف بين الطرفين، فيما أصدر التحالف الذي يقوده "نداء السودان" يوم الجمعة الماضي بياناً سياسياً عقب الاجتماع الذي عُقد بين مكوناته الخميس الماضي في فيينا، وجاءت لغة البيان دالة على تقدير مكاسب الثورة والتأمين على ما تم إنجازه في المفاوضات بين قوى التغيير والمجلس العسكري والبناء عليه والحض على استئناف الحوار مع المجلس للوصول إلى حل مرضٍ بين الطرفين.
الانسداد السياسي للوضع اليوم، يعكس احتمالات ربما تكون خطيرة في حال تعنت الطرفان وتشددا في موقفهما.
التلويح بالتصعيد عبر الإضراب العام ومن بعده العصيان المدني، هو بطبيعة الحال سلاح قوي، لكنه سلاح ذو حدين، فقد قابله نائب رئيس المجلس العسكري الفريق محمد حمدان دقلو، الشهير بـ"حميدتي" بتصريحات مهددة لمن يضربون عن العمل بالفصل، لاقت استهجاناً من السودانيين في وسائل التواصل الاجتماعي، إلى جانب قيام "حميدتي" بجولات على بعض الوزارات الحكومية وتقديم حوافز ورواتب لمنسوبيها، استباقاً للإضراب المحتمل.
أجواء الترقب بين الطرفين في سباق المسافات القصيرة، لن تظل على حالها، فالضغوط الداخلية والخارجية ومحاذير بقاء مرحلة الفراغ الدستوري التي استمرت لأكثر من 40 يوماً وترتيبات الثورة المضادة كلها ستشكل، في تقديرنا، أسباباً قوية لتقدير خيارات عقلانية في حسابات الطرفين (لا سيما من طرف المجلس العسكري) والتحلي بالمسؤولية السياسية والأخلاقية التي تخرج البلاد من سيناريوات خطيرة قد تحدق بمسار الثورة.
حسابات التقدير لجهة ما تم إنجازه في الاتفاق حتى الآن بين الطرفين، ووصل إلى نسبة 95 في المئة، تدعو إلى التريث في خطوات التصعيد، وهو ما سيحسمه الاتفاق المرتقب داخل قوى الحرية والتغيير حول آلية التفاوض، وما إذا كانت ستبقى على حالها، أم ستُستبدل بحسب صراع الأوزان التمثيلية داخل قوى التغيير بين أطرافها الرئيسية الثلاثة: نداء السودان وقوى الإجماع الوطني وجمع المهنيين.
في تقديرنا، كلما طال الوقت لن يكون في صالح الجميع، كما أنه في ضوء المعطيات التي تكشفها الأوضاع والمعلومات، فإن أسلم طريق للطرفين هو سرعة الوصول إلى اتفاق، لأن الخلافات البينية لن تطرأ فقط بين الطرفين إذا طال الوقت، بل كذلك ستطرأ بين كل طرفٍ على حدة، وإذا اتسعت الخلافات وتباعدت الشقة بين الطرفين من ناحية، وبين كل طرف على حدة من ناحية أخرى، فإن أرجحية تفاقم الخلافات في الطرفين ستصب (بطبيعة التجاذبات الداخلية في كل طرف) في مربع الثورة المضادة بأذرعها الداخلية والخارجية.
على هامش هذا الخلاف السياسي بين قوى التغيير والمجلس العسكري، تشتعل مواقع التواصل الاجتماعي السودانية بمن يتبرع بتعليقات مجانية على تجاذبات الخلاف بين الطرفين أو بين كل طرف على حدة، ويطلق أحكاماً حدية وقيمية لا يجوز إسقاطها على خلاف سياسي مفتوح على احتمالات تسوية، وهو ما قد تنجر عنه ردود فعل وتشويش يوقع في أذهان متابعين بسطاء، إيهامات تطال اللاعبين السياسيين (لا سيما قوى الحرية والتغيير ) بتهم تخوين غير مبرر.
انغلاق مربع اللعب في سباق المسافات القصيرة بين الطرفين، سيحكمه وقت قصير المدى وسيفضي إلى أحد طريقين: إما تسوية ضرورية يلجأ إليها الطرفان في وقت سريع وإما مسار محتمل باتجاه التصعيد المزدوج، وسيكون هذا الأخير مناخاً مثالياً لقوى الثورة المضادة التي لا تزال تنشط في كثير من مفارقات المشهد الثوري في السودان!