عندما نادى محمد التركي، رئيس لجنة مهرجان البحر الأحمر السينمائي على المخرجة السعودية هيفاء المنصور في حفل افتتاح النسخة الأولى للمهرجان ليتم تكريمها باعتبارها أحد الأسماء البارزة في صناعة السينما، قالت في بداية كلمتها العاطفية التي ألقتها "أتمنى أن أستطيع التكلم من دون أن أبكي" ليقابلها الجمهور بتحية عاصفة باستثناء واحد لم يصفق، بل بكى بالنيابة عنها.
أحمد الملا، الشاعر ومؤسس مهرجان أفلام السعودية قبل أكثر من 15 عاماً ومديره، كان ضمن ضيوف الحفل، لم يتمالك دموعه في تلك اللحظة، إذ كان ينظر إلى ما هو أبعد من المشهد الماثل أمامه. التقيته في صباح اليوم التالي في مدخل الفندق الذي يسكن فيه ضيوف المهرجان، سألته عن سر تلك الدموع التي لمحتها خلسة، فبكى مجدداً. أخذنا الحوار العابر إلى تجربته في مهرجان أفلام السعودية القديم، مقابل مهرجان البحر الأحمر الدولي الذي يُقام الآن، وأين يضع التجربة المحلية في خريطة الصناعة وما هي أبرز مشكلاتها، وبالطبع الدموع وهيفاء المنصور.
هيفاء ترمز إلى مرحلة
"لو أكتبُ أياماً حلمتُ بشموسها ستأتي، لرسمتُ مدناً مضاءة بخطاك. كم سكنت نوافذها رغباتي ولاح طينها غائراً في الحنين"، أحمد الملا 1991.
يقول المُلّا إن تكريم هيفاء المنصور كان لحظة تاريخية، "الحضور فرحوا بتكريمها لقيمتها السينمائية ثم مرّ عليهم المشهد بشكل سريع، لكن لا يكون الأمر كذلك مع شخص لديه ذاكرة طويلة في الصناعة مثلي. في تلك اللحظة، تذكّرت كيف كنا نتعامل مع أشرطة الفيديو في فترة كان كثير من محتواها ممنوعاً وتتم مصادرته، كنّا نغيّر الأسماء المكتوبة عليها حتى لا تتم مصادرتها من منافذ التوزيع، بل وكنّا نهرّبها إلى السعودية ثم نتداولها بيننا. أتذكّر أن نسخاً كانت تلف البلاد كلها ثم تعود إلى صاحبها لعدم توافر نسخ أخرى منها"، يتوقف قليلاً هنا ثم يربط، قائلاً "في المقابل، اليوم أشاهد هيفاء بنت عبد الرحمن المنصور، الشاعر الحداثي الذي مثّل مرحلة صعبة تشبه ابنته، التي خاضت بدورها تجربة صعبة اضطرتها في كثير من الأحيان إلى الاختباء داخل سيارة حتى تخرج أفلامها، واليوم أشاهدها هنا في المكان ذاته الذي أرهق تجربتها، يتم تكريمها فوق المسرح بجوار كاترين دينوف وليلى علوي اللتين عاشتا السينما بشكلها المريح. أراها لحظة تاريخية عميقة".
استوقفت استطراده وسألته إلى ما ترمز هذه اللحظة بالنسبة إليه؟. فقال "هيفاء لم تشعر يوماً أنها منبوذة من مجتمعها وقررت أن تنتمي لمكان آخر، بل أصرّت على العمل في هذا المكان الذي وقفت فيه اليوم أمام أبنائها الذين أحضرتهم معها لتنال تكريمها، بالنسبة لي أنا أؤرّخ للسينما بهذه اللحظة".
المهرجان والحركة السينمائية… من يصنع الآخر؟
"الوصفة التي خطَّها الطبيب، لم أجرؤ على صرفها، وضعتُها إلى جانب قصائد خربة، حينها عرفتُ لماذا يصرّ الأطباء على خط ما لا يُقرأ، كما الشعراء عندما يَفسُدُ الشعر في أيديهم ولا ينفع معه علاج"، أحمد الملا 2018.
