على الرغم من فداحة المجريات الإثيوبية على صعيد الحرب الأهلية، وتداعياتها على مؤسسة الدولة الإثيوبية من جهة وكذلك الخسائر المرتبطة بهذه الحرب على المستويات الاستراتيجية داخلياً وخارجياً من جهة ثانية، فإن السؤال الذي يقفز إلى الأذهان وحاضر في كل معالجات الفضائيات العربية والأجنبية، هو ما تأثيرات المجريات الإثيوبية على سد النهضة؟ وهل أي نظام سياسي جديد في إثيوبيا سوف يستكمل هذا المشروع الضخم؟ وهل يتم تعديله ليكون آلية تعاون بدلاً من كونه آلية صراع إقليمي واسع المدى؟ ثم هل سوف تحميه قوى خارجية إذا انهارت إثيوبيا؟ وكيف تتفاعل مصر والسودان مع المجريات الإثيوبية طبقاً لمحددات مصالحهما المرتبطة بسد النهضة؟
الأطراف الثلاثة
هذه الأسئلة المتنوعة وغيرها تجعل موضوع سد النهضة حاضراً على الرغم من كونه غير مرئي في المنصات السياسية والإعلامية على مستوى التفاعلات بشأنه بين الأطراف الثلاثة، ولكن هذا الغياب لسد النهضة عن بؤر الاهتمام المباشر، لا ينفي أن مصر على وجه التحديد والدقة، تضعه على قمة أجندتها السياسية، وهو حاضر في كل تفاعلات القاهرة مع العواصم العالمية كافة، وفي المناسبات السياسية والاقتصادية داخل مصر وخارجها، حيث احتل هذا الملف وزنه المناسب في الحوار الاستراتيجي بين القاهرة وواشنطن مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وهو الحوار الذي ناقش فيه وزير الخارجية المصري سامح شكري كيفية إدارة المصالح الاستراتيجية بين القاهرة والولايات المتحدة الأميركية.
وبطبيعة الحال، تبدو المصالح الأميركية مرتبطة بضمان استقرار إقليم الشرق الأوسط، وذلك مع الانسحاب الأميركي منه، وإعادة التموضع في الشرق الأدنى، وما يترتب على هذا التموضع الجديد من ضمان الأمن الإسرائيلي مع إحدى أهم دول الطوق لإسرائيل وهي مصر، التي تملك قوة عسكرية مصنفة عالمياً في موقع متقدم، كما أنها تملك قوة بشرية لا يمكن إهمالها في الموازين الاستراتيجية.
جهود مصرية
وعلى نحو موازٍ، فإن هناك جهوداً مصرية بهذا الشأن في الكونغرس الأميركي، ومنها لقاءات وزير الخارجية المصري سامح شكري مع السيناتور الأميركي كريس فان هولن، وغيره من أعضاء الكونغرس.
وفي السياق ذاته، فإن كل لقاءات القمة التي عقدها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مع قادة الدول الأوروبية منذ اندلاع الحرب الأهلية الإثيوبية، قد فتحت هذا الملف المرتبط بالأمن الإقليمي الأفريقي وطبيعة تداعياته المباشرة على الأمن الأوروبي، خصوصاً تداعيات ارتفاع مستويات الفقر في شمال أفريقيا نتيجة شح المياه، وما يترتب على ذلك من هجرة غير شرعية، وهو ما تم طرحه في القاهرة أخيراً في اجتماع ضم وزير الخارجية المصري، ومبعوثة الاتحاد الأوروبي للقرن الأفريقي أنيت ويبر.
