منذ أصبحت بريطانيا رسمياً خارج الاتحاد الأوروبي "بريكست" يوم 31 يناير (كانون الثاني) 2021، لم تخل وسائل الإعلام البريطانية يوماً على مدى العام الأول من الإشارة إليه. ليس فقط من باب الرأي والتحليل، من مؤيدي بريكست ومعارضيه، إنما في الأخبار اليومية السيارة حول القضايا والمشكلات الآنية، بدءاً من أزمة عبور الشاحنات بين أوروبا وبريطانيا مطلع العام، حتى مشكلة إيصال الأدوية من بريطانيا لإيرلندا الشمالية قرب نهاية العام.
الأيام الأخيرة من العام تشهد وصول المفاوضات بشأن بروتوكول إيرلندا الشمالية إلى حد الانهيار، بالضبط كما حدث مع اتفاقية بريكست التي خرجت بموجبها لندن من الاتحاد الأوروبي. وكانت الاتفاقية على وشك الانهيار وخروج بريطانيا من دون اتفاق، ليتم التوافق عليها في اللحظات الأخيرة قبل نهاية عام 2020.
ونتيجة التهديد بانهيار بروتوكول إيرلندا الشمالية ضمن الاتفاقية التجارية لبريكست بين بروكسل ولندن، علقت الولايات المتحدة إلغاء العقوبات على صادرات الصلب والألومنيوم البريطانية إلى أميركا، على الرغم من إلغاء تلك العقوبات على الاتحاد الأوروبي.
ربما يكون من المبكر وضع كشف حساب إجمالي للعام الأول لبريطانيا خارج الاتحاد الأوروبي، لكن نظرة سريعة على أهم محطات هذا العام توضح المكاسب والخسائر على الجانبين نتيجة خروج بريطانيا رسمياً ونهائياً من الاتحاد والسوق الأوروبية المشتركة، خصوصاً أن هناك كثيراً من القضايا لم تحسم، على الرغم من اتفاقية بريكست التي أقرها البرلمان الأوروبي ومجلس العموم (البرلمان البريطاني) مطلع هذا العام. من بين القضايا غير المحسومة، الحدود التجارية والجمركية بين إيرلندا الشمالية وجمهورية إيرلندا، واتفاق حقوق الصيد المؤقت في المياه المشتركة بين أوروبا وبريطانيا وقضايا أخرى من بينها مشاركة بريطانيا في مشروعات البحث العلمي الأوروبية.
إيرلندا الشمالية
ربما تعد القضية الأكثر حساسية، المتعلقة بالسيادة، هي بروتوكول إيرلندا الشمالية الذي تم التوصل إليه لتفادي إقامة حدود فعلية بينها وبين جمهورية إيرلندا. ويتعلق البروتوكول بالحفاظ على اتفاقية "الجمعة الطيبة" التي أحلت السلام بين "الشمالية" والحكومة البريطانية، وأنهت سنوات طويلة من الصراع ومحاولة انفصالها عن المملكة المتحدة.
ولكي يضمن الاتحاد الأوروبي ألا تكون إيرلندا الشمالية، التي تتشارك حدوداً برية مع جمهورية إيرلندا العضو في الاتحاد الأوروبي، بوابة خلفية للسلع والبضائع والخدمات البريطانية إلى السوق المشتركة تم الاتفاق على بروتوكول خاص بإيرلندا.
لكن الشركات البريطانية تشكو الإجراءات الإضافية والتعقيدات الجديدة المفروضة على منتجاتها التي تصل إلى إيرلندا الشمالية، إذ عملياً تخضع كل تلك التجارة إلى شروط اتفاقية بريكست. وفي الفترة الأخيرة أثارت لندن مشكلة توصيل الأدوية إلى إيرلندا الشمالية، وتريد بريطانيا تعديل البروتوكول، وذلك يتعين أن يتم بالاتفاق مع المفوضية الأوروبية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
خلال المفاوضات، تشددت بروكسل فهددت لندن بتفعيل المادة 16 من الاتفاقية، أي اعتبارها لاغية والتصرف من دونها. وبالطبع إذا فعلت بريطانيا ذلك سيلجأ الاتحاد الأوروبي إلى رد فعل عقابي بإعادة فرض رسوم وجمارك وتقييد وصول بريطانيا للسوق المشتركة.
ولأن أحداً في الجانبين لا يريد الوصول إلى تلك الحالة، تراجع كبير المفاوضين البريطانيين ديفيد فروست عن ذلك التهديد قبل عطلات أعياد الميلاد، لتتواصل المفاوضات مع الفريق الأوروبي حول إيرلندا الشمالية، إذا لم يتم التوصل إلى تفاهم وحل وسط خلال الأيام القليلة المتبقية من عام 2021، كما حدث مع اتفاق بريكست الرئيس العام الماضي، يمكن أن تستمر المفاوضات في العام الجديد 2022.
