ينتمي كتاب "التيهاء" للكاتب المغربي عبد القادر الشاوي، الصادر حديثاً عن دار الفنك - الدار البيضاء، إلى صنف من الكتب التي يستحسن أن تبدأ قراءتها من الصفحات الأخيرة، لتحدد نوعها وتستوعب منابعها ومصابّها، وتضع بالتالي مضامينها ضمن سياق الكتابة.
إنه يتساءل قبل نهاية الكتاب بصفحتين، "ما مقدار الصدق أو الكذب في ما نحكيه لك أيها القارئ؟"، ويعود إلى المرحلة التي كانت فيها الرواية ممنوعة في المستعمرات الإسبانية لأنها نصوص كاذبة "تلوث الصحة الروحية للهنود". وهو بالتالي يطرح سؤالاً عن جدوى الكتابة التخييلية. لكننا أمام كتاب ينطلق فيه التخييل من الذات ليعود إليها. وهو إذ يسأل القارئ، فكأنما يريد منه أن يتواطأ معه ويخرج من تلك المسافة التي تفصل الواقع عن الخيال. ثم إن وظيفة القارئ ليست بالضرورة هي التدقيق والتحقيق لفرز الأحداث الواقعية عن المتخيلة، فما يرجى البحث عنه هو الصدق الفني والأدبي لا مدى تطابق المحكي مع الحياة الواقعية للكاتب.
في الأسطر الأخيرة من كتابه يصرح الشاوي بأن المحكيات الواردة فيه مستقاة بالأساس من حياته المهنية، ومن المجال الثقافي الذي اشتغل فيه سنوات طويلة. بالتالي فهو يعتمد على الذاكرة في استرجاع الوقائع والتفاصيل، سامحاً لنفسه بأن يفتح هامشاً تخييلياً على ضفاف هذه الوقائع، مبرراً ذلك بعامل الزمن الذي يؤثر بالضرورة في مناحي السرد، ويشكل الخيال بالتالي رأباً للصدوع والفراغات التي يخلفها النسيان.
لقد كان اختيار عبد القادر الشاوي عنوان كتابه مبنياً على وعي بأن المسرودات التي يقدمها لا تخضع بالضرورة لبناء أدبي معين، ولا تنتظم وفق جنس كتابي محدد سلفاً. فمفردة التيهاء، ومعناها في المعاجم العربية الأراضي الشاسعة التي يتيه فيها الإنسان، تشكل تعاقداً مع القارئ مفاده ألا ينتظر من الكاتب ما يتلاءم بالضرورة مع توقعه، هو الذي اعتاد منه أن يصدر نصوصاً أدبية تندرج ضمن خانة الرواية. نحن إذاً أمام سرد مفتوح، لا رأس له ولا ذيل ولا توجد بالضرورة خيوط ناظمة تسبكه. إننا أمام ما سماه عبد السلام بنعبد العالي "الكتابة بالقفز والوثب". لكنها ليست بالضرورة كتابة نقدية وفكرية، إننا أمام نص يغلفه السرد ويبطنه التأمل.
يقرأ القارئ في النهاية نصاً واحداً، هو بمثابة نصوص قصيرة متصلة من دون عناوين أو تذييلات، ولا تخضع لنظام كرونولوجي. فالسارد ينتقل بين الأزمنة والأمكنة بخفة، وبما تمليه طبيعة الكتابة المفتوحة التي تتوسل الاستطراد والتداعي وتتوخى المكاشفة.
من الطفولة إلى السياسة
توحي عتبة الكتاب ذات الطابع الإهدائي "إلى محمد بويعلى، من فرط الغياب" بأن السمة الطاغية على السرد هي الحنين. فثمة مسحة هائلة من النوستالجيا تسبك الكتاب من أوله إلى آخره.
اختار الشاوي الانطلاقة في الحكي من خلال العودة إلى الطفولة، مستثمراً توصله برسالة من صديق قديم أعادته إلى منطقة باب تازة، مسقط رأسه في إقليم شفشاون شمال المغرب، وأجواء الخمسينيات والستينيات التي يلمس القارئ كما لو أنها صارت منفصلة كلياً عن عالمنا اليوم الذي عرف تغييرات، بل فجوات خلقتها خصوصيات الحياة الجديدة التي كشفت الفروق العرقية والدينية والاقتصادية والسوسيولوجية التي لم تكن ظاهرة في الماضي، أو كانت مطمورة مغيبة بحكم طبيعة الحياة الجماعية التي كانت قائمة على التكافل والتسامح وتذويب الاختلافات.
افتتح الروائي المغربي كتابه برسالة متأخرة إلى صديقه الإسباني إميليو ميسا بعد مرور ستين سنة على ذكريات الطفولة المشتركة، على الرغم من اختلاف الجنسية والدين وأسلوب العيش، بحيث كانت تجمعهما "وحدة الصداقة"، ففي تلك الفترة لم يكونا "يدركان حروف التمييز، ولا استقرت في أبجديتهما رموز الولاء للأوطان والجغرافيا" على حد تعبير الكاتب.