سد النهضة حاضر على جبهة القتال
على المستوى السوداني، فإن ملف سد النهضة حاضر على جبهة القتال الحدودية بين إثيوبيا والسودان، وهي الجبهة التي تستخدمها أديس أبابا عادة للضغط على الخرطوم في ملف سد النهضة، إذ ربطت بين الملفين اعتباراً من مارس (آذار) 2020، ومارست ضغوطاً عسكرية متوالية لم تتوقف حتى مع تعدد جبهات القتال التي يحارب فيها كل من الجيش الإثيوبي الفيدرالي، وميليشيات "الأمهرة"، اعتماداً على تقدير موقف خاطئ أن السودان قد يكون معوّلاً على تردي الأوضاع الإثيوبية، وطبيعة أوضاعه الداخلية في إهمال ملف منطقة الفشقة، ولكن، واقعياً، تثبت القوات المسلحة السودانية كفاءة وقدرة في الحفاظ على أراضيها التي تم استرجاعها خلال العام الماضي، وذلك من دون إعلان عداء صريح مع إثيوبيا طبقاً لتصريحات الفريق عبد الفتاح البرهان من مواقع الجبهة أخيراً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما على الصعيد الإثيوبي الداخلي، فإن التفاعلات المرتبطة بسد النهضة تملك عدداً من السيناريوهات، الأول، ما يرتبط بالقدرة على عدم انزلاق إثيوبيا إلى حال الانهيار الشامل، واتساع نطاق الحرب الأهلية، بمعنى آخر، أن يتغير النظام السياسي، وتتغير الحكومة، عبر محطة الحوار السياسي، ولكن هذا التطور سيكون أحد شروطه أن يتم تنفيذ اتفاق الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) 2021 بين الأذرع المسلحة للقوميات الإثيوبية، واللافت جداً في هذا الاتفاق هو الموافقة على مطالبة إقليم "بني شنقول" المقام فيه سد النهضة بكونفيدرالية، أي حكم ذاتي أو شبه انفصال، وليس الانضمام إلى الفيدرالية الإثيوبية، ما يعني أن القرار السياسي سيكون مستقلاً في الإقليم، وقد يكون بالإمكان هنا الانضمام للسودان كما تريد جبهة تحرير "بني شنقول"، وكذلك السودان الذي يقول إنه قد نفذ من جانبه التزاماته في اتفاقية 1902، إذ سلم إثيوبيا منطقة "جامبيلا"، بينما لم تنفذ إثيوبيا نصيبها من الاتفاقية وهو تسليم "بني شنقول" بالمقابل للسودان.
"نصفها من السودانيين"
وقد يرجح سيناريو انضمام "بني شنقول" إلى السودان أن كثافة الإقليم السكانية ضعيفة، "نصفها من السودانيين"، وقد لا تملك شروط استقرار حال حكم ذاتي، أو كونفيدرالية بين دولتين كبيرتين هما إثيوبيا والسودان.
أما السيناريو الثاني فهو انهيار الدولة الإثيوبية بالفعل واتساع نطاق الحرب الأهلية، وهو سيناريو يجعل سد النهضة في مهب الريح، وغير مسؤولة عنه جهة محددة، وبطبيعة الحال، تتوقف مراحل استكماله، وربما هذا التدهور المتوقع هو ما يفسر الدعم الصيني للحكومة الإثيوبية الحالية، إذ إن حجم الاستثمارات الصينية في هذا السد كبيرة، والخسائر المترتبة على عدم الاستمرار في بنائه وإنهائه أكبر.
إن سيناريو انهيار الدولة الإثيوبية قد يفتح الباب لتدخلات عسكرية خارجية لحماية السد، أبرزها التدخلات الأميركية على اعتبار أن الولايات المتحدة تملك قاعدة عسكرية كبيرة في جيبوتي، وهو ما ألمح إليه في حوار مع الـ"بي بي سي"، قائد القاعدة العسكرية في جيبوتي، من أن هذا التدخل ستكون له حسابات مغايرة لتلك التي أعلنتها الولايات المتحدة الأميركية كتوجهات استراتيجية، وهي عدم التدخل العسكري الأميركي في أي من مناطق العالم، كما أن نتائجه غير محسومة لصالح واشنطن، ولعلنا نتذكر هنا عملية الأمل الأميركية في الصومال التي وصمت العملية العسكرية الأميركية بعار ما زال في الذاكرة الأميركية والإقليمية.
سيناريو الحرب الأهلية
السيناريو الثالث بالنسبة إلى سد النهضة هو القفز على سيناريو الحرب الأهلية الإثيوبية الشاملة، وتحقيق حال استقرار للدولة الإثيوبية في غضون عامين، هنا سيكون الوزن السياسي لقومية الـ"تيغراي" وزناً رئيساً ومؤثراً، وينهض مشروع سد النهضة، الذي وضع لبنته الأولى ملس زيناوي، الزعيم "التيغراوي" الأشهر وصاحب المشروع القومي الإثيوبي الشامل.
وقد يكون من المرجح أن يتم التوافق على إدارة السد وتشغيله تحت مظلة تعاونية بين الدول الثلاث، وربما قد يذهب الأمر إلى تعديلات في حجم تخزين بحيرة سد النهضة، إذ إن حجم التخزين الضخم يثبت مع التطورات والتدقيق العلمي أنه مهدد للسودان على نحو وجودي.
بالإجمال يمكن القول إن متلازمة الحرب الأهلية الإثيوبية وسد النهضة هي متلازمة سوف تستمر طويلاً نسبياً، وسوف تكون مؤثرة في مجمل الأوضاع السياسية والإنسانية في ثلاثة أقاليم شاسعة هي حوض النيل وشمال أفريقيا فضلاً عن منطقة القرن الأفريقي، وطبقاً لهذا التأثير الواسع، فإن الفاعلية الدولية فيه مطلوبة وبإلحاح.