اتفاقيات التجارة الحرة
هذا الجدل والخلاف حول بروتوكول إيرلندا الشمالية بين بريطانيا وأوروبا يؤثر سلباً في فرص إبرام اتفاقية تجارة حرة بين لندن وواشنطن. وذلك أحد أهداف حكومة بوريس جونسون التي تدافع عن بريكست باعتباره أعطى بريطانيا فرصاً تجارية أفضل وهي خارج أوروبا. لكن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن ليست متحمسة لإبرام تلك الاتفاقية بسرعة، وواضح أنها تربطها بحل مشكلات بريطانيا مع أوروبا أولاً، حتى زيارة وزير التجارة الدولية في الحكومة البريطانية "آن – ماري ترفليان" إلى واشنطن قبل أعياد الميلاد، التي كان الهدف منها دفع مفاوضات اتفاقية التجارة الحرة، تركزت على إقناع الإدارة الأميركية برفع العقوبات عن صادرات بريطانيا أسوة بما حدث مع الصادرات الأوروبية.
خلال العام الأول من بريكست، توصلت بريطانيا إلى اتفاقيات تجارة حرة مع عدد من شركائها التجاريين مثل اليابان وأستراليا ونيوزيلاندا وكوريا الجنوبية وفيتنام وسنغافورة. لكن الاتفاق الأهم الذي كانت تسعى لإتمامه بسرعة هو مع الولايات المتحدة الأميركية، لكن الجدل بشأن إيرلندا الشمالية عطل ذلك إلى أجل غير مسمى.
في تحليل أعد لصحيفة "اندبندنت" من قبل كبار الأكاديميين في مرصد السياسات التجارية البريطانية في جامعة ساسكس، خلص الباحثون إلى أن كل اتفاقيات التجارة الحرة التي أبرمتها بريطانية لا تعادل أكثر مما بين 0.01 و0.02 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي البريطاني على مدى الـ15 عاماً المقبلة. بينما قدرت الحكومة البريطانية نفسها الخسائر نتيجة بريكست بنسبة 4 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في الفترة نفسها.
وهكذا، تكون خسائر بريطانيا من بريكست أكبر 187 مرة من مكاسبها من اتفاقيات التجارة الحرة التي أبرمتها وهي خارج الاتحاد الأوروبي.
ويشير التحليل الخاص بـ"اندبندنت" إلى أن أغلب تلك الاتفاقيات ليست سوى شروط وبنود مماثلة لما كانت تتمتع به بريطانيا وهي ضمن أوروبا. وكتب كبير الاقتصاديين الذين أعدوا التحليل، البروفيسور "آلان وينتر"، عن تلك الاتفاقيات، "إنها لا تضيف شيئاً للتجارة البريطانية، لأنها ليست حتى نسخاً (من اتفاقيات تلك الدول مع الاتحاد الأوروبي) جيدة".
مشكلات أخرى
القضية الأخرى التي كانت ضمن شعارات أنصار بريكست منذ استفتاء عام 2016 وتم اختبارها في العام الأول، بعد مسألة اتفاقيات التجارة و"تولي بريطانيا زمام أمورها بنفسها"، هي قضية الهجرة. وكان حشد نصف البريطانيين للتصويت لصالح بريكست قبل خمس سنوات اعتمد على إثارة مشكلة الهجرة إلى بريطانيا، وكيف أن "هؤلاء المهاجرين يأخذون وظائف البريطانيين".
حين تفاقمت أزمة محطات البنزين بنهاية الصيف، أفاق البريطانيون على أن السبب الرئيس في نقص سائقي الشاحنات هو رحيل حوالى 24 ألف سائق من أوروبا عن بريطانيا مع بريكست. ولم تفلح محاولة الحكومة تعديل قوانين الهجرة والتأشيرات في جلب السائقين أو عمل الزراعة الموسميين في ظل النقص الشديد الذي واجهته بريطانيا.
ليس هذا فحسب، بل إن كارثة غرق العشرات من المهاجرين بشكل غير شرعي في حادث القارب بين فرنسا وبريطانيا في نوفمبر (تشرين الثاني) كانت جرس إنذار حول زيادة أعداد المهاجرين بطرق غير رسمية. وتشددت فرنسا، وخلفها كل دول الاتحاد الأوروبي، في عدم الاستجابة لطلب بريطانيا لحماية حدودها البحرية من موجات الهجرة تلك التي زادت بقوة بعد بريكست.
أما الاتفاق المؤقت لحدود الصين ضمن اتفاقية بريكست فكان سبباً في اندلاع أزمة مرتين مع فرنسا، كادت إحداهما تتحول إلى مناوشة عسكرية حين أغلق الصيادون الفرنسيون في مايو (أيار) ميناء جزيرة جيرسي البريطانية احتجاجاً على عدم منحهم تصاريح صيد بعد بريكست. وتكرر الأمر قرب نهاية العام حين احتجزت السلطات الفرنسية قارب صيد بريطاني في أحد موانئها.
أما القطاع الذي كان أكثر تأثراً في العام الأول لبريكست، ويتوقع أن يستمر كذلك حتى يتم التوصل لاتفاقيات نهائية بشأنه، فهو القطاع المالي. وخلال مفاوضات بريكست في عام 2020 اشتكى رجال المال والأعمال من أن تلك المفاوضات أهملت تماماً القطاع المالي ضمن اتفاقية بريكست. وخسر حي المال والأعمال (سيتي أوف لندن) في العاصمة البريطانية قدراً كبيراً من نشاط المصارف والمؤسسات المالية الدولية التي كانت تتعامل في أوروبا من لندن بحرية قبل بريكست. وكان ذلك لصالح أسواق أوروبية مثل أمستردام وباريس وفرانكفورت.