في حلقة نقاشية بمركز ويلسون في الولايات المتحدة، قال وزير الخارجية المصري سامح شكري، إن مصر لا ترى سبباً في السياسة التوسعية لتركيا في العراق وسوريا. معرباً عن قلقه تجاه السياسات التركية في ليبيا، وتدخل أنقرة في الشؤون الداخلية المصرية، واحتضان قيادات الإخوان المسلمين، والاستمرار في بث القنوات الفضائية من هناك.
الرسالة واضحة في أن مخاوف العودة إلى المربع رقم صفر قائمة، بخاصة أن تركيا لم تقدم بعدُ على خطوات مفصلية يمكن من خلالها الاتجاه إلى عودة العلاقات، والبناء على ما جرى من تفاهمات لا تزال غير واضحة أو مستقرة، إذ بدأت تركيا التحرك على مسارات أخرى من أجل ما يمكن القول إنه "مناكفة" مصر مجدداً، وهو ما برز في الانفتاح الكبير على إثيوبيا من جانب، والتحرك في ليبيا مجدداً عبر مناطق التماس الاستراتيجي، ومروراً بإعادة فتح ملف إشكاليات إقليم شرق المتوسط، التي حددتها القاهرة في مواجهة أنقرة.
موقف راسخ
وبينما التزمت مصر الصمت، وعدم الإشارة إلى ما يجري بمسار العلاقات في الوقت الراهن، وذلك في إشارة إلى أن الصمت المصري مرتبط فعلياً بعدم وجود جديد يطرح، بخاصة أن جوهر ما طلبته القاهرة يظل معلوماً، ويركز على ملفات ثنائية ومتعددة، ويتعلق بالتعامل مع ملف الإخوان الموجودين في الأراضي التركية، إضافة إلى الحضور التركي في الملف الليبي، وكذلك التدخلات التركية الأخرى في الإقليم، وهو ما يمكن تفسيره كشروط عامة وإطار للتفاوض، بصرف النظر عن التفاصيل الأخرى التي تطرح من الجانب المصري، التي من الواضح أن محورها الرئيس مع تعدد الملفات، هو تركيزها على ملف الإخوان وليبيا بالأساس، والمنصات الإعلامية الموجودة في تركيا، ومنها باقي الملفات الأخرى المرتبطة بإقليم شرق المتوسط واستمرار المشاغبات التركية، بخاصة تجاه قبرص واليونان، وتحديد مستويات العلاقات المصرية التركية، قبل استئناف للعلاقات رسمياً مثلما جرى مع الجانب القطري.
لقد دخلت القاهرة في مساحات شد وجذب مع تركيا في ملف اليونان-تركيا وقبرص-تركيا، والمطالبة المصرية بخروج المرتزقة من ليبيا، وهو ما كان وسيظل محوراً لجدال تركي لن يحسم أصلاً، فالوقت يمر مع قرب إجراء الانتخابات الليبية في 24 ديسمبر (كانون الأول) المقبل، وفي ظل تصميم مصري على التوصل إلى حلول نهائية في التعامل، يمكن القول إن القاهرة نجحت في بناء منظومة كاملة من الحسابات في إقليم شرق المتوسط وفي ليبيا، وهو ما لن تتنازل عنه مصر، على اعتبار أن تركيا من تريد المصالحة، وأنها من عرضت وبادرت وفقاً لقاعدة الأولويات الملحة والمصالح المشتركة، بالتالي لا يوجد ما يدفع القاهرة إلى تقديم تنازلات لأنقرة في أي ملف، وهو ما كان محل اعتبار وتحفظ من تركيا، التي أرادت العمل على ملفات متنوعة وفي التوقيت نفسه، وترك ملفات أخرى حسب الظروف والتطورات، وهو ما قابلته القاهرة بتشكك وتوجس وتحفظ مفتوح.
لا تريد القاهرة الدخول في حلقة فراغ، كما تريد أنقرة، التي تفاوض في ملفات عدة، وفي التوقيت نفسه، وأنها لا تريد حسم مسار أو اتجاه كل ملف والعمل على ملفات جزئية، وهو ما يشابه التعامل مع إسرائيل قبل وبعد أحداث مرمرة، وكذلك مع الولايات المتحدة في ملف منظومة التسلح الروسية "أس 400"، وهي قضايا كبرى لا تتشابه مع ما يجري مع مصر، وهو ما عبرت عنه تركيا أنه لا يوجد ما يمنع من التعامل التركي المصري في ظل أزمات ومشكلات مثلما الجاري مع أميركا وإسرائيل ودول أخرى، ومن دون أن تكون هناك قطيعة أو تجمد في مسار العلاقات.
