من المؤكد أن كل الكلام الإيجابي الذي قاله الكاتب البيروفي ماريو بارغاس يوسا في حق زميله غابريال غارسيا ماركيز غداة رحيل هذا الأخير عام 2014، لن يتمكن من محو ذكرى ما كان قد حدث بينهما قبل ذلك بسنوات، تماماً كما أن ما حدث يومها لم يدفع كثراً من القراء إلى نسيان أن ما كان كتبه يوسا نفسه عن ماركيز بعد صدور تحفة ماركيز "مئة عام من العزلة" كان نصاً في منتهى الجمال، ويكاد يكون من أروع ما كتب عن العمل الكبير الأول الذي أصدره عملاق الرواية الكولومبية أحد أعمدة "الواقعية السحرية" ذلك التيار الذي ينتمي إليه يوسا بدوره، علما بأن يوسا كان قد تعرف إلى ماركيز إثر صدور تلك الرواية وارتبطا من يومها بتلك الصداقة التي بدت حينها نادرة في الحياة الأدبية، قبل أن تنفصم بعد سنوات مخلفة كراهية متبادلة صارت مضرب الأمثال. فما الذي حدث؟
الحق على "خريف البطريرك"
ما حدث لم يكن ذا بعد أدبي على أي حال، بل ذا بعد سياسي ربما ارتبط بخيوط واهنة مع توجهات ماركيز الأدبية بالتضاد مع توجهات يوسا. والحكاية أنه بعدما كان يوسا كما ماركيز، مناصراً لثورة كوبا الكاستروية، رأى البيروفي وقد تحول لأسبابه الخاصة إلى الليبرالية وبات معادياً لما اعتبره "كل أنواع الدكتاتوريات" مشدداً على "دكتاتورية كاسترو" بصورة خاصة، معتبراً إياها الأسوأ بين كل حكومات الطغيان، أعاد كما يبدو قراءة رواية تالية لصديقه ماركيز "خريف البطريك"، فرأى أن الرواية تهادن كاسترو بل الدكتاتوريات "اليسارية" بشكل عام، وراح يتابع مواقف ماركيز "المبررة" في رأيه لكل ما يقترفه الزعيم الكوبي، بخاصة بعدما شاع أن الكوبيين يضايقون ماركيز في عمله لديهم في وكالة أنبائهم الرسمية "برنسا لاتينا"، وساءه أن يسكت ماركيز حتى عن مصلحته الخاصة لمصلحة ما سماه يوسا "عناده في مواقفه "اليسراوية و الكاستروية"، قائلاً إن هذا "لا يليق بالكاتب الكبير الذي كان قد صاره بفضل أدب بات ينحرف الآن". وهكذا اندلع صراع لفظي بين الرجلين من نافل القول إن معظم القراء ناصروا فيه ماركيز على يوسا، وكذلك سيفعل حضور لقاء سجالي جمع بين الكاتبين اللذين صارا أشبه بـ"الإخوة الأعداء"، وراح كل واحد منهما يدافع فيه عن موقفه لينتهي اللقاء بتلك الصفعة الشهيرة التي وجهها يوسا إلى صديقه السابق على مدخل صالة السينما، فتناقلت وكالات الأنباء العالمية الحكاية وصورها، وازداد تدهور العلاقة بين الكاتبين الكبيرين على الرغم من الهالة الكبيرة التي أسبغها عليهما كونهما الوحيدين الذين كانا قد بقيا حيين من بين كبار كتاب القارة الجنوبية الذين حملوا جائزة نوبل.
مآرب سياسية
مهما يكن على مدى السنوات التي فصلت بين "يوم الصفعة" وبين رحيل ماركيز، كان لافتاً حرص هذا الأخير على عدم التعليق على ما حدث إنما من دون أن يقبل بأي من الوساطات الإسبانية منها بخاصة، التي حاولت أن توفق بين الكاتبين. وفي المقابل سيكون لافتاً كيف أن يوسا حتى وإن أوحى دائما بأن "الله قد عفا عما مضى" وأنه يمكنه أن يصالح ماركيز فورا، لم يفعل ذلك، بل بالعكس راح يستغل ذكرى "الحادثة" لمآربه السياسية جاعلاً مريدين له، لا سيما في عالم الصحافة، يستعيدون ذكراها في كل مرة احتاج مواربة إلى التذكير بمواقفه السياسية "الليبرالية" التي راحت بالتدريج تتحول من معاداة للدكتاتورية بوجه عام إلى التركيز على معاداة كاسترو بشكل خاص. ولنتذكر أن تلك السنوات كانت تشهد نشاطات سياسية مكثفة ليوسا الذي رشح نفسه ذات يوم لرئاسة الجمهورية في البيرو ومن منطلق يميني بحت.
