تزداد درجة حرارة المحيط المتجمد الشماليArctic Ocean ارتفاعاً نتيجة تدفق مياه المحيط الأطلسي إليه منذ بداية القرن العشرين، أي قبل عقود مما كان يعتقد سابقاً، حسبما تفيد دراسة حديثة تشير إلى ثغرة محتملة تشوب النماذج الحاسوبية المعتمدة حالياً في وضع التوقعات الخاصة بتغير المناخ في المستقبل.
وفق الباحثين الذين نهضوا بالدراسة، أخذت وتيرة سخونة المحيط المتجمد الشمالي تتسارع في بداية القرن الماضي مدفوعة بعملية تسمى "أتلانتيفيكيشن" Atlantification (الأطلسة)، تتمثل في استقباله كميات من المياه أكثر دفئاً وملوحة آتية من المحيط الأطلسي.
صحيح أن عملية تحول المحيط المتجمد الشمالي إلى حال أشبه بالمحيط الأطلسي تشكل أحد المحركات الرئيسة للسخونة في تلك المنطقة، غير أن السجلات المفيدة القادرة على رصد هذا التغير، من قبيل بيانات الأقمار الصناعية، ترجع في تاريخها إلى نحو 40 عاماً فقط، كما أوضح الباحثون.
في الدراسة الجديدة، التي نُشرت في مجلة "ساينس أدفانسيس" Science Advances الأربعاء الماضي، أجرت مجموعة دولية من العلماء محاكاة للتاريخ الحديث لسخونة المحيطات عند مدخل المحيط المتجمد الشمالي في منطقة تسمى "مضيق فرام"، الواقع بين غرينلاند وسفالبارد.
بحثاً عن دلالات تؤشر إلى عملية "الأطلسة" المذكورة آنفاً، أعاد الباحثون تمثيل التغير الذي طرأ على خصائص عمود الماء، من بينها درجة الحرارة ومستوى الملوحة، طوال الثمانمئة عام الماضية، وذلك عبر تحليل البيانات الجيوكيماوية والإيكولوجية المستقاة من ترسبات وكائنات مجهرية بحرية مأخوذة من المحيط.
تيسي توماسو، أحد الباحثين الرئيسين في الدراسة من "معهد العلوم القطبية" التابع لـ"المجلس الوطني للبحوث" في بولونيا بإيطاليا، قال إنه وزملاءه عندما اطلعوا "على النطاق الزمني البالغ 800 عام، بدت سجلات درجات الحرارة والملوحة التي في متناولنا ثابتة إلى حد ما".
و"لكن فجأة في بداية القرن العشرين، ظهر (في السجلات) تغير ملحوظ في درجة الحرارة ومستوى الملوحة، ويبدو بارزاً فعلاً"، قال الدكتور توماسو.
نظراً إلى ارتفاع درجة حرارة محيطات العالم بسبب تغير المناخ، يقول الباحثون إن المحيط المتجمد الشمالي، يسجل أسرع معدل في ارتفاع درجات الحرارة، علماً أنه أصغر المحيطات وأقلها عمقاً.
وأشارت دراسات حديثة إلى أن السخونة الذي تشهده المنطقة القطبية الشمالية أسرع بثلاث مرات مقارنة مع بقية مناطق العالم بصفة عامة، مع ارتفاع درجات حرارة المنطقة بما يصل إلى ثلاث درجات مئوية فوق مستويات ما قبل العصر الصناعي. تتسبب هذه الظاهرة في ذوبان الجليد في المنطقة القطبية، ما يرفع تالياً مستويات البحار على الصعيد العالمي، ويغرق الأجزاء المنخفضة من العالم.
تولد هذه العملية حلقة من الآثار المرتدة، إذ يؤدي ذوبان كميات إضافية من الجليد في القطب إلى تعريض مساحة أكبر من سطح المحيط للشمس، متسبباً بانبعاث الحرارة، وارتفاع درجات حرارة الهواء، ما ينتج عنه مزيد من الذوبان، وهكذا دواليك.
كذلك وجدت بعثات علمية حديثة أن هذه التغيرات يمكن أن تحدث تبدلاً جذرياً في النظام الإيكولوجي البحري الذي يحتضنه المحيط المتجمد الشمالي، ما يفسح في المجال أمام أعداد إضافية من الأسماك والميكروبات في المحيط الأطلسي لاستعمار البحار الشمالية والتكيف مع بيئتها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وإذ تستمر درجات الحرارة التي تسجلها المنطقة القطبية الشمالية في الارتفاع، فإنها ستؤدي أيضاً إلى ذوبان الأراضي شبه المتحللة للتربة الصقيعية في النصف الشمالي من الكرة الأرضية، من بينها أجزاء من سيبيريا تختزن كميات هائلة من الميثان.
غاز الدفيئة (الميثان) القابل للاشتعال، الذي يترك تأثيراً أعلى بمقدار 80 مرة من ثاني أكسيد الكربون في السخونة العالمي، يتسبب عند إطلاقه بارتفاع غير عادي في درجات الحرارة في المنطقة، ما يؤدي أيضاً إلى اندلاع حرائق الغابات.
للأسف، "السخونة في المنطقة القطبية الشمالية أسرع بثلاث مرات من الوتيرة المسجلة في بقية مناطق العالم، ويعزى ذلك إلى آليات الآثار المرتدة" التي تحدثنا عنها سابقاً، على ما قال فرانشيسكو موشيتييلو، باحث مشارك في الدراسة، من قسم الجغرافيا في "جامعة كامبريدج".
"استناداً إلى قياسات وفرتها الأقمار الصناعية"، يعلم الدكتور موشيتييلو وزملاؤه "أن المحيط المتجمد الشمالي ما فتئ يشهد ارتفاعاً مطرداً في درجات الحرارة، لا سيما على مدى العشرين عاماً الماضية، ولكن ارتأينا أن نضع السخونة الأخير الذي مر به ضمن نطاق أطول".
أوضح العلماء أن الارتباط بين المحيطين، الشمالي والأطلسي، في مقدور أن يولد التقلب المناخي في المنطقة القطبية الشمالية، ويمكن أن يترك "تأثيرات مهمة" في تراجع مستويات الجليد البحري وارتفاع مستوى سطح البحر العالمي، مع استمرار ذوبان الصفائح الجليدية القطبية.
قال العلماء، استناداً إلى التحليل، إن السخونة التي تشهده المنطقة القطبية الشمالية تربطه علاقة قوية بتباطؤ العملية الطبيعية لحركة المياه في بحر لابرادور، إذ إن درجات حرارة الهواء الباردة والملوحة على سطح الماء تجعل المياه أكثر كثافة، وتدفعها تالياً إلى الأسفل.
"في تصور مستقبلي للسخونة، من المتوقع أن تنخفض حركة المياه في الأعماق في تلك المنطقة شبه القطبية بسبب ذوبان الغطاء الجليدي في غرينلاند. تشير نتائجنا إلى أننا قد نتوقع المزيد من "الأطلسة" في القطب الشمالي مستقبلاً بسبب تغير المناخ"، كما حذر الدكتور موشيتييلو.
كذلك دعا العلماء إلى إعداد نماذج حاسوبية مناخية منقحة تندرج فيها هذه النتائج من أجل تحسين عملية التنبؤ بالآثار التي يطرحها تغير المناخ مستقبلاً.
وأوضح الدكتور توماسو أن "عمليات المحاكاة المناخية عموماً لا تسفر في العادة عن هذا النوع من السخونة في المحيط المتجمد الشمالي، ما يعني أن فهم الآليات التي تحرك عملية الأطلسة ما زال ناقصاً".
وأضاف قائلاً، "نعتمد على هذه المحاكاة من أجل صياغة توقعات بشأن تغير المناخ في المستقبل، ولكن غياب أي علامات تشير إلى سخونة شهده المحيط المتجمد الشمالي في وقت مبكر يبقى جزءاً مفقوداً من اللغز".
© The Independent