يعيش السودانيون منذ 25 أكتوبر (تشرين الأول) قلقاً كبيراً، بعد أن أعلن رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان حل مجلسي السيادة والوزراء وإعلان حالة الطوارئ في البلاد وعديد من القرارات التي رفضها الشارع، فخرج في مواكب منذ تاريخ الإعلان حتى يومنا هذا.
إعلان العصيان المدني والمليونيات المطالبة بإسقاط النظام كانت تعبيراً قوياً عن رفض قرارات البرهان، الذي بدوره كانت له رؤية مختلفة، وهي أن الصراع بين المدنيين أصبح غير مقبول.
خلال هذه الفترة، أعلنت لجنة الأطباء المركزية في السودان عن سقوط أكثر من 47 قتيلاً برصاص قوات أمنية قالت إنها تابعة للنظام.
وفي 17 نوفمبر (تشرين الثاني)، خرجت مليونية تطالب بتسليم السلطة إلى المدنيين وإحالة المتورطين في الانقلاب العسكري على العدالة، وخلال هذه التظاهرة سقط 15 قتيلاً وأكثر من 100 جريح برصاص قوات ترتدي زي الشرطة أطلقت النار والغاز المسيل للدموع نحو المتظاهرين.
حينها دانت كل اللجان المركزية ولجان المقاومة وقوع ضحايا في أثناء مطالبتهم بحقوقهم.
مؤتمر صادم
قامت الشرطة بعمل مؤتمر صحافي لتوضيح ملابسات القصة، وجرى نعته بالمؤتمر الصادم، إذ جاء فيه بلسان مدير شرطة الخرطوم الفريق زين العابدين عثمان، الخميس، "إن بعض التظاهرات لم تكن سلمية، وتخللتها اعتداءات على قوات الأمن"، مؤكداً أن الشرطة "تعمل على تأمين الوقفات الاحتجاجية، وستستمر بحماية مؤسسات الدولة".
وتابع "طيلة هذه الفترة، الشرطة تعمل على تأمين الحراك والمتظاهرين. كل الوقفات المعلنة كانت تمر بسلام تحت تأمين الأجهزة الأمنية". مضيفاً "كنا نتواصل مع بعض اللجان ونحدد لهم مسارات يمشون فيها ونحميهم، لكن في 13 نوفمبر وقع تعدٍّ. تفاجأنا بتعرض القوات التي كانت موجودة لتأمين المتظاهرين لاعتداءات. رُميت الحجارة على قواتنا، وجرى التعدي على الأقسام من دون مبرر. وفي السابع عشر من نوفمبر أيضاً تكررت تلك الاعتداءات". لافتاً إلى وفاة شرطي بعد أن تعرض رأسه للتهشيم بالحجارة.
وأكد مدير شرطة الخرطوم أن "التعدي أو الإصابات مبدأ مرفوض تماماً"، وأنه في حال اعتدى "عسكري" بالضرب على شخص، فإنه "يتم تحميله المسؤولية"، على حد قوله.
ونشرت صفحة الشرطة على "فيسبوك" بياناً قالت فيه إنه "بتاريخ 17 نوفمبر 2021 انطلقت عدة مسيرات ومواكب بولاية الخرطوم كان قد تم الإعلان عنها في الوسائط منذ أيام احتجاجاً على قرارات 25 أكتوبر 2021، وقد قامت الشرطة بواجب التأمين لمؤسسات الدولة ولجموع المتظاهرين كعادتها في مثل هذه الأحداث، إلا أنها قوبلت بالعنف غير المبرر تجاه أفرادها ومركباتها، حيث تم حرق عربة دفار ونهب محتوياتها، فضلاً عن الإتلاف الكامل لعدد ثلاث دوريات بمحليات الخرطوم، وجبل أولياء، وأمبدة، وعلى الرغم من ذلك استخدمت الشرطة الحد الأدنى من القوة والغاز المسيل للدموع، ولم تستخدم السلاح الناري مطلقاً، وبمراجعة جميع أقسام الشرطة وسجلاتها بالولاية تبين لنا أن هناك حالة وفاة واحدة لمواطن في محلية بحري، وتم اتخاذ الإجراءات القانونية بقسم شرطة الصافية، فضلاً عن إصابة 89 من رجال الشرطة بعضها إصابات جسيمة، كما تبين لنا إصابة 30 شخصاً من المواطنين نتيجة الاختناق بالغاز المسيل للدموع".