عوداً إلى مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، المقام في مدينة جدة من 6 - 13 ديسمبر (كانون الأول)، تداولنا سؤالاً حول العلاقة بين المهرجانات والحركة السينمائية، والجدوى من هذه المناسبات على القطاع المحلي، فقال، "لا يمكن أن تكون هناك صناعة أفلام من دون مهرجان، فبالنظر إلى الخطط التي تُعلن في السعودية نرى أنها تتجه لمنطقة مختلفة عمّا كانت عليه في السابق". ويضيف "مثلاً، في استراتيجية السينما، أعلنت وزارة الثقافة سعيها إلى إنتاج 100 فيلم في السنة داخلياً في 2030، يشمل ذلك المشاريع الأجنبية المصورة في مواقع سعودية، هذا عدد ضخم مقارنة بمصر التي لا تنتج في السنة أكثر من 15 - 20 فيلماً طويلاً، هذا يتطلب جذباً للمهتمين الدوليين بالصناعة إلى الحركة السعودية".
وأضاف "علاوة على ذلك، المهرجانات ليست عروضاً ومسابقات وجوائز، هناك أيضاً سوق للإنتاج وهي محرك حقيقي لكل ما له علاقة بالصناعة، إضافة إلى أن المهرجان يحرك المكان ويحقق عوائد غير مباشرة. مدينة كان كانت بلدة صغيرة صنعها المهرجان وليس العكس".
الأفلام السعودية لا تستحق الشفقة
"أخشى من تكرار الكلام، فيُكسر زُجاجهم الهشّ لهذا أعودُ مرةً أخرى متخفياً بالليل أقتحم ستائرهم، وأصب في كؤوسهم وهم نيام لئلا ينطفئوا، لئلا يصيب العطش أحلاهم وتضيع طريقي"، أحمد الملا 2018.
وفي ظل هذا الخصب السينمائي الذي تشهده البلاد هذه الأيام، تبرز حركة سينمائية شابة تدين لأحمد الملا الذي أسس مهرجاناً للأفلام في 2008 حين كان تداولها خطيئة فضلاً عن الاحتفاء بها، وأسهم هذا المشروع في تأسيس المجموعة الشابة التي بدأت العمل الآن.
هذه المجموعة يختلف المتلقّون في السعودية في طريقة التعامل معها، إذ يرى البعض أن الحركة المحلية الغضّة يجب تناولها نقدياً في سياقاتها من دون تجاهل محطاتها البدائية التي تقف عليها، في حين يصّر آخرون على نقدها فنياً بتجرد ما دامت اختارت دخول السوق، وبين هذين الفريقين، يقول الملا "لم تعُد الدعوة إلى التعاطف مع الأفلام السعودية مقبولة الآن، والمخرجون يجب ألّا يقبلوا الجلوس في مقعد الشفقة". ويضيف "أنا في مهرجان أفلام السعودية الذي تعامل مع كل المخرجين في بداياتهم، لم أكُن أقبل مجاملتهم، فلما يُطلب من الجمهور ذلك؟".
وعن تقييمه لمستوى النقد، "الجمهور هنا قاسٍ، صحيح، لكن الظروف التي مرت بها السعودية جعلت المعايير عالية جداً، لأن ذائقتهم تأسست على مشاهدات أجنبية محترفة عبر استهلاك المحتوى من الإنترنت فترة غياب صالات السينما، فالذائقة تأسست قبل السينمائيين والمنتجين، لذلك يجب على المنتجين تفهّم هذا وعدم قبول لعب دور الضعيف".
وأضاف "المشكلة ليست في النقد بل في التسويق، المنتجون لا يضعون التسويق ضمن خطة الإنتاج منذ البداية، حتى صناديق الدعم تقوم بتطوير النص والتصوير، ثم تنتهي العلاقة ويسقط الجميع من التعب بعد نهاية إنتاجه، في حين أن المرحلة المهمة تبدأ هنا وتتطلب طاقة عالية ومتخصصين"، ويرجع ضعف هذا إلى أن "السوق لدينا ناقصة، لا توجد موازين أو شركات تسويق أو شركات علاقات عامة خاصة بالأفلام، من يقوم بهذه المهمة إن وُجدت هم المخرجون أنفسهم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إلا أن شباك التذاكر يشهد على تجارب ناجحة تسويقاً، وهو ما يعلّق عليه "التجارب الناجحة هي أفلام أتت بجمهورها معها من منصات أخرى، فيلم مسامير مثلاً أو فيلم شمس المعارف، هذه أعمال تملك جماهيرية من ’يوتيوب‘ منذ عقد تقريباً واستغلت ذلك تسويقياً من دون جهد إضافي وقد كانت قادرة على الاتجاه لشريحة أوسع، لكن فيلم ’حد الطار‘ أو ’سيدة البحر‘ أو فيلم ’آخر زيارة‘، لم يسمع به كثيرون بسبب التسويق".
