أعلنت مفوضية الانتخابات في ليبيا إلغاء ترشح أكثر من 20 مرشحاً من إجمالي عدد أكثر من 98 مرشحاً للرئاسة، في ظل تصاعد مناخ التوتر في البلاد منذ صدور قانون الانتخابات الرئاسية والبرلمانية.
واعترض ممثلو الإخوان المسلمين على هذا القانون، وتصدر خالد المشري رئيس ما يسمى (مجلس الدولة الأعلى) هذا التيار الداعي إلى تأجيل الانتخابات، في مقابل إرادة دولية مجتمعة على ضرورة انعقاد الانتخابات. والواضح كذلك أن أغلبية شعبية ليبية مؤيدة عقدها، وهو ما يعكسه العدد الكبير من مرشحي الرئاسة.
وتبدو جملة المشهد مليئة بالتناقضات وعدم التأكد، ومن الصعب حسم التوقعات بشأن ما سيحدث في هذا المشهد خلال المرحلة المقبلة، لكن لعل مناقشة بعض التساؤلات والأبعاد تقترب بنا من فهم المشهد وتوقعاته.
مباعث القلق الإخواني
المعروف أن عملية الصخيرات أقحمت العناصر الإخوانية وبعض القريبين من فصائل الإسلام السياسي في الحكم بأعداد ونسبة تفوق وزنهم الفعلي في المجتمع الليبي، لكنه يعكس ربما وزنهم العسكري والميليشيات القريبة منهم، متطرفة وأقل تطرفاً.
وأدت هذه الصيغة، التي فرضها النظام الدولي، إلى حدوث مزيد من الارتباك والانقسام في المجتمع الليبي، وكان انتصار الجيش في المنطقة الشرقية وشعور الميليشيات والأطراف السياسية الإسلاموية بأن انهيار الميليشيات المسلحة في الشرق يعكس البيئة السياسية الليبية المعادية لهم سبباً في توتر متصاعد بين الفريقين: مجلس النواب الذي رفض رئيسه عقيلة صالح مخرجات الصخيرات وصيغتها السياسية، والجيش الليبي من ناحية، ومن ناحية أخرى حكومة الوفاق برئاسة فائز السراج التي اعتاد العالم آنذاك وصفها بالمعترف بها دولياً، كونها مؤسسة على الصخيرات، ومعها مجلس الدولة سابق الذكر، الذي تمكن الإخوان من السيطرة عليه، ويستند أيضاً إلى الصخيرات، ويدعمه عدد كبير من الميليشيات المسلحة المنتمية أو المتحالفة معها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأسفرت هذه المواجهة عن جمود وعدم قدرة حفتر على اقتحام طرابلس، بسبب الكثافة السكانية النسبية في العاصمة، ثم انقلب التوازن العسكري بدخول تركيا ومعها ميليشيات "داعش" وغيره التابعة لها كطرف مباشر في العمليات العسكرية، لينسحب الجيش الليبي إلى حدود سرت، وتلا ذلك التطورات المعروفة بتدخل مصر وإعلانها سرت خطاً أحمر، وتجمد المواجهة العسكرية ما أفسح المجال لبدء عملية تسوية سياسية قادتها المبعوثة الأممية الأميركية ويليامز، التي كان دعم بلادها وأغلب الأطراف الدولية والإقليمية سبباً في إخراج تسوية سمحت بإزاحة فائز السراج وتشكيل حكومة وطنية جديدة برئاسة عبد الحميد الدبيبة ومجلس رئاسي يقوده محمد المنفي.
وربما أهم ما مثله هذا التطور أنه سمح بحوار أفضل لفترة من الوقت بين المنطقتين الشرقية والغربية بين مجلس النواب المنتخب، وهذه الحكومة المؤسسة على شرعية دولية وليست منتخبة، وذلك لفترة حتى عاد التوتر بين الجانبين، وأهم مظاهره سحب المجلس النيابي الثقة من حكومة الدبيبة وعدم اعترافه بهذا التطور واستمرار الاعتراف الدولي بهذه الحكومة.