صراع على السلطة
وفي هذا السياق قال الفريق أول ركن، المتخصص الاستراتيجي والعسكري محمد بشير سليمان لـ"اندبندنت عربية"، "التظاهرات التي تجري الآن صراع على السلطة بعيد كل البعد عما تطلقه القوى السياسية بأنها تهدف إلى استرداد الحكم من المكون العسكري من أجل تحقيق أهداف ثورة ديسمبر (كانون الأول). ويؤكد ذلك عجزها عن أن تحقق أي هدف من تلك الأهداف من بعد ما يزيد على العامين، بل لعلها جعلت الدولة السودانية في أسوأ عهود مهددات أمنها القومي ووحدتها الوطنية، لأنها لم تحكم بمفهوم دولة المواطنة، وأدارت السلطة بمفهوم إقصائي أضعف مكونها الذي تمحور في أربعة مكونات من قوى الحرية والتغيير لم تستوعب تجارب الماضي السياسي لحكم السودان على الرغم من أنها (أي مجموعة الأربعة) ليس لها ثقل جماهيري، وفوق ذلك لا تملك رؤية واضحة لمشروع وطني تحقق به أهداف ثورة ديسمبر وتقود به السودان تأسيساً لفترة انتقالية تؤدي إلى بناء الدولة الوطنية وفق مفهوم قومي، من خلال تهيئة البيئة لانتخابات حرة ونزيهة، هذا مع فشلها في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمعنوية، مع عدم الشفافية واستشراء الفساد والمحسوبية من خلال منهج المحاصصة الحزبية، توظيفاً لأهل الولاء السياسي والاجتماعي، مع تهديد الأمن القومي السوداني إضعافاً لمؤسساته والتخطيط لكسر هيبتها حتى فقد الوطن أمنه وأمانه. بل أصبحت الدولة مرتعاً للدول وللمخابرات الأجنبية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعن الصراع بين الشقين تابع سليمان "ظل الصراع بين قوى الحرية والتغيير (مجموعة الأربعة) والمكون العسكري يزداد يوماً بعد يوم، بعيداً عن روح الفريق وأهداف الثورة، مما قادنا إلى الحركة العسكرية التي كانت متوقعة ومطلوبة في ظل حال مهددات وتحديات الأمن القومي السوداني التي عاشها السودانيون قبل الخامس والعشرين من أكتوبر، والتي أحسبها تصحيحية لمسار وأهداف ثورة ديسمبر، ووفقاً لبيان القائد العام للقوات المسلحة الفريق أول البرهان، هذا مع اعتبارية المصداقية التي سوف تثبتها خطوات التنفيذ في المرحلة المقبلة، وبما أدى إلى إبعاد (مجموعة الأربعة) التي تحكمت في شؤون الحكم في السودان، عاكسة لأسوأ حكم وممارسة سياسية سلطوية، بل لعلها تمثل شكلاً من أشكال الديكتاتورية المدنية، لتتحول هذه المجموعة لإدارة الصراع السياسي مع المكون العسكري وفق منهج سياسي غير وطني وغير شريف، بحسب ما يجري من تداعيات وطنية يعيشها السودان الآن".
وعن أسباب خروج المتظاهرين أضاف، "تحول الصراع السياسي إلى استنفار للمناصرين، وبمفهوم يبعد كل البعد عن أي رؤية أو مفهوم وطني، تجاوزاً لروح الحوار والتفاوض، واستخداماً لكل الوسائل غير الشريفة، كما ذكرت، ومن دون اعتبار أن البيئة السياسية تمتلئ بالحركات المسلحة الغاضبة لإقصائها من اتفاقية السلام والميليشيات التابعة لبعض الأحزاب وغيرها، هذا من دون إغفال انتشار السلاح الذي فشلت الدولة السودانية في محاصرته، ليصبح أحد المهددات الأمنية، استخداماً له ضد الخصوم في التظاهرات مع حالة الصراع السياسي غير الشريف الذي يتم الآن، وبمفهوم أن ذلك سيدعم موقف القوى التي تقود التظاهرات الآن ضد السلطة الحاكمة على المستويين الإقليمي والدولي، ويدفع بالدول والمنظمات ذات الشأن إلى الضغط على السلطة السودانية وقيادتها لإعادة السلطة لما يسمونه (السلطة الشرعية)".
وعن الاتهامات الموجهة إلى الشرطة باستخدام السلاح وقتل المتظاهرين تابع "في ذلك يجوز ألا يقبل العقل والمنطق اتهام الأجهزة الأمنية بأنها هي التي أطلقت الرصاص على المتظاهرين، وذلك يأتي من خلال أن السلطة الحاكمة الآن سوف تكون الأحرص على إدارة هذا الصراع، وبما ينفي عنها شبهة اتهامها باستخدام السلاح ضد المتظاهرين، تطبيقاً للقانون ولمبدأ أقل قوة ممكنة، تحملاً حتى لحالة الاعتداء على منسوبيها وممتلكاتها، وفي الوقت ذاته إفشالاً لتحقيق ما تهدف إليه القوى السياسية المتظاهرة، التي تسوق لذلك إعلامياً، كما تعلم السلطة الحاكمة الآن من قبل ذلك أنها مراقبة في أدائها وتصرفاتها داخلياً وإقليمياً ودولياً، تحسباً لأي تصرف قد يؤدي إلى إدانتها ويزيد من الضغوط عليها من قبل القوى والمنظمات التي تبحث عن كل نشاط أو فعل يؤدي إلى تقوية موقف (مجموعة الأربعة) من قوى الحرية والتغيير ويدين ما يسمّونه سلطة الجيش".