من الحدث إلى "النكتة"
غير أن هذا أيضاً صار في ذمة التاريخ لاحقاً، لا سيما بعد خيبات أمل سياسية أصابت صاحب "حفلة التيس" و"حروب نهاية العالم" وغيرهما من روايات لا تقل أهمية بالطبع عن روايات ماركيز، ولسوف تكون قمة النهاية لتلك الحادثة التي بدأت في الحقيقة حدثاً لتنتهي على شكل نكتة، حين رحل ماركيز وبدا يوسا أكبر الآسفين عليه بقوله أمام جمهور مترقب ومصغ بكل انتباه في الجامعة الصيفية في سان لورانزو – الأسكوريال في مدريد، "إنني حزين على رحيل غابو بقدر ما شعرت من حزن على رحيل كورتازار وفوينتس"، مضيفاً أن "أكثر ما أحزنني هو أنني بت الوحيد الباقي من أبناء ذلك الجيل الذي أعاد اختراع أدب أميركا اللاتينية".
وفي تلك المناسبة تابع يوسا يقول إنه وماركيز "تحدرنا من عائلتين مفككتين لهما الخلفية نفسها، وأنا وهو ترعرعنا في كنف جدة كل واحد منا، ولم نعش في حمى والدينا، بيد أن ما جمع بيننا أكثر منذ البداية إنما كان حبنا المشترك لأعمال سيد الرواية الأميركية في القرن العشرين ويليام فولكنر. لقد كان هو القاسم المشترك بيننا منذ البداية".
وإلى ذلك لم يفت يوسا أن يقول إن ثمة عنصراً أساساً آخر يجمع بينهما، "وهو أننا لم يتبين لنا حقاً معنى أن نكون أميركيين لاتينيين إلا حين وصل كل منا إلى أوروبا للمرة الأولى في زمنه الخاص وبطريقته الخاصة".
يوم كانت الحماسة مشتركة
وفي السياق نفسه، لم يفوت يوسا الفرصة للتعبير عما يمكن اعتباره "تبريراً" لخلافه "السابق" مع الذي بات يسميه الآن "صديقي الراحل الكبير" بقوله في المناسبة نفسها متحدثاً عن "يقظتنا السياسية الكبرى"، "كان باعث تلك اليقظة الفضول الكبير الذي راح ينتاب العالم بأسره تجاه أميركا اللاتينية وأدبها"، مضيفاً هنا أن الأمر راح يتعلق أكثر وأكثر بعلاقته مع ماركيز، وهو بالتحديد الموقف من كوبا، "فأنا كنت في البداية بالغ الحماسة لثورتها، فيما لم يكن ماركيز على حماسة لها إطلاقاً، بل لنقل إنه بالكاد كان مؤيداً لها، أو ربما نقول إنه كان على الدوام شديد التكتم حيال التعبير عن رأيه فيها، وهو استعاد تكتمه لاحقاً حين طرد من الحزب الشيوعي في بلده جراء ارتباطه بوكالة الأنباء الكوبية"، لكنه لاحقاً راح يتعمد أن يتصور رفقة كاسترو كما يتعمد نشر الصور، وأنا أعتقد أنه في كل الأحوال كان رجلاً عملياً رأى ذات لحظة أن من الأفضل له أن يكون مناصراً لكوبا بدلاً من أن يكون معادياً لها، وهكذا دبر أموره بحيث لا يصيبه رشاش أصاب أولئك منا من الذين راحوا يبدون قدراً كبيراً من الانتقاد للطريقة التي راحت بها الثورة تنزلق نحو الشيوعية، متخلية عن دربها السابق الذي كان بالتأكيد أكثر نزوعاً إلى الليبرالية والاشتراكية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ليت ماركيز سمع هذا!
وهنا إذ اكتفى يوسا بهذا القدر من "التوضيح" رداً على أسئلة أكثر حدة وجهت إليه، آثر أن ينتقل، وقد رحل خصمه مأسوفاً عليه، إلى نقطة أكثر إيجابية وراح يتحدث عن رد فعله الغارق في الحماسة إزاء "مئة عام من العزلة" حين صدرت وقرأها للمرة الأولى، "لقد أذهلني الكتاب على الفور إلى درجة أنني سارعت من فوري إلى كتابة نص عنها عنونته "فروسيات في أميركا" (وكلمة فروسيات amadis de gaula تعبر عن روايات فروسية إسبانية تعتبر "دون كيخوتي" سربانتس ذروة إبداعاتها)، مقترحاً فيه أنه صار لأدب أميركا اللاتينية أدبه الفروسي الخاص الذي تتقدم فيه المخيلة إلى واجهة الصورة من دون أن تلغي جوهر الواقع الذي تعبر عنه الرواية، إضافة إلى أن الرواية عرفت في الوقت نفسه كيف تلبي متطلبات قارئ يطلب من الرواية تجديداً وروعة في استخدامها للغة، وقارئ آخر يطلب منