فيما تواصل الليرة التركية موجة النزيف القاسية، حذر المحلل الاقتصادي العالمي محمد العريان من أن "إصرار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على خفض أسعار الفائدة في ظل موجة التضخم العنيفة التي تجتاح البلاد، مخاطرة منه بأن تنتقل البلاد من أزمة عملة إلى انهيار اقتصادي كامل".
وفي تصريحات حديثة، قال الرئيس التركي إنه "خفض التضخم في بلاده إلى حوالى 4 في المئة من قبل، وإنه سيفعل ذلك مرة أخرى عما قريب". بينما بلغ معدل التضخم السنوي 21 في المئة، بسبب مسعى تبنّاه الرئيس لخفض كبير في أسعار الفائدة. وأشار إلى أن "هذه السياسة هي التي أدت إلى انهيار الليرة، وهي جزء من حرب الاستقلال الاقتصادي". وأوضح أن "توجهاته بمواصلة خفض أسعار الفائدة، ستعمل على تعزيز الصادرات والتوظيف والاستثمارات والنمو".
في المقابل، يرى محللون أن هذه السياسة ليس لها أي علاقة بالنظريات التي تُدار بها اقتصادات الدول، ولم يسبق أن واجهت دولة تضخماً مرتفعاً وقام مصرفها المركزي بخفض أسعار الفائدة، بخاصة أن البنوك تستخدم سلاح أسعار الفائدة في الضغط على موجات التضخم وتقليصها قبل أن تتفاقم الأزمة وتتحول البلاد إلى ركود تضخمي ثم انهيار اقتصادي كامل.
مكاسب الدولار تقترب من 60 في المئة
في تعاملاتها الأخيرة، سجّلت الليرة التركية أدنى مستوى لها على الإطلاق مقابل الدولار الأميركي، إذ قفز سعر صرف الدولار إلى مستوى 17 ليرة، ما يعني أن مكاسب الورقة الأميركية الخضراء تقترب من 60 في المئة خلال العام الحالي.
وفيما فقدت الليرة التركية نحو 30 في المئة من قيمتها خلال تداولات الشهر الأخير، لكنها سجلت خسائر ثقيلة خلال العام الحالي، إذ كان سعر صرف الدولار في بداية العام في حدود 7 ليرات، لكنه قفز بنهاية العام إلى مستوى 17 ليرة، ما يعني خسائر بنسبة 58.8 في المئة بعدما زاد سعر صرف الدولار بنحو 10 ليرات خلال تداولات 2021، وفق البيانات والأرقام التي أعدّتها "اندبندنت عربية".
وخلال تصريحاته ضمن لقاء مع شباب أفارقة، قال الرئيس التركي إن "أسعار الفائدة تسبب التضخم"، مضيفاً أنه "يأمل في أن ينخفض التضخم قريباً". وأضاف، "عاجلاً أم آجلاً، فمثلما خفضنا التضخم إلى مستوى 4 في المئة عندما وصلت إلى السلطة، سنخفضه مرة أخرى، وسنجعله ينخفض مرة أخرى. لن أسمح لأسعار الفائدة بسحق المواطنين".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتواجه تركيا خلال الأعوام الـ20 الأخيرة، عدداً كبيراً من الأزمات التي تتصدرها سوق الصرف. ومع استمرار انهيار الليرة في تسعينيات القرن الماضي، لجأت أنقرة إلى سياسة حذف الأصفار عام 2002، وبعدما كان سعر صرف الدولار يصل إلى مليون ليرة، أصبح الدولار يساوي ليرة واحدة.
وعلى خلفية سياسة حذف الأصفار، شهدت البلاد حالة من عدم الاستقرار، لكن مع استمرار تدخل الحكومة، تراجعت معدلات التضخم من مستويات قياسية في الأعوام التي أعقبت التدخل العنيف في سوق الصرف إلى نحو 4 في المئة خلال عام 2011. لكن مع بداية عام 2017، عادت أزمة العملة من جديد وبدأت معدلات التضخم تتجه نحو الارتفاع لتسجل في الوقت الحالي مستوى 21 في المئة.
حياة أكثر قسوة مع تضخم مرتفع
ويرى محللون أنه أصبح من الصعوبة وفي ظل توجيهات الرئيس التركي للبنك المركزي بخفض أسعار الفائدة، أن تتخذ أنقرة أي إجراءات من شأنها تهدئة خسائر الليرة أو طمأنة المستثمرين الذين يواصلون على وقع خسائر ونزيف مستمر للعملة وارتفاع مستمر في معدلات التضخم، خصوصاً أن البنك المركزي التركي لم يعُد يمتلك احتياطيات كبيرة من العملات الأجنبية تدفعه إلى المغامرة والتدخل وضبط سعر صرف الدولار.
في ظل هذه البيانات والأرقام السلبية، فإن الحياة في تركيا تبدو أكثر قسوة على الأسر التي تُستنزف بشدة مع ارتفاع معدلات التضخم والزيادات الكبيرة في مستويات أسعار السلع والخدمات. وبدلاً من أن يتدخل البنك المركزي ويرفع أسعار الفائدة لامتصاص السيولة الكبيرة في السوق، فإنه يواصل خفض الفائدة، ما يعني دخول مزيد من الأموال إلى السوق، بالتالي تسجل الأسعار زيادات جديدة ومستويات قياسية وتاريخية في معدلات التضخم.
أما الرئيس التركي، الذي يواصل الضغط على البنك المركزي الذي ينفذ تعليماته وقام بالفعل بخفض أسعار الفائدة خلال الربع الأخير من العام الحالي، فأعلن تدخله وقرر رفع الحد الأدنى للأجور بنسبة 50 في المئة، وهذا الإجراء من شأنه أن يضيف أرقاماً جديدة إلى معدلات التضخم وانهيارات جديدة في سوق الصرف.
وخلال مؤتمر صحافي، قال الرئيس التركي، "بهذه الزيادة في الأجور، أعتقد أننا أظهرنا تصميمنا على عدم السماح للعمال بالانهيار تحت وطأة ارتفاع الأسعار". وقد تمنح هذه الخطوة أردوغان دفعة سياسية. لكن الأجور الأعلى تسهم بشكل معروف في زيادة معدلات التضخم، وقد تؤدي إلى تفاقم الوضع المتردي بالفعل.
ويقول أتراك كثر إن زيادة الحد الأدنى للأجور بنسبة 50 في المئة لن تكون كافية. ومن المتوقع على نطاق واسع أن تعزز الزيادة تضخم أسعار المستهلكين الإجمالية بمقدار يتراوح بين 3.5 وعشر نقاط مئوية.
وقال أردوغان إن "مشكلات تركيا ناجمة عن هجمات غير منطقية على الاقتصاد"، ورفض الدعوات لفرض قيود على رأس المال ووصفها بأنها "سخيفة". وأضاف "التخفيضات المحدودة لأسعار الفائدة التي قمنا بها، لا يمكن أن تكون سبب هذا الوضع". وأشار إلى أن أسعار الصرف هي "سلاح اللعبة التي تُلعب على تركيا"، وبمجرد استقرارها مع الأسعار، "سنرى أبواب تركيا أكبر وأحدث كثيراً تُفتح أمامنا في غضون أشهر".
البنك المركزي يواصل التدخل
وفيما وصل سعر صرف الدولار إلى مستوى 17.0705 للدولار في التعاملات الأخيرة، مع معدل تضخم عند مستوى 21 في المئة، فمن المتوقع أن تقود الزيادة الجديدة في الأجور التي أقرّها الرئيس التركي قبل أيام في إطار مواجهة التضخم وموجة ارتفاع الأسعار والخدمات، إلى زيادة معدلات التضخم لتصل خلال الفترة المقبلة إلى مستوى 30 في المئة.
ومثلما يسير البنك المركزي التركي وفق تعليمات أردوغان، فإنه يواصل التدخل في سوق الصرف، وقبل أيام تدخّل بشكل مباشر لدعم العملة المتعثرة في خامس تحرك له هذا الشهر لمواجهة ما وصفه بالأسعار "غير الصحية". وتسبب هذه التدخل في أن تلتقط الليرة أنفاسها ويتراجع سعر صرف الدولار إلى مستوى 16.5 ليرة، لكنه سرعان ما عاد من جديد إلى أعلى من 17 ليرة.
لكن المشكلة الأكبر في مثل هذه التدخلات تتمثل في أن خزانة البنك المركزي لم تعُد تملك الاحتياطات الكافية التي تتحمل استمرار تدخله وضخ مزيد من العملات الصعبة في السوق.
وتسببت تعليمات أردوغان بالمضي قدماً في خفض سعر الفائدة، في أن يقوم البنك المركزي بخفض أسعار الفائدة بنحو 500 نقطة أساس منذ سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي ظل هذه السياسة، يتوقع محللون أن يتجاوز التضخم مستوى 30 في المئة خلال العام المقبل بسبب ارتفاع أسعار الواردات وزيادة في الحد الأدنى للأجور.