"كنتُ ألعب في الثغرات"
"صامتاً أستحلف الأقدام أن تحيد عن أثرك، علّني أرتشف الغيم ليلتها وأنا حجر بصير"، أحمد الملا 1991.
عاد بنا الحديث إلى المهرجان الحالي، مقابل مهرجان أفلام السعودية الذي يُقام في يوليو (تموز) من كل عام شرق السعودية منذ 2008 والذي تخللته محطات توقف قسري، كان يتحدث عن مستقبل مهرجانه القديم كمن يعرف أين سيكون بعد 10 أعوام، قلت له ساخراً "في السابق، لم تكُن تعرف كيف سيكون المهرجان بعد 10 أيام" وأنا أعرف الجهد الذي كان يستنزفه في معارك جانبية حتى لا يغلق المتشددون أبواب القاعات قبل حفل توزيع الجوائز قبل 2017، ردّ بسخرية حقيقية "في تلك الفترة، كان شعار المهرجان الذي يوضع على إعلانات كل نسخة (في لمح البصر) وكأننا نخطفها خطف".
سألته ما الذي يدفع سينمائياً إلى أن يتمسك بمشروعه في تلك المرحلة، لا صالات عرض ولا أمل ببيع الأفلام ولا يقين باستمرار المهرجان حتى آخر أيامه، فردّ "في ذلك الوقت، كنت أعمل بثقة الشاعر لا رغبة السينمائي، على الرغم من المواجهة الشرسة، فقد كنت الحالة الضعيفة في المشهد وهم كانوا الأقوياء، أما اليوم وقد صرت أقوى وهم في موضع ضعف، فلا حاجة لي للمواجهة".
أقنعته أني أسأله لحاجة التوثيق لا رغبة بالشماتة، فبدى حينها أقل تحفّظاً "في الحقيقة، كان العمل في المهرجان جهداً مهدوراً على الحِيَل لتفادي التعثر، أتذكّر في سنة من السنوات حتى وزارة الإعلام، المسؤول الحكومي عن المهرجان رفضت إعطاءنا الموافقة لإقامته، ولم نحصل عليها إلا عن طريق إمارة المنطقة التي لم تصِل إلا في الافتتاح بعد أن بدأنا التجهيز من دون تراخيص، ألم يكُن من الأجدى توجيه هذا الجهد النفسي إلى المهرجان؟".
كانت معركة إقامة المهرجان مليئة بالحِيَل كل عام، إحداها كانت توجيه دعوة إلى دبلوماسيين من القنصليات في المنطقة الشرقية لتوفير مبرر كافٍ لطلب حمايته أمنياً من اقتحام المعارضين له "الموافقات الوزارية في حينها لم تكُن مصحوبة بضمانات حمايته من التعطيل أو مداهمة المحتسبين، كنت أقف على الباب كلما حضروا أحاول إقناعهم بأني جهة رسمية وأي تحفظ يمكن أن يوجّه إلى مرجعيتنا التي أعطتنا الترخيص. إقامة المهرجان كانت تتطلب التحرك في الثغرات، هناك بعض الألعاب كنت أجيدها"، من دون أن يسمّي تلك الألعاب.
ويجد أحمد الملا لمهرجانه القديم مكاناً لا ينازعه عليه الصاخب الجديد "في كل مرة تم اقتراح تطوير مهرجان أفلام السعودية وتحوّله إلى مهرجان دولي، كنت أصرّ على أن يبقى كما هو، المناخ الأعرض والمكان الأول للفيلم السعودي، السوق تتسع للجميع، فباريس مثلاً فيها 300 مهرجان في السنة. في المقابل، السعودية قارة لا يوجد فيها إلا عدداً محدوداً". قاطعته بسؤال حول كم الإنتاج في السعودية حتى تتّسع لأكثر من مهرجان، فردّ "الحركة الإنتاجية لا تصنع مهرجانات، المهرجانات هي من تصنع الحركة، إيجاد مهرجان للأفلام الوثائقية مثلاً هو من سيصنع حركة صناعة وثائقية".
ويعمل الملا بجوار كونه مؤسساً ومديراً لمهرجان أفلام السعودية ومهرجان بيت الشعر، نائب رئيس مجلس إدارة جمعية السينما، إضافة إلى أدوار استشارية في سوق الأفلام بمهرجان البحر الأحمر.