توجه منفتح
كان اللقاء العاجل بين رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والاتفاق على جملة من الموضوعات، بما في ذلك الاتفاق على إرسال طائرات مسيرة للداخل الإثيوبي، يعني أن تركيا أرادت نقل رسالة بالحضور مجدداً في ملف السد الإثيوبي، والتعامل مع أديس أبابا، وبصرف النظر عما جرى الاتفاق بشأنه، فإنه نقل رسالة إلى مصر بوجود تركيا المباشر في أهم ملف يخص القاهرة في الوقت الراهن، ويدفعها إلى التعامل بجدية مع الحركة التركية الراهنة، والالتفات جدياً للمطالب التركية، والضغط على مصر لوقف تحفظاتها، ورفضها التماهي مع الطرح التركي المؤثر والفاعل ليس في ليبيا فقط، إنما في شرق المتوسط، وفي الجنوب، وفي ملف العلاقات التركية اليونانية والقبرصية، بل والإسرائيلية التركية أيضاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وزودت تركيا إثيوبيا بعشر طائرات من دون طيار، لمساعدتها في مواجهة المتمردين، ونفت السفارة التركية على حسابها على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر" هذه المعلومات. وفي المقابل ساعدت الحكومة الإثيوبية النظام التركي للاستحواذ على مؤسسات تعليمية تابعة للداعية فتح الله غولن، وأعلن "وقف المعارف" التركي، في بيان، أنه تسلم مدارس تابعة لتنظيم غولن في منطقة ألمغينا التابعة لولاية أوروميا، جنوب غربي إثيوبيا، وعبر عضو هيئة وقف المعارف جهاد دميرلي، عن امتنان تركيا جراء هذا القرار الإثيوبي. وأبدى أمله في تسلم إدارة كل مدارس غولن بقرارات من المحاكم في إثيوبيا، وكما هو معلوم لحركة فتح الله غولن حضور في مصر، عبر مدارس صلاح الدين، وكذلك نشاط ثقافي واجتماعي محدود.
وفي المقابل صرح متحدث الخارجية التركية، تانجو بيلجيش، بأن أنقرة تسعى إلى زيادة نقاط الاتفاق مع القاهرة، وأنها حريصة على تطوير تفاهم مشترك مع مصر. وباعتبار القاهرة أكبر شريك تجاري لتركيا في أفريقيا. كما جرى تأسيس مجموعة صداقة بين البلدين في البرلمان التركي.
وعلى الرغم من ذلك فإن تركيا ترى أن تعاملها في دائرة الأمن القومي المصري، وإيقاعها تحت ضغوط مكثفة، هدفه الرئيس إيقاف الموقف المصري الداعي إلى إخراج القوات التركية من ليبيا، وأن هذا الأمر لن يحدث، بخاصة أن القاهرة دانت التحرك التركي وإعادة فتح منطقة فاروشا في قبرص، وكرسالة مصرية حقيقية بدعم اليونان وقبرص المدعومتين من الاتحاد الأوروبي، وقد لعب البلدان إضافة إلى فرنسا دوراً جيداً ومهماً، لمساندة مواقف مصر في الاتحاد الأوروبي.
مساحات التجاذب
تدرك القاهرة أن ملف جماعة الإخوان، ودعم أنقرة العناصر الموجودة في الأراضي التركية، لا يحتاج إلى إجراءات سطحية بإيقاف بعض البرامج والإعلاميين بالاسم، إنما تحجيم النشاط الإخواني بالكامل في تركيا، وعدم توظيف الملف دورياً وعند الحاجة، وهو ما سيتطلب مقاربة نهائية وحاسمة، وهو ما نقل إلى عناصر الجماعة عبر الحكومة التركية.
ومع ذلك، لم تتوقف الممارسات التركية بينما تطالب القاهرة بتسليم عناصر محددة حكم عليها في قضايا ودعاوى مصرية، ومن المهم تسليمها للقضاء المصري، بخاصة أن بعض الأسماء موضوع على نشرات الإنتربول في مطارات ومواني العالم.
كما أن القاهرة تريد أن تحسم ملف الخروج من ليبيا، وربطه مفصلياً بما يجري في الملفات الأخرى، بينما تتمسك تركيا بوجودها العسكري الفاعل في ليبيا في عدد من القواعد غربي المنطقة الغربية، باعتباره نتاج اتفاقات رسمية، وليس وجوداً عابراً سطحياً، أو غير رسمي، وأن الأمر في النهاية كما تردد أنقرة بيد الحكومة الليبية، وليس أي طرف آخر، وإن كانت أنقرة تتحدث عن قبول مصري أولي بعدم إدخال تركيا أسلحة جديدة إلى الأراضي الليبية، والالتزام بوقف إطلاق النار، ووقف جلب العناصر الأجنبية، والمضي قدماً في إعادة المعتقلين غير الليبيين إلى أراضيهم، وهو ما أبدت فيه تركيا مرونة شكلية، مثلما تكرر في إجلاء معظم المرتزقة السوريين والتونسيين، ومع ذلك لا توجد التزامات حقيقية بما يجري من تفاهمات في دوائرها السياسية والأمنية معاً.
الخلاصات الأخيرة
لا يخفى أن هناك تياراً داخل حزب العدالة والتنمية يرى أن إرضاء القاهرة التي تطالب بالتغيير الحقيقي في السياسة التركية حيال قضايا عدة قد يكون مكلفاً لتركيا، وأنه من المهم العمل على تحجيم بعض هذه المطالب بالفعل، لأنه يمس جوهر السياسة التركية في الإقليم، وأنه لا يوجد ما يبرر الإقدام على هذا الأمر في ظل الواقع الراهن للبلدين.
كما يرون أن الإمساك بملف جماعة الإخوان المسلمين، وتوظيفه أمر مهم، بخاصة أن هناك تغييرات حقيقية تجري في الوقت الراهن داخل جماعة الإخوان، في إطار إجراء تغييرات جذرية في المكتب الإداري لشؤون التنظيم بتركيا ومجلس الشورى، وهناك من يربط بين هذه التطورات، ورفض الجماعة تطوير وجودها وحضورها، بما يتناسب مع المرحلة الحالية، مع وجود تقارير رفعت للرئيس التركي أردوغان بخيارات الإخوان الجديدة داخل تركيا وخارجها، وعقد لقاءات مع حزب السعادة الإسلامي بهدف نقل رسالة إلى الرئيس أردوغان بالقدرة على المناورة، وهو إجراء خاطئ وغير صحيح وأشبه باللعب بالنار.
الإشكالية إذن ليست متعلقة بملف واحد، إنما بجملة ملفات متعددة، وتحرك الجانب التركي "المزعج" للقاهرة تجاه ليبيا ثم الجزائر وتونس، حيث زادت اللقاءات والاتصالات والاتفاقات، وهو ما تراه مصر مدخلاً لتحرك يستهدفها، فهناك توازنات حقيقية تحكم المنطقة بأكملها، وأي مقاربة للخروج عنها ستتطلب مراجعة متكاملة ومستمرة من الجانبين، وفي ظل عدم وجود مقاربة صفرية بالنسبة إلى الطرفين.
وعلى اعتبار أن كل طرف، تركي أو مصري، عليه أن يحقق مكاسبه السياسية والاستراتيجية، فأنقرة التي تريد إعادة هندسة المشهد في إقليم شرق المتوسط بكل تعقيداته في حاجة إلى القاهرة، كما أن مشاركتها في أية ترتيبات أمنية أو اقتصادية، حيث حقول الغاز وإمداداته، وتمدده إلى أوروبا تحتاج إلى استقرار سياسي وليس وضعاً غير مستقر.
سيظل الجانبان يعملان في دائرة متسعة من الخيارات والبدائل والعمل على ممارسة أكبر قدر من الضغوط، لتحقيق أهداف محددة مع استخدام كل الأدوات لتحقيق ذلك، وهو ما يجب وضعه في الانتباه، فالضغط على مصر بورقة السد الإثيوبي والانفتاح على الوضع في ليبيا، والاستمرار في الإمساك بورقة الإخوان سيقابلها ضغط مباشر من قبل مصر في شرق المتوسط مع العمل على التضييق على الحركة التركية تجاه اليونان وقبرص بل وإسرائيل ودول شرق المتوسط، وفي دوائر الجنوب حيث المصالح الكبرى لتركيا في دول حوض النيل وليس تجاه إثيوبيا فقط.