على الرغم من عدم وجود أي صراع عسكري مباشر في الفضاء حتى الآن، فإن جهود الدول الكبرى لإثبات قوتها العسكرية في الفضاء تصاعدت بشكل ملحوظ في السنوات الماضية. ويشكل الحطام الفضائي المتناثر نتيجة هذه التجارب العسكرية، خطراً يهدد الفوائد والمنجزات الاقتصادية والعلمية للبشرية جمعاء، التي نجحت بفضل تكنولوجيا الأقمار الاصطناعية في مراقبة المناخ والتنبؤ بالطقس والاتصال بالإنترنت وزيادة إنتاجية المحاصيل الزراعية، لكن تحرك الأمم المتحدة خلال نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، لتحديث معاهدة الفضاء لعام 1967، قد يكون بطيئاً بما لا يواكب التسابق التجاري والعسكري السريع في الفضاء، ما يجعل تحذير العلماء من تشكيل حلقة من الركام والنفايات الفضائية حول الأرض أشبه بكوكب زحل أمراً واقعاً.
أمثلة حية
لم يكن تدمير روسيا قمراً اصطناعياً قديماً لها في الفضاء وزنه 2.5 طن في 15 نوفمبر، وتفتيته إلى أجزاء صغيرة بصاروخ أطلق من قاعدة أرضية، سوى أحدث مثال على صراع القوى العسكرية الكبرى في العالم لإثبات قدراتها العسكرية والتكنولوجية، ففي عام 2007، اختبرت الصين سلاحاً مضاداً للأقمار الاصطناعية، وخلقت سحابة حطام هائلة، كادت محطة الفضاء الدولية تصطدم بإحدى قطعها المتناثرة في العاشر من الشهر الحالي، كما كانت للهند والولايات المتحدة تجارب مماثلة، وإن اختلفت قليلاً في الأثر الذي خلفته.
ومع نمو صناعة الفضاء التجارية وإطلاق آلاف الأقمار الاصطناعية مثل أقمار ورحلات الشركات الخاصة "سبايس إكس" و"بلو أوريغون" الأميركيتين، من المؤكد أن يرى المراقبون مزيداً من الأجسام الفضائية تنتشر في السماء، نظراً لوجود 27000 قطعة من النفايات الفضائية حالياً تتعقبها وزارة الدفاع الأميركية وتدور بسرعة 15700 ميل في الساعة، فضلاً عن مئات الملايين من القطع الأصغر حجماً. بالتالي، سيتزايد وجود النفايات غير المرغوب فيها، ما سيخلق مشكلة كبيرة للرحلات الفضائية والاستكشافية، ويهدد الاعتماد الاقتصادي للبشرية على الفضاء الذي يزداد يوماً بعد يوم.
وبالنسبة إلى كوكب يكافح التلوث على اليابسة وفي الماء والهواء، فإن مدار الأرض في طريقه ليصبح ساحة للنفايات التي ستشكل مع مرور الوقت، بحسب تحذيرات عدد من العلماء، حلقة مرئية تدور حول الأرض مثل حلقة كوكب زحل على الرغم من أن الحلقة التي تدور حول زحل من الصخور والجليد، وليست من صنع البشر.
فضاء عسكري
مع ذلك، فإن الاستخدامات العسكرية للفضاء هي الأكثر خطراً، على الرغم من أن الخطوط الفاصلة بين الاستخدامات العسكرية والمدنية لا تزال غير واضحة، إذ تقدم الأقمار الاصطناعية المدنية خدمات ذات وظيفة عسكرية، ومن شأن ذلك أن يجعل الصراع بين الدول الكبرى أكثر احتمالية، كما أن العمليات التجارية المتزايدة في الفضاء تشكل في حد ذاتها فرصاً للنزاعات حول مناطق تشغيل هذه الأقمار، ما يرجح ردود فعل عسكرية حكومية.
ويعود استخدام الفضاء لأغراض عسكرية للمرة الأولى إلى عام 1942، حين أطلقت ألمانيا النازية أول صاروخ "في 2"، غير أن الاستخدام الأكبر للفضاء في أغراض عسكرية ظهر في خضم الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة. ففي صيف عام 1963، أطلقت واشنطن نصف مليار من الأسلاك النحاسية الرقيقة في محاولة لتثبيت حلقة من هذه الأسلاك حول مدار الأرض ضمن مشروع أطلق عليه اسم "ويستفورد".