ووفقاً للترتيبات الدولية بهذا الصدد، أصدر مجلس النواب تشريعاً بقوانين الانتخابات، اعترض عليها المشري وقيادات الإخوان بحجة أنه كان ينبغي التشاور بين المجلسين، وهو ما لم يرد في هذه الترتيبات الدولية سابقة الذكر، فضلاً عن أن استمرار وجود مجلس الدولة للمشري هذا تحيط به التساؤلات بعد زوال أساس شرعيته، أي اتفاق الصخيرات، وهو ما يعني أن اللبس بوجوده قد يكون متعمداً، أو لمحاولة إمرار صفقة الترتيبات الجديدة بأي ثمن مع تيار الإسلام السياسي.
الشاهد أن بوادر الخلاف قد بدأت إرهاصاتها منذ فترة، ثم تمحورت بوضوح حول قانون الانتخابات، وتصاعدت تصريحات المنتمين للتيار الإسلاموي ضد هذه الانتخابات وضد فكرة ترشح خليفة حفتر وسيف الإسلام القذافي، الذي جرى حذفه بانتظار الطعن، وشارك مفتي الإخوان ومفتي ليبيا السابق المتشدد الصادق الغرياني في حملة طلب تأجيل الانتخابات، بحجة إعادة مناقشة القانون، ورفض ترشح شخصيات بعينها.
وفي الواقع، إن الأمر واضح في مخاوف هذه القوى من تكرار هزائم الجولتين الانتخابيتين السابقتين، ومن تكشف واضح بأنهم لن يستطيعوا حكم البلاد في المرحلة المقبلة، ومن ثم يريدون مواصلة الأوضاع الراهنة لحين النجاح في تغيير التوجهات الشعبية، وهو ما يبدو بعيداً للغاية، ودليل ذلك حالة الغضب والتوتر التي تسود تصريحات وتصرفات هذا الفصيل السياسي الإخواني.
سباق رئاسي غير مسبوق
الملاحظ تعدد كبير في أعداد المرشحين للرئاسة من خلفيات سياسية وقبلية متعددة، فلم يكن سيف القذافي فقط محل الجدال، بل سبقه الجدل حول خليفة حفتر الذي يرفض قادة الفصائل الإسلامية مجرد ترشحه، ويطلبون استبعاده، وكان الهدف من موقفهم من البند الخاص بضرورة استقالة المسؤولين أو تركهم العمل قبل الانتخابات بثلاثة أشهر موجه بالأساس إليه. وجاء ترشح رئيس الوزراء الدبيبة تالياً لحفتر ومن دون إعلان تخليه عن منصبه، حيث يبدو أن هناك لبساً في القانون الانتخابي بهذا الصدد، على الرغم من أنه سجل اعتراضه ضد هذا القانون أيضاً.
وعموماً، إن عدد من ترشح بخلاف هؤلاء الثلاثة كبير، ويتقدمهم رئيس الوزراء الأسبق علي زيدان، الذي تولى بعد الثورة، وكان مطارداً من التيار الإخواني، وبقي بعيداً عن التجاذبات خلال السنوات الأخيرة، فضلاً عن أحمد معيتيق نائب السراج الأسبق، الذي حافظ على صلات بالإخوان، لكنه حافظ أيضاً على قدر من الاستقلال ومساحة حركة أوسع.
كما يبرز أيضاً وزير الداخلية السابق فتحي باشاغا القريب من تركيا وصاحب الحظوة والمكانة في مصراتة، وأخيراً جاء ترشح عقيلة صالح رئيس مجلس النواب، لتزداد حرارة السباق وتعقيده، هذا فضلاً عن عدد آخر من الشخصيات التي يصعب الحديث عن فرصها الآن. لكن فقط يمكن القول إن هؤلاء المرشحين السابقين لهم بعض الفرص، وكذا توقعات بتأثير سلبي في بعضهم بعضاً، أو لنقل ممثلي التيار الواحد.