يعود إلى نهاية الستينيات ليستحضر تجربة الخروج في تظاهرة تضامناً مع فلسطين، ثم ينتقل للحديث عن محاولة الانقلاب على الملك الراحل الحسن الثاني مطلع السبعينيات، متعاطفاً مع الملحن الكبير الضرير عبد السلام عامر الذي انتهى مهمشاً وغير مرغوب فيه، لكونه هو الذي تلا بيان الانقلاب مكرهاً طبعاً من طرف الانقلابيين، لأن الصدفة وحدها هي التي قادته لذلك، فقد كان متواجداً في استوديو الإذاعة الوطنية برفقة عبد الحليم حافظ حين استولى عليه الجنود المعارضون للنظام الملكي.
نبش في حياة الثقافة العربية
ومن الماضي يقفز الكاتب إلى الحاضر، ليسرد تجربته مع صديقته الكاتبة بيلار دونسو وحكايتها مع روايتها التي كانت تعريةً لحياة شخصية وعائلية. ثم ينتقل في نص لاحق للحديث عن تجربة الموت، وعن النعي الذي قد يصل في يوم واحد عبر الرسائل الإلكترونية من أكثر من صديق فقد أحد أقاربه. بل إن صفحات مواقع التواصل هي الأخرى صارت حمالة أخبار الموت، بالتالي مناحةً علنية.
يحتفي الشاوي بالصداقة، لذلك فالكتاب حافل بأسماء كثيرة من بلدان عديدة، وتحضر هذه الأسماء مقرونة بأمكنة وأحداث، فثمة كثير من الذكريات المشتركة تربط بينها وجوه وأمكنة، والشاوي يستعيد هذه الذكريات بنفس نوستالجي. يتحسر على زمن النشاط الثقافي في بلجيكا متوقفاً عند تفاصيل تهم صديقيه هناك فرانسيس وكريستا، ثم ينتقل للحديث عن صيف في غرناطة برفقة رانية. يتحدث عن صديقه محمد بويعلى الزاهد الذي خطفه الموت، والذي كان "يدور ويدور كأنه عقرب نفسه في الألم والعزلة. ويستطرد ليفتح موضوع إقامة أدونيس في باريس ورفضه الانخراط في التعصب الجغرافي، هو الذي "يواصل حياته بين الحداثة الفكرية واليأس العربي المطلق". قبل أن يتوقف عند انتحار تيسير سبول وما خلفه في نفسه من أثر جعله يطرح، بعمق، سؤال جدوى الكتابة. يستعيد أحداثاً مرتبطة بمحمود درويش الذي كان يسميه "شاعر الثورة" فيما كان آخرون يقولون للشاوي "إنه شاعر عرفات". يسرد الشاوي كثيراً من التفاصيل المرتبطة بكتّاب مغاربة: عبد اللطيف اللعبي، عبد الجبار السحيمي، إبراهيم الخطيب، عبد الكريم التواتي، أحمد صبري أحمد بوزفور، إدريس الملياني وغيرهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يعرج على كلية الآداب بالرباط، يصف المكان ثم يتحدث عن أستاذه الفيلسوف محمد عزيز الحبابي، حين كان هو طالباً في شعبة الفلسفة، ثم يحكي عن عودته للكلية بعد خمسين سنة لمناقشة روايته "بستان السيدة". يستعيد هجوماً قديماً عليه من الشاعرين محمد بنيس وأحمد بنميمون في الملحق الثقافي نهاية الستينيات، ويستعيد في الآن ذاته هجومه في مجلة "أنفاس" اليسارية الشهيرة على علال الفاسي صاحب كتاب "النقد الذاتي"، ثم يفتح النقاش حول الصراعات الثقافية التي غالباً ما تكون بين الكتّاب في مرحلة شبابهم، مستحضراً خصائص الحركة الثقافية والسياسية في تلك الفترة.
يتحدث الشاوي عن هاروكي موراكامي، ويعترف بأن الشيء الوحيد الذي يجمعه به هو متعة الركض، فقد اعتاد الكاتب المغربي على ممارسة هذه الرياضة ثلاث مرات في الأسبوع، ودأب على ذلك منذ سنين عديدة. ويستغل حديثه عن الكاتب الياباني ليعقد مقارنة بين الكتابة باللغة العربية والإنجليزية أو اليابانية، معتبراً أن فكرة الوصول إلى العالمية انطلاقاً من المحلية فكرة ساذجة، مؤكداً أن موراكامي اشتهر من داخل الولايات المتحدة لا من داخل اليابان، فاليابانيون أنفسهم يعتبرونه حسب الشاوي "أميركياً تأصّل بهم".
يجد القارئ بعد إغلاق الكتاب أنه كان يقوم بجولة مفتوحة وممتعة بين أزمنة وأمكنة متفرقة، لكنه قد يعود ليطرح ذلك السؤال الفضولي، أين ينتهي الواقع في محكيات عبد القادر الشاوي؟ وأين يبدأ الخيال؟