جاءت الثورة السودانية في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018 متأخرة ثماني سنوات عن "الربيع العربي"، ولكنها اتخذت بعضاً من ملامحه، فالظروف التي تمت فيها الأحداث في زمنين مختلفين هي نفسها من حيث الدوافع ومجريات الأحداث والآثار. وطالما كان اهتمام الغرب بالدول العربية يتحدد من خلال المصالح الأمنية والاقتصادية والاستراتيجية التي تضمنها أنظمة مستقرة، لكن منذ اندلاع "الربيع العربي" عام 2010 مروراً بعام 2018 وقت الثورة السودانية، أصبحت الدبلوماسية الغربية أكثر تأثيراً، وتجاوزت نشاطها التقليدي في هذه الدول، ولذلك فإن التصورات عن القواسم المشتركة بين هذه الانتفاضات تتم في جزء كبير منها على مقياس الحريات الغربي، بينما كانت هناك محركات أخرى أشد تأثيراً، نتجت عن طول مكوث نظم الحكم على صدور شعوبها عشرات السنوات، وأغلب التغيير المرتجى تم على مستوى النظام السياسي، بينما لم تطرأ تغييرات جوهرية في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية كما هي حال معظم الثورات في العالم.
دوافع أساسية
اشتعلت الثورة في السودان بسبب أزمة الخبز والسكر، ورفع الدعم عن المحروقات، وتعويم الجنيه، ورفع الدعم عن الأدوية، وإن كانت هذه الإجراءات قد تمت من قبل في أوقات متفرقة خلال نظام "الإنقاذ"، وكانت تؤدي إلى تظاهرات محدودة وحركة احتجاجية يتم إخمادها قبل أن تصل إلى ثورة كاملة تقتلع النظام القائم، إلا أنها في ذلك العام وجدت السودانيين في حال يأس تام من الإصلاحات التي وعدت بها الحكومة، وعدم مواجهتها هموم المواطنين والضائقة الاقتصادية والفساد المستشري بتمكين أعضاء النظام الحاكم والموالين له، إضافة إلى أن الشعور العام بأنه لم يعد ثمة ما يخسرونه فاقم من ضراوة المواجهة، وهو الاستياء ذاته الذي قاد الشعور المتجذر من الوضع القائم، باصطفاف عوامل أخرى على أرضية واحدة.
وبمقارنة ظروف الثورة السودانية مع الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية نجدها لا تبتعد عن انتفاضات "الربيع العربي"، فالشرارة التي امتدت من إشعال البائع المتجول التونسي محمد البوعزيزي النار في نفسه، إلى انتفاضات في تونس ومصر وسوريا وليبيا واليمن كانت بسبب الاستياء من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والحقوقية، وهي في مجملها منطلقة من الوضع السياسي الذي أوصل إلى هذه النتيجة بمؤشراتها المختلفة التي عبّرت عن عدم وجود أمل في تحسن الأوضاع.
وكما جاء "الربيع العربي" تحت وطأة تكميم الأفواه وتقييد الحريات، بعد تدجين وسائل الإعلام التي أصبحت تحمل رسالة واحدة هي تمجيد الحاكم وتثبيت النظام، قامت الثورة السودانية مدفوعة بالانتهاكات ضد حرية التعبير عن الرأي التي كان يمارسها نظام الرئيس السابق عمر البشير، وتكبيل الحريات الصحافية وسلسلة ملاحقات واعتقالات الصحافيين بتهم "تهديد الأمن الوطني" وإغلاق ومصادرة الصحف بعد طباعتها وهي مهام كان يقوم بها جهاز الأمن الوطني، هذه الممارسات أدت بالثوار والناشطين في تلك البلدان وفي السودان إلى اللجوء لوسائل التواصل الاجتماعي التي لعبت دوراً كبيراً في إيصال الرسالة والتنظيم للمواكب والاعتصامات وغيرها.
سمات عامة
ومن أهم سمات الانتفاضات العربية أنها لم تتلون بأي لون حزبي أو تنظيمي معين مع الأخذ في الاعتبار أن دول "الربيع العربي" لم يكن في كثير منها مجال للمشاركة السياسية الحقيقية حتى مع وجود بعض الأحزاب السياسية، وفي السودان، مارست السلطة تضييقاً على الأحزاب السياسية، التي هُجّرت ومارست نشاطها من الخارج بعد انقلاب 30 يونيو (حزيران) 1989، ولم تعد إلا بعد مصالحة أجراها النظام معها، وكون حكومة الوفاق الوطني تشمل الأحزاب المعارضة، وعلى الرغم من ذلك لم يكن لهذه الأحزاب دور ملموس عند اندلاع شرارة الثورة، ولكنها ظهرت بعد ذلك ممثلة في قوى إعلان الحرية والتغيير، وحتى اليوم هناك من يصف هؤلاء الشباب بأنهم دمى ثورية تحركها جهات عدة تتقاطع وسائلها من أجل الوصول إلى هدف واحد هو السلطة.
في الحالتين، لم تجئ هذه الانتفاضات استناداً إلى برامج مُعدّة أو تنظيم واضح، إذ اتسمت بالعفوية، لذا كثر المتسلقون من سياسيين وطبقات اجتماعية ومتنفذين من أصحاب الأعمال وأحزاب، وحتى النظم السابقة وجدت ضالتها في النفاذ إليها وتمرير بعض أجنداتها، بالإضافة إلى أن المحرك الأساس لهذه الانتفاضات من فئة الشباب الذين يشكلون نسبة كبيرة من سكان الوطن العربي، ويحركهم الحماس الزائد، غير أنهم لم يستطيعوا، بسبب ارتفاع مستوى النشاط الذي لازمه عدم التنظيم في مواجهة السلطة، وبسبب عدم استنادهم إلى منهج واضح، حساب ردات الفعل على تحركاتهم، فكان هناك عنف من قوات الشرطة والأمن في استخدام الرصاص والغاز المسيل للدموع والضرب بالهراوات، قابله عنف مضاد شمل تخريب الممتلكات العامة وحرق مقار الشرطة وسلب ونهب المحلات التجارية من بعض من وصفتهم الشرطة بالمتفلتين.
وحدة الشعارات
عند بداية قيام الانتفاضات العربية، واجتماعها حول هدف واحد هو إسقاط الأنظمة الحاكمة، صيغ شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، الذي تم تداوله على نطاق واسع كعنوان لكل الاحتجاجات، وظل على هذه الحالة حتى بعد إسقاط النظم، معبراً عن عدم الرضا من نتائج التغيير، كما واجهت الثوار أزمات متجذرة في هياكل دولهم، وفي البنى التحتية، وتسلل أفراد، وبعض المنظمات التي اصطلح التعبير عنها بـ"الدولة العميقة" أو "الفلول" بأجهزتها ومؤسساتها، لتأليب الرأي العام ضد الحكومات الجديدة، كما تواصلت الاحتجاجات بعد تغيير النظام في تلك الدول مع اختلاف فتراتها من بلد إلى آخر، وإن كانت بشكل أقل ثورية في مسيرات سلمية، وتتضمن المطالب في الحكومات الجديدة بنوداً لم تتحقق وأخرى تُستحدث مع تجدد فترات الاحتجاجات.
وارتبط بعض الشعارات إبان الانتفاضات بدور العسكر في هذه الدول، وحاول الرأي العام المشحون ضدهم استقطابهم طمعاً في إمكان توفيرهم الحماية للثوار بدلاً من استعدائهم، وانطلقت الشعارات التي تسوّق لوقوف جيوش هذه البلدان مع الثوار من فرضية وجود حساسية وتنافس تاريخي بين الجيش وأجهزة الأمن التي في الغالب تكون مؤدلجة ومحاطة بالميليشيات كما في حال السودان، كما لم يمرّ تأييد بعض المحاولات الانقلابية بسلام، حتى مع محاولات إضفاء شعارات حرص العسكر على البلاد، ولكن أكثر التأنيب كان من نصيب المنادين بالحريات والحقوق والمساواة، إذ اتهموا بالتماهي مع العسكر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعندما ظهر أن وقوف الجيش مع الثوار هو لحماية مواقعهم وامتيازاتهم حتى بعد التخلص من رؤوس النظام، إذ يمكنهم النفاذ إلى السلطة بسهولة عبر دورٍ آخر هو تثبيت أواصر الحكم الجديد والحفاظ على البلاد من حال الفلتان الأمني، تحولوا تدريجياً عبر الرافعة الشعبية إلى حال الحياد من واقع دور العسكر في الحياة السياسية، ثم لم يمكثوا في هذه الخانة طويلاً حتى تحولوا مرة أخرى إلى خانة العداء، وفي هذه المرحلة الأخيرة تباينت النتائج في الدول العربية، بين دور كامل أو مشارك أو رجوع إلى دورهم الأصلي.
التطبيع مع العالم
هناك أيضاً الدعم الخارجي لهذه الانتفاضات، كقاسم مشترك بين دول "الربيع العربي" من ناحية والسودان من ناحية أخرى، مع فروق بينها حسب العناصر المكوّنة لجذب الدعم المعنوي والمادي والعسكري، والعناصر تشمل طبيعة هذه الدول، ومواقعها الجغرافية ومواردها الطبيعية، كما توافقت بلدان "الربيع العربي" والسودان في ملمحٍ آخر هو إعادة صياغة سياستها الخارجية بعد عقود من التنافر بين هذه البلدان والمجتمع الدولي، مع مراعاة مساحة هذا التحرك واختلافه من دولة إلى أخرى، فكلها خضعت لتدخل دولي بشكل أو بآخر سواء لفض النزاعات أو إدارتها مباشرة أو عبر حلفائها من دول المنطقة أو تحت ذريعة إعادة الإعمار، كما أن الانتفاضات كشفت عن وقوع هذه الدول تحت طائل الديون للمؤسسات المالية الدولية، وبعضها تحت عقوبات دولية أقعدتها عن التنمية، بيد أن هذه العودة لحضن المجتمع الدولي لازمها ثمن باهظ في بعض الأحيان.
وعلى الرغم مما بذلته المنظمات الدولية من إعفاء بعض الديون والمساعدات، فإن مردود هذه العلاقات لم يكن بحجم التوقعات، إذ لازمها خذلان بمواصلة الدول الغربية الضغط لتحقيق مزيدٍ من الديمقراطية، من دون مراعاة البنية الأساسية التي يتم فوقها بناء الدولة.
بعد الثورة
نتيجة للضغط الشعبي، أنشئ ائتلاف وطني لقوى الثورة والمعارضة بوصفها الممثل الشرعي لشعوب هذه البلدان، ولكن لازمها تخوف القوى السياسية من تغيير آخر ربما تأتي به الانتخابات، فظلت تنادي بتمديد الفترة الانتقالية بحجة عدم استعداد البلاد لها، ومع اختلاف السياقات السياسية في بلدان "الربيع العربي" والسودان، إلا أن نتيجة ما يمكن أن تفضي إليه أي ثورة من تغيير محتمل كان أقل من التوقعات.
قد لا تكون هناك فروق جوهرية في النتائج بين حالات "الربيع العربي" والسودان وتوالي آثارها، من فشل الدولة وتناسل الأزمات وطول فترات التغيير التي ظلت تتخللها المسيرات والعصيان المدني، وتعطيل مصالح المواطنين لسنوات، في المقابل، يظهر تساهل من جانب الحكومات الناشئة في السماح بالتظاهر المستمر ليس لحفظ حقوق المواطنين في الاحتجاج، ولكن لأن هذه الحالة تعطي الحكومات مزيداً من الوقت للالتفاف حول المطالب وعدم تنفيذها، ثم التهرب من استحقاقات الفترات الانتقالية، وتهيئة المواطنين لفترات انتقالية أخرى تحت ذريعة فشل الأحزاب السياسية.
وظهرت القوى المدنية، ولطول النظم الديكتاتورية، وكأنها تفتقر إلى المقدرة على إدارة السلطة، فلم تستطع تجاوز الحواجز السياسية، كما عانت كلها صعوبة الوصول إلى حكومة مدنية منتخبة ومستقرة، ومن ضمن الأسباب هي الإشكاليات البنيوية والإجرائية التي تتعلق بمنظومة الحكم، ولا تزال هناك اعتداءات على حرية التعبير والحقوق السياسية، كما اعترى هذه الفترة، ما بعد الانتفاضات، تقليل من دور الثوار وإهمال التحقيق في الحوادث التي جرت خلال فض الاحتجاجات والاعتصامات سواء أكانت حوادث قتل أو اغتصاب أو جرح أو فقدان.