المواقف الدولية
ربما يكون الأمر الإيجابي الواضح هو الإصرار الغربي والأممي الواضح على ضرورة عقد الانتخابات في موعدها المقرر 24 ديسمبر (كانون الأول) المقبل، وكذا إطلاق التهديدات ضد الأطراف التي دعت إلى مقاطعة الانتخابات، واتسمت هذه التصريحات الأميركية والغربية بالحدة والجدية الواضحة، ما يشير إلى تغيير واضح في الخطاب الغربي تجاه قوى الإسلام السياسي في ليبيا بعد سنوات من التبني والدعم الضمني الذي أوصل ليبيا إلى أزمتها الراهنة.
ومن ناحية أخرى تواصل تركيا تحديها وعرقلتها عقد الانتخابات، ولم تستح في أن تدعو مع مؤيديها في ليبيا إلى تأجيل الانتخابات وتعديل القانون، ثم أكملت كل هذا بإرسال دفعة جديدة من المرتزقة السوريين بدلاً من العدد الذي سحبته قبل هذا بفترة وجيزة، لتفصح عن نياتها وجديتها في عرقلة حدوث انتخابات قد تهدد الاتفاق الأمني والسياسي، الذي عقدته مع السراج، ولترسل رسالة واضحة بأنه إذا لم تتمكن من عرقلة الانتخابات فإن أنصارها مستعدون لجولة عسكرية جديدة، لمنع قيام حكومة شرعية في البلاد واستمرار تمزقها ووجودها العسكري والسياسي في أراضيها.
مستقبل غامض
على الرغم من أن تركيا وأنصارها من قوى الإسلام السياسي سيحاولون عرقلة الانتخابات وتعقيد الموقف بما يجعل انعقادها بالغ الصعوبة، بخاصة من خلال أعمال عنف متقطعة قد تنفلت في بعض المراحل، لتعود حالة من الجمود مرة أخرى للمشهد السياسي والعسكري وجهود دولية جديدة لحلحلة الموقف، فإنه مع ذلك يبدو الموقف الغربي والدولي، فيما عدا إيطاليا، التي سيثبت التاريخ مدى تشوه رؤيتها السياسية، مجمعاً في حسمه وعدم السماح بذلك، ما يجعل فرص انعقاد الانتخابات ممكنة، وإن كان من المؤكد أن الميليشيات التابعة لتركيا ستعقد عملية الانتخابات في كثير من الدوائر.
والأرجح أن تجري عملية الانتخابات وسط إقبال متنوع في كثافته، وفي خروقاته كذلك لصالح أو ضد بعض المرشحين، بالتالي فقد تصبح مراهنة القوى الإسلاموية على تشويه العملية الانتخابية، والتشكيك في مصداقيتها مثلما حدث في انتخابات مجلس النواب عام 2014 أمراً قابلاً للتكرار.
وعلى الرغم من أنه من الصعب التوقعات في الساحة الليبية حول العملية السياسية برمتها وليس فقط الديمقراطية، فإن عدداً مهماً من الوجوه أو الأطراف الرئيسة التي تعرضت للإلغاء ربما تسبب بعض اللغط حال إلغاء ترشحهم، وبخلاف حفتر وصالح والدبيبة تظل احتمالات صعود أو تقدم حصان أسود كرئيس الوزراء الأسبق علي زيدان أو نائب رئيس المجلس الرئاسي السابق أحمد معيتيق، وإن كان بدرجة أقل كثيراً. وفي جميع الأحوال المؤكد أن عناصر الإسلام السياسي لن تتحمل نجاح أي مرشح خلاف ما يريدونه، ما يضفي كثيراً من الغموض على كل المشهد الليبي الراهن.