مشروع "ويستفورد"
كان الهدف من المشروع، حسب موقع "وايرد" الأميركي، تأمين الاتصالات بموجات الراديو بعيدة المدى في حال شن السوفيات هجوماً وقطعوا كابلات الاتصالات البحرية، إذ لن يكون لدى أميركا سوى الاعتماد على البث بموجات الراديو للتواصل فيما وراء البحار. ولأن الأيونوسفير، وهي طبقة الغلاف الجوي التي تجعل بث الراديو بعيد المدى ممكناً، تتعطل بشكل متكرر بسبب العواصف الشمسية، اقترح علماء معهد "ماساتشوستس" للتكنولوجيا إطلاق نصف مليار من الخيوط النحاسية، بحيث تكون عاكساً تعزز البث بموجات الراديو بعيدة المدى في المدار المنخفض للأرض، بما يحصن الاتصالات بعيدة المدى ضد الاضطرابات الشمسية ومن دون الاعتماد على الغلاف الجوي المتقلب.
وعلى الرغم من غرابة هذا المشروع بمقاييس العصر الحالي، فإن الجنرالات في ذلك الوقت كانوا مسؤولين عن صواريخ "ناسا"، ولم تكن معظم الأقمار الاصطناعية والمركبات الفضائية تحلق في مدار الأرض، وكانت وكالة "ناسا" تعمل بنظرية السماء الكبيرة، بمعنى أن مساحة الفضاء كبيرة جداً لدرجة أن أخطار اصطدام النفايات الفضائية كانت ضئيلة للغاية مقارنة بخطر الشيوعية.
جريمة فضائية
ومع تقدم مشروع "ويستفورد"، دقّ علماء الفضاء والفلك ناقوس الخطر في شأن الآثار السيئة التي يمكن أن تحدثها سحابة المعدن على قدرتهم على رصد النجوم. وبدأت تظهر المخاوف بشأن مشكلة النفايات الفضائية، واعتبر علماء بريطانيون في جامعة "كامبريدج" المشروع جريمة فضائية.
لكن، مع إطلاق الأسلاك النحاسية خلال مايو (أيار) 1963 في مدار منخفض فوق القطبين الشمالي والجنوبي، تحسن البث بموجات الراديو لفترة مؤقتة، غير أن استمرار تشتت الأسلاك التي كان طول كل واحد منها 1.8 سنتيمتر، أدى إلى ضعف استقبال الإشارات. ونظراً لأن الأسلاك كانت خفيفة للغاية، فقد دخل معظمها الغلاف الجوي في غضون سنوات. ويُعتقد أن كثيراً منها احترق في الغلاف الجوي للأرض، وما تبقى يرقد الآن تحت الثلج عند القطبين.
وفي حين لم تتشكل سحابة من الحطام حول الأرض، من المؤكد أن هذا المشروع كان واحداً من أغرب القصص التي تشير بوضوح إلى أن القوة العسكرية هي التي جعلت أولى مهمات الفضاء تسير نحو الأسوأ. فقد أعطت هذه العملية للولايات المتحدة سمعة متهورة، لا سيما بعد قيامها بتجربة نووية على ارتفاعات عالية فوق المحيط الهادي عام 1962، ما أدى إلى نشر الإشعاع في جميع أنحاء العالم.
لكن محاولات استخدام الفضاء للأغراض العسكرية لم تتوقف، فقد تم إطلاق العديد من الأقمار الاصطناعية لأغراض التجسس والمراقبة، واستخدمت تكنولوجيا تحديد المواقع "جي بي أس" لأغراض عسكرية لفترة طويلة قبل انتقالها للاستخدامات المدنية، فضلاً عن استخدامات محطة الفضاء السوفياتية، ومكوك الفضاء التابع لوكالة "ناسا" لأغراض عسكرية، قبل أن تدمر الصين وروسيا أقماراً قديمة لهما في الفضاء وتنشران آلافاً من قطع الحطام في الفضاء التي تهدد بقية الأقمار الاصطناعية والمحطة المدارية الدولية والأنشطة الاستكشافية المستقبلية في الفضاء.
دور الأمم المتحدة
ومع تعاظم أخطار التجارب العسكرية وازدحام الفضاء بالأقمار التجارية المدنية، سلطت الأضواء من جديد على دور منظمة الأمم المتحدة وما يمكن أن تفعله لإنقاذ الفضاء قبل فوات الأوان. ولأن اللجنة الأولى للأمم المتحدة تتعامل مع نزع السلاح والتحديات العالمية وتهديدات السلام التي تؤثر على المجتمع الدولي، فقد وافقت في الأول من نوفمبر الحالي على قرار بإنشاء مجموعة عمل لتقييم التهديدات الحالية والمستقبلية للعمليات الفضائية، وتحديد متى يمكن اعتبار السلوك غير مسؤول، وتقديم توصيات بشأن القواعد والمبادئ التي تحدد السلوك المسؤول، والمساهمة في التفاوض بشأن الاتفاقات الملزمة قانوناً، بما في ذلك معاهدة لمنع سباق التسلح في الفضاء، وهو ما يعد اعترافاً من المنظمة الدولية بالواقع القاسي المتمثل في أن السلام في الفضاء لا يزال ضعيفاً بشكل مثير للقلق.
ثغرات معاهدة 1967
تخضع الأنشطة في الفضاء لمعاهدة الفضاء الخارجي لعام 1967، التي صادقت عليها حتى الآن 111 دولة، على الرغم من أن التفاوض على المعاهدة جرى في ظل الحرب الباردة عندما كان لدولتين فقط، هما الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، ما يشبه احتكار الوصول إلى الفضاء.
غير أن معاهدة الفضاء الخارجي تقدم مبادئ عامة لتوجيه أنشطة الدول، ولا تقدم قواعد مفصلة للعمل بها على طريق واضح، ذلك أن المعاهدة تضمن حرية استكشاف الفضاء واستخدامه لمصلحة البشرية جمعاء، ولا تشمل سوى تحذيرين، بينما هناك فجوات متعددة داخلها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وينص التحذير الأول على أن القمر والأجرام السماوية الأخرى يجب أن تستخدم حصراً للأغراض السلمية، غير أن بقية مساحة الفضاء لم يشملها هذا الحظر الشامل، ولا يوجد سوى توجيه وحيد موجود في ديباجة المعاهدة التي تعترف بالمصلحة المشتركة في التقدم المحرز في استكشاف الفضاء واستخدامه للأغراض السلمية.
وينص التحذير الثاني على أن الذين يقومون بأنشطة في الفضاء يجب أن يفعلوا ذلك مع مراعاتهم الواجبة لمصالح جميع الدول الأطراف الأخرى في المعاهدة. من هنا، تنشأ مشكلة رئيسة من حقيقة أن المعاهدة لا تقدم تعريفات واضحة لتعبيرات مثل "للأغراض السلمية" أو "الاعتبار الواجب"، بحسب ما يقول غريغ أوتري أستاذ قيادة الفضاء في جامعة ولاية أريزونا، وميشيل هانلون أستاذة قانون الفضاء في جامعة "ميسيسبي".
وبينما تحظر معاهدة الفضاء الخارجي على وجه التحديد وضع أسلحة نووية أو أسلحة دمار شامل في أي مكان في الفضاء، فإنها لا تحظر استخدام الأسلحة التقليدية في الفضاء أو استخدام الأسلحة الأرضية ضد الأجسام في الفضاء مثل الأقمار الاصطناعية والمحطات المدارية. ومن غير الواضح إذا ما كانت بعض الأسلحة مثل الصاروخ الصيني المداري الذي تفوق سرعته سرعة الصوت مرات عدة والقادر على حمل أسلحة نووية، يجب أن يندرج تحت الحظر الذي نصت عليه المعاهدة. ولهذا، يرى متخصصون أن القيود العسكرية الغامضة التي تضمنتها المعاهدة تترك مجالاً أوسع من لتأويل التفسيرات، ما يمكن أن يؤدي إلى الصراع.
مستقبل غامض
وعلى الرغم من ذلك، فإن قرار الأمم المتحدة الجديد يعتبره كثيرون مهماً، لأنه يستهدف تطوير معايير قواعد ومبادئ جديدة للسلوك المسؤول. وإذا تم تنفيذه بشكل صحيح، فقد يقطع شوطاً ضرورياً نحو توفير حواجز الحماية اللازمة لمنع الصراع في الفضاء.
وبينما تتعامل لجنة الأمم المتحدة لاستخدام الفضاء الخارجي في الأغراض السلمية مع الأنشطة الفضائية منذ عام 1959، فإن مهمة اللجنة المؤلفة من 95 عضواً هي تعزيز التعاون الدولي ودراسة المشاكل القانونية الناشئة عن استكشاف الفضاء الخارجي. ولهذا، فهي تفتقر إلى أي قدرة على تطبيق القواعد والمبادئ التوجيهية المنصوص عليها في معاهدة الفضاء الخارجي لعام 1967، أو حتى إجبار الجهات الفاعلة على الدخول في مفاوضات.
وما يضعف الأمل في إنجاز سريع أن قرار الأمم المتحدة الصادر مطلع نوفمبر الحالي يتطلب أن تجتمع مجموعة العمل التي تم إنشاؤها حديثاً مرتين في العام في كل من 2022 و2023، الأمر الذي يجعل إحرازها تقدماً ملموساً سيكون بطيئاً مقارنة بوتيرة النشاط الفضائي العسكري والتجاري.