السلمية شعار تجاوز الواقعية
وعن سلمية التظاهرات اعتبر بشير أن "السلمية شعار تجاوز الواقعية وفقد المحتوى والمعنى، حيث أستطيع القول إن المشاهد لتتريس الطرق وحرق وتدمير الممتلكات بما في ذلك منشآت الشرطة ناهيك بالاعتداء على منسوبيها يؤكد أن أهداف السياسيين الذين يحركون ويستغلون الشباب من دون وعي تحقيقاً للمناصب والمحاصصات قد باتت مكشوفة لكل المواطنين، ولعل ما أكدته كاميرات التصوير من خلال تسجيل أحداث التظاهرات الأخيرة يدحض كل اتهام يهدف إلى ربط قوات الشرطة بأحداث قتل وجرح المتظاهرين، وإن الذي جرى عبارة عن مخطط جرى الإعداد له من دون القراءة للواقع السياسي وفطنة المواطن السوداني وإدراك أجهزة المعلومات للمخطط ومن يقومون بتنفيذه".
في السياق ذاته قال بشير إن "الشرطة تقوم بإطلاق النار والغاز المسيل للدموع في حدود المهنية والقانون، خصوصاً إذا تم الاعتداء عليها خروجاً عن السلمية للدفاع عن النفس، وفي هذا لا يعني أنها تهدف إلى القتل أو غير ذلك، وإذا حدث ذلك يمكن إثباته بواسطة المعامل الجنائية، ومعلوم أن الشرطة قد نفت حدوث أنها قد قامت بفعل يؤدي إلى القتل مع التزامها بالتحقيق".
غضب شعبي
من جانبهم، عبر السودانيون عن استيائهم من البيان الصادر من الشرطة، واعتبروه تهرباً من الحقيقة الواضحة على حد قولهم، وجرى نشر فيديوهات على مواقع التواصل الاجتماعي بعد رجوع شبكات الاتصال والإنترنت تؤكد حمل أفراد ترتدي زي الشرطة وأخرى ترتدي زي الدعم السريع وبعضها يرتدي زياً مدنياً جرى نسبها إلى جهات تعمل لصالح الأمن، التي اعتادت على لبس الزي المدني منذ ثورة ديسمبر.
وفي هذا السياق يرى الناشط السياسي حسن عبد الكريم أن "الفيديوهات المصورة بواسطة ناشطين تثبت تورط الشرطة، التي جاءت بكل عتادها لقتل المتظاهرين فكانت مسلحة ومحملة بالغاز المسيل للدموع، وجرى رصدها وهي تطلق النار وتستهدف المتظاهرين الذين وقعوا فوراً بعد إطلاق الرصاص عليهم".
وتابع عبد الكريم، "لا يمكن أن تختفي الحقيقة وستظهر للعالم بعد فتح ملف تحقيق عادل، ويتبين أن الأجهزة الأمنية كانت تقمع المتظاهرين، ولم تكن تقصد تفريق التظاهرات فقط، بل كانت تستهدف الشباب وتقتلهم وتلاحقهم في البيوت للنيل منهم".
وعن نوع أدوات القمع المستخدمة قال عبد الكريم "العصي والغاز المسيل للدموع وحتى الرصاص الذي تبين بواسطة أطباء أنه محرم دولياً، لأنه من النوع الذي ينتشر في الجسم ويقتل المصاب فوراً. وهذا أكبر دليل على أن ما حدث كان مع سبق الإصرار والترصد".
وعما إذا كانت هناك جهات تؤجج الصراع قال عبد الكريم إن "الشارع به قوات معروفة ترتدي أزياء الشرطة المعروفة، والكاميرا رصدت الشرطة وهي تطلق الرصاص، وأي محاولة لنسب عمليات القتل إلى جهات تريد تأجيج الصراع عارية من الصحة. وحتى إذا كانت هناك جهات دخلت في خط الأزمة وحملت السلاح وقتلت ستكون تابعة للدولة التي تريد تخويف المتظاهرين بالقتل والضرب والتعذيب، وهي لا تعلم مدى قدرة الشعب السوداني العظيم الذي يضحي بدمه وماله في سبيل وطنه. لذلك يجب فتح ملف تحقيق فوراً وإدانة جميع المتورطين، مع التأكيد أن الشارع سيواصل الغليان كما حدث في جميع ثوراته حتى إسقاط الانقلابيين".