الوقائع تسبق التوقعات مع العودة إلى محادثات فيينا في شأن الاتفاق النووي الإيراني. والتوتر المصحوب بالشكوك في المنطقة يطبع المناخ السياسي أكثر من الارتياح. فلا شيء يوحي بأن إدارة الرئيس جو بايدن جادة في الذهاب إلى خيار عسكري إذا ما فشلت الدبلوماسية، وإن لوّح به وزير الدفاع الزائر الجنرال لويد أوستن، وأشار إليه قائد القيادة المركزية الجنرال كنيث ماكنزي.
ولا أحد يعرف متى يخرج الغرب الأميركي والأوروبي من أوهامه الإيرانية: وهم التصور أن الاتفاق النووي بين طهران ومجموعة "5+1" لعام 2015 يمنع جمهورية الملالي من العمل لتصبح قوة عسكرية نووية. وهم الرهان على "قوى معتدلة" لتغيير سلوك النظام. ووهم الاستعداد للاستثمار والتعاون ورفع العقوبات لإغراء نظام يرفض التحول من ثورة إلى دولة، ويصر على "تصدير الثورة" بأن يصبح جزءاً من المجتمع الدولي، ويعمل في إطار الشرعية الدولية والقانون الدولي.
فما فعلته طهران في خرق التزاماتها بموجب الاتفاق، ولا سيما في تخصيب اليورانيوم، لتصبح "دولة عتبة" جعل العودة إليه كما هو بلا جدوى. وما كان المرشد الأعلى علي خامنئي يسمح به، وهو لعبة الخلاف بين "محافظين ومعتدلين"، انتهت الحاجة إليه، وسيطر المتشددون على رئاسة الجمهورية والحكومة ومجلس الشورى. والترجمة الثابتة في إيران لحديث الغرب عن تغيير السلوك هي عملياً تغيير النظام الذي ينتهي إذا ما تغير سلوكه.
وكما في المضمون كذلك في الشكل: الصور معبرة جداً. إيران بدّلت الوفد المفاوض. المفاوض الأساسي الجديد نائب وزير الخارجية علي باقري كني ضد الاتفاق أصلاً. المشرف عليه هو وزير الخارجية المتشدد حسين أمير عبداللهيان، وفوقه الرئيس المتشدد إبراهيم رئيسي، وفوق الجميع خامنئي.
والولايات المتحدة الأميركية لم تبدّل الوفد عملياً. المفاوض الرئيس روبرت مالي هو نفسه. المشرفون عليه وزير الخارجية أنتوني بلينكن، ونائبته ويندي شيرمان، ومستشار الأمن القومي جايك سوليفان من تلاميذ وزير الخارجية السابق جون كيري، والمشرف الأعلى الرئيس بايدن كان نائب الرئيس باراك أوباما.
وفي المضمون، فإن إدارة بايدن التي تمارس الأوبامية من دون شعبية أوباما تخفف من المطالب بمقدار ما تزيد إيران منها. واشنطن التي ركزت في البدء على الصواريخ الباليستية والسلوك الإيراني "المزعزع للاستقرار" والرغبة في اتفاق "أقوى وأكثر استدامة"، بدأت تتحدث عن "اتفاق مؤقت "وترك النقاط الباقية إلى مرحلة يصعب أن تأتي. وطهران تبدو كمن يريد أن يفرض شروط المنتصر على المهزوم. علي باقري يرى أنه "ليس لدينا محادثات نووية، بل التبعات الناجمة عن الانسحاب الأميركي". وترجمة ذلك أن الرئيس دونالد ترمب ارتكب غلطة بالخروج من الاتفاق، وعلى بايدن تصحيح الغلطة بالعودة إليه كما هو. لا، بل إن جمهورية الملالي تضع ثلاثة شروط لعودتها إلى الالتزامات بموجب الاتفاق، وهي: "رفع العقوبات دفعة واحدة، وضمان عدم الانسحاب مرة أخرى، ولا تفاوض على الباليستي والنفوذ"، ثم تضيف إليها شرطاً رابعاً هو اعتراف أميركا بأنها "المذنب الأساسي"، والتراجع عن المسار الذي سلكته وعملياً تغيير سلوكها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وذلك ليس ممكناً، ولو أرادت الإدارة الأميركية. فلا بايدن يستطيع رفع عقوبات أقرها الكونغرس وأخرى مرتبطة بمسائل غير الملف النووي، ولا هو قادر على إعطاء ضمان عدم الانسحاب، لأن ذلك يتطلب عرض الاتفاق النووي على مجلس الشيوخ كمعاهدة تحتاج إلى تصديق الكونغرس، وهو مهمة مستحيلة هرب أوباما منها.
ولا قيمة للاتفاق النووي وحده. فالصواريخ الباليستية والمسيّرات وامتداد النفوذ الإقليمي الإيراني من خلال "ستة جيوش" في بلدان المنطقة أخطر من السلاح النووي. والتخوف العربي من صفقة أميركية - إيرانية على طريقة أوباما تسلم للملالي بالنفوذ في العراق وسوريا ولبنان واليمن يواجه تخفيف واشنطن التزاماتها حيال حلفائها والأصدقاء، وغطرسة إيرانية خلاصتها: لسنا بحاجة إلى صفقة مع أميركا في شأن نفوذنا الإقليمي، فنحن نحكم أربع عواصم عربية سلفاً.
كان فريديريك الكبير يقول: "دبلوماسية بلا قوة مثل الموسيقى بلا آلات"، لكن إدارة بايدن، كما رأى المعلق الإسرائيلي العسكري عاموس هرئيل، "تعتبر الدبلوماسية ديانة، وليست أداة". والمسار طويل ومتعرج بين لاعب الشطرنج ولاعب البايسبول.