تعد الكاتبة المصرية هدى يونس من بين قلائل في جيلها أخلصوا لفن القصة القصيرة ولم تغوها مقولة "زمن الرواية"، فأصدرت "محاولة استعادة بناء الجسد"، و"سرمدية ضوء"، ثم "سطوع الخفوت" (هيئة الكتاب). والمجموعة الأخيرة تحوي خمس عشرة قصة تمتاز بالقصر. هذا التكثيف يرجع إلى أن الكاتبة لا تتوقف كثيراً أمام خلفيات الشخصيات أو ملامحهم الظاهرة إلا بإشارات سريعة موحية. فالفكرة هي بطل كل قصة ويظهر ذلك منذ العنوان الذي يحتوي مفارقة واضحة بين السطوع والخفوت، وهو ما نجد له تجليات في قصص المجموعة من خلال المزج مثلاً بين اليقين والظن والخير والشر والإنسان الطبيعي والكائن الخرافي، والصمت والبوح، والموت والحياة والجفاف والازدهار. وفي مقابل هذه المفارقات الواضحة نجد ما يمكن أن نسميه بنية "التوازي" حين تحمل الأحداث المختلفة دلالة واحدة حيث تصور -مثلاً- طائراً يقاتل طائراً آخر، أو دقائق تطارد ساعة -على ما فيها من مجاز- قبل الحديث عن الفرق التكفيرية التي تحلل القتل والتدمير، وذلك في قصة "عين ونافذة". واللغة المستخدمة هنا شديدة الدقة فهي لم تقل "طائران يتقاتلان" ما يعني أن القتال متبادل، بل قالت "طائر يقاتل طائراً"؛ ما يجعل الطائر الأول استعارة تصريحية في الدلالة على الفرقة التكفيرية، والثاني على ذلك الأب الذي يحتمي بالأسوار من دون جدوى.
وتستمر بنية التوازي هذه حين تماثل الساردة بين "نهاية حدود التخريب"، ورؤيتها فرعاً منتصباً "يزهو بوردة"، كناية عن انتصار إرادة الحياة في مقابل الموت والتخريب.
إرادة الحياة
وكما توحي حركة الطبيعة بانتصار إرادة الحياة، فإن حركة الإنسان نفسه دالة على تشبثه بالحياة. ففي قصة "عطش" يظل البطل "يبحث عن بئر ماء تروي عطشه وعطش طيور تتجمع حوله". وعلى الرغم من جلوسه هامداً يجاذب حيرته تظل عدته للخلاص من هذا الواقع هي محاولته التحليق مثل طيوره. لكن القصة لا ترسم أملاً ساذجاً أو يمكن إدراكه في يسر حيث تظل كل الاحتمالات واردة... "فبعيداً عنه تتحرك شعلة في ظلمة كشفت طريقاً أو ربما نفقاً". فالساردة على وعي بأنها قد تكون أمام طريق يفضي بها إلى هدفها أو نفق يقيد خطواتها ويحد من حركتها. وفي قصة "نبض" تعود إلى ما يمكن تسميته بالمفارقة المشهدية حين تقارن الساردة بين ذلك المريض الذي "يحرك ذراعيه المربوطتين بسرير غرفة الإنعاش"، دون أن يقوى على تخليصهما فيستسلم لما هو فيه. ثم حين يرى "نافذة مفتوحة يدخل منها الضوء"، يدخل في حالة مفارقة لحالته الأولى فيخرج بحلمه منتصراً ويداه تتحركان في يسر.
وهكذا تتجلى ثنائية العجز والقدرة. كما تتجلى ثنائية اليقين والظنون في قصة "وشم الوجدان" التي تبدأ بقولها "شغف اليقين يتوارى حين تهجم الظنون ولهذا فإن آلام البشر وخلاص العالم من الشر يظل حلماً لا تفتح أبوابه إلا في النوم، ولا يكون أمام الذات سوى الهروب إلى الداخل حرصاً على حمايتها من رؤية ما يزيد نفورها".
اتصال وانفصال
وإذا كانت الكاتبة قد قسمت قصة "عين ونافذة" إلى ومضات تحمل كل ومضة عنواناً، فإنها في قصة "وشم الوجدان"، توزع القصة إلى مقاطع يدور كل مقطع حول حكاية منفصلة متصلة في آن مع غيرها من الحكايات. فيدور المقطع الثاني حول ذلك الرجل الذي كان يقود عربته فاعترضه سائق دراجة وسبه، فما كان من الرجل إلا أن نزل من عربته وأشعل فيه النار، ويرى أن هذا التصرف "عادي جداً". وهي حكاية تفسر استحالة خلاص العالم من الشر على نحو ما أشارت الساردة في المقطع الأول. واللافت أن هذا الصراع ينتقل إلى عالم الجن والشياطين في تلك الحكاية الخرافية التي تتحول فيها "الغزالة" إلى فتاة في غاية الحسن بعد أن يخلصها الملك ووزيره من الثعبان والحية فتخبرهما أنها أميرة ابنة ملك الجان. أما الثعبان والحية فمن مملكة الشياطين اختطفاها وأرادا إجبارها على الزواج. ووسط هذه الصراعات يصبح من الطبيعي أن تتذكر الساردة قبر أمها وتُفاجأ بكونه مفتوحاً. ويفسر حارس القبور الأمر لها بقوله إن "الأسرة شيدت مدافن جديدة قريبة من هنا ومقبرة الوالدة مهجورة بعد أن وضعت سارقة القبور يدها عليها"، ما يعني أن الموتى لم يسلموا هم أيضاً من شرور العالم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأحياناً يكون سبب هذا الصراع أو الاعتداء مجهولاً. هذا ما يحكيه بطل قصة "ظل الغيث" الذي يتعرض للإيذاء من أناس لا يعرفهم حين يقول للساردة "رحنا أنا ومحمد ابني لشقته الجديدة اللي تحت التشطيب. اتجمعوا وحاوطوني وفضلوا يضربوني"، من دون أن يعرف من هم وما السبب في ذلك. ويصل التناقض إلى حدود الفرد ذاته حين يكون سلوكه متناقضاً. تقول شخصية أخرى للساردة في القصة نفسها "أصلي أحياناً وأتصدق وأداوم على شرب الخمر لأنه يساعدني على الإبداع". وهو ما يذكرنا بقول صلاح عبد الصبور عن الناس إنهم "جارحون كالصقور"، وفي الوقت نفسه "طيبون حين يملكون قبضتي نقود".
طرفان متقابلان
وفي قصة "حدث في الشتاء" نصبح أمام طرفين متقابلين يرى كل منهما جانباً من الحياة مغايراً لما يراه الآخر، "أحدثك عن الغرام وتحدثينني عن الظلام. أحدثك عن براح الحرية وفك قيود الأرواح وتحدثينني عما تواجهينه من ضيق أفق وتعنت رؤى الأشخاص. أحدثك عن مقاومة روحك الرافضة للهزيمة وتحدثينني عن الضعف وقلة الحيلة". واللافت أن الطرفين غير متناقضين في حقيقة الأمر؛ لأن ما يشيران إليه موجود في الحياة التي تزخر بالمتناقضات. ولعل هذا ما يفسر توحد الطرفين في نهاية القصة حين يقول "صحو عينيها يروي جفافي بما يحمله وتملكه. أنا كالشجرة العجوز لا أعرف إن كانت حية أو ميتة إلا بعد انتهاء الشتاء وجعلنا معه ننتظر". وفي القصة / الومضة "أزل" نجد الكاتبة تميل إلى تأمل المشاعر عند اللقاء وبعد تكرار اللقاءات التي تؤدي إلى التخلي عن الحذر ثم ترقب أيهما يبدأ بالكلام. هذا التدرج يستدعي قول أحمد شوقي "نظرة فابتسامة فسلام / فكلام فموعد فلقاء".
وفي قصة "صحراء" تصور الساردة طريقاً طويلاً تعيق رماله الخطو، كما تصور حالة القنص المباغت في ذروة الإحساس بالحياة... "رؤيتي للسمك في رقصة طيرانه واستغلال النورس حالته واقتناصه". ويبدو أن الأم هي طوق نجاة الساردة وسط أمواج الحياة، لهذا فإن وطأة الشعور بحرمانها منها لا تفارقها. تقول في قصة "مسارب" "أنا لا أملك يقيناً يؤكد أو ينفي. شجن يملؤني. لوعتي بسبب حرماني من أمي لا تفارقني. أكابد أحياناً تشتتاً وحيرة وأحياناً أنعم بالتجلي والتركيز". إن ذكر الأم والأسلاف دائماً دال على إيمان الكاتبة بتواصل الأجيال وهو ما يظهر في قصة "إصرار" حين تقول "يداي تدقان جدران جدي كي تفتح. أحلم أن يمنحني ذاكرة مرتبة كي أحكي لابنتي التي تعشق ما يُروى".