إنها لمفأجاة أدبية فرنسية كبيرة: الأكاديمية الفرنسية تنتخب الروائي البيروفي الإسباني ماريو بارغاس يوسا عضواً من أعضائها "الخالدين". وقد حاز 18 صوتاً مقابل صوت واحد ناله منافسه الكاتب والمخرج الفرنسي فردريك فينيال. أكثر من سبب يمنح هذه المفاجأة طابعها الفريد، يتمثل الأول في كون يوسا أجنبياً صرفاً وليس فرنكوفونياً، يجيد التكلم بالفرنسية لكنه لا يكتب بها. السبب الثاني هو بلوغ يوسا الخامسة والثمانين من عمره، ما يعني أنه تخطى العام الخامس والسبعين الذي جعلته الأكاديمية شرطاً يجب أن يلتزم به المرشحون، كحد أقصى، لئلا تتحول الأكاديمية إلى مجمع من المتقدمين سناً. والسبب الثالث أن يوسا هو أول فائز بجائزة نوبل يدخل الأكاديمية بعد مرور أكثر من نصف قرن على رحيل الكاتب الفرنسي فرانسوا مورياك (1970) الذي انتخب عضواً عام 1933 وفاز بنوبل في 1952.
بعد انتخاب يوسا، تبقى خمسة مقاعد شاغرة تسعى الأكاديمية إلى ملئها في انتخابات مقبلة، قد تكون المنافسة فيها غير حماسية. وقد تتحين الأكاديمية الفرصة لانتخاب أسماء أجنبية فرنكوفونية، تمنحها بعداً عالمياً، يبدو أن الفرنكوفونية تحتاج إليه، بعد الاجتياح الأنغلوفوني العالمي الرهيب. وعلى الرغم من الحملات النقدية التي تواجهها الأكاديمية منذ سنوات، فهي لا تزال "أكاديمية" وطنية، تمثل دور "حارسة" اللغة الفرنسية، الساهرة على سلامتها وسلامة الأدب الفرنسي، والساعية إلى عصرنة اللغة وتطويرها انطلاقاً من حرصها على أصالتها. وكانت انطلقت حملات ضدها حاملة عناوين أو شعارات "صارخة" ومنها على سبيل المثل: هل ما زالت الأكاديمية ذات نفع؟ هل وصلت إلى نهايتها؟ أو: "إذا اختفت الأكاديمية غدا فلن يتأثر أحد"، "الأكاديمية الفرنسية ضد اللغة الفرنسية"... وكتبت مرة مجلة "اكسبرس" الشهيرة مقالاً عنوانه "لماذا يجب إلغاء الأكاديمية الفرنسية؟".
انفتاح الأكاديمية
كان واضحاً انفتاح الأكاديمية على أسماء كبيرة في الأدب الفرنكوفوني، وهذا الانفتاح يدل على التزامها الفرنكوفوني وسعيها إلى الحفاظ على خريطة انتشار اللغة الفرنسية في العالم. وماريو بارغاس يوسا ليس الأجنبي الأول يدخل رحابها، فقد سبقه إليها أدباء متنوعو الهويات ومنهم: الجزائرية آسيا جبار، اللبناني أمين معلوف، الصيني فرانسوا شينغ، البريطاني ميكايل إدواردز، الايطالي موريزيو سيرا... لكن هؤلاء فرنكوفونيون حقاً، يكتبون بالفرنسية وينتمون إلى المشروع الفرنكوفوني ومعظمهم يحمل الجنسية الفرنسية.
غير أن ماريو بارغاس يوسا ليس غريباً البتة عن الادب الفرنسي، وعلاقته به بدأت منذ أن كان طالباً جامعياً في ليما، العاصمة البيروفية، وراحت تقوى اكثر فاكثر بدءاً من عام 1959 عندما سافر إلى باريس وأقام فيها ودرّس اللغة الاسبانية في معهد بيرليتز، ثم عمل صحافياً ومترجماً في وكالة الصحافة الفرنسية. ولا ينسى ذكرياته الباريسية وسكنه في فندق صغير في الحي اللاتيني الشهير، ثم في "غرفة خادمة" في بناية فخمة كان يقطنها الممثل الشهير فيليب جيرار. ويروي كيف انفعل عندما شاهد جان بول سارتر الذي كان يعده استاذاً له، في إحدى التظاهرات واقترب منه ولم يجرؤ على التكلم معه. قرأ يوسا سارتر في الجامعة وتأثر به وتابع اعداداً من مجلة "الازمنة الحديثة" التي كان يصدرها. وتعلم منه، كما يقول، أن الكلمات هي افعال وأن الادب قادر على تغيير الحياة. لكنه لم يفهم "جولات" سارتر السياسية اليسارية بين الشيوعية السوفياتية والماوية وسواهما، ما جعله يتجه نحو البير كامو ليصبح "كاموياً" بامتياز. وردّ في ما بعد على سارتر بقسوة، عندما دعا رائد الوجودية الجديدة، كتّاب أميركا اللاتينية إلى رمي أقلامهم والنزول إلى حياة الناس الفقراء والمعدمين والنضال ضد الأنظمة الظالمة. وقد ألف كتاباً صغيراً في هذا الصدد عنوانه "من سارتر إلى كامو".
الفرنكوفوني الهوى
كان الأدب الفرنسي أكثر الآداب حضوراً في حياة يوسا وفي مساره الثقافي، حتى ليمكن القول إنه "فرنكوفوني الهوى" . فهو قرأ باكراً جول فيرن وألكسندر دوما وفيكتور هوغو وفلوبير وسواهم. ثم اكتشف لاحقاً اندريه مالرو الذي يعده واحداً من كبار كتاب القرن العشرين، ويصنف روايته "الوضع البشري" في مرتبة الروايات العظيمة الصادرة في هذا القرن. قرأ رولان بارت وتوقف عند كتابه "لذة النص" آخذاً بهذه المقولة التي اكتشفها بنفسه مرات ومرات، خلال قراءاته أو في لحظة الكتابة... ولعل بارغاس هو الروائي الأجنبي الوحيد الذي تصدر أعماله الكاملة مترجمة إلى الفرنسية في سلسلة "لا بلياد" الشهيرة خلال حياته وليس بعد مماته، كما درجت عادة دار غاليمار ناشرة السلسلة. والتحاقه بهذه السلسلة التي تضم "الأدباء الخالدين" يعد بذاته تكريماً كبيراً له.
في الخامسة والثمانين من عمره، لا يزال يوسا على حماسته ونشاطه وعلى التزامه الذي حاول أن يُكسبه بعداً آخر من خلال جمعه بين النزعة اليسارية والرؤية اليمينية. ينبذ التطرف، يساراً ويميناً، يؤمن بالحرية واليوتوبيا. وقد شارك في عام 1988 في تأسيس "حركة الحريات" الشهيرة التي رشحته لرئاسة جمهورية البيرو عام 1990 من موقع اليمين الوسط. لكنه خسر في معركة الرئاسة ومثلت خسارته خيبة في الأوساط الثقافية في البيرو وأميركا اللاتينية وأوروبا. وبعد تلك الخسارة اعتزل يوسا العمل السياسي في مفهومه المباشر، منصرفاً إلى النضال الفكري والكتابة الروائية. وقد رأى بعض الصحافيين أن خسارته في الرئاسة كانت لمصلحته كروائي، فهو كتب بدءاً من تسعينيات القرن المنصرم أعمالاً مهمة جداً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ينتمي يوسا إلى مدرسة الرواية الأميركية اللاتينية المعاصرة وإلى التراث الروائي الغربي في الحين عينه، وهذا الانتماء المزدوج هو الذي منح عالمه الروائي خصائص لم يعرفها رفاقه الروائيون الأميركيون اللاتينيون. ولعل هذا الانتماء أبعده عن إشراك "الواقعية السحرية" التي رسخها هؤلاء الروائيون وفي مقدمهم خوان رولفو وغبريال غارثيا ماركيز وكارلوس فونتيس وخوليو كورتزار. ولكن لا يمكن إسقاط أثر هذه المدرسة في يوسا، على رغم بحثه عن أفق روائي فريد، يتجاور فيه التاريخ والمخيلة والالتزام والمفهوم الواقعي الجديد. وانطلاقاً من روايته "المدينة والكلاب" التي صدرت في 1963 وكان في السابعة والعشرين من عمره، تمكن يوسا من إضفاء طابع مختلف على الرواية الأميركية – اللاتينية، متأثراً بالأدب الفرنسي، العبثي والوجودي في فرنسا. ثم توالت أعماله الأخرى مثل "البيت الأخضر" و"حرب نهاية العالم" و"الفردوس أبعد قليلاً" و"مديح زوجة الأب" و"من قتل بالومينو موليرو" و"المدينة والكلاب" وسواها. وروايته "حفلة التيس" أثارت سجالاً في معظم عواصم أميركا اللاتينية تبعاً لتطرقه فيها إلى شخصية ديكتاتور جمهورية الدومينيك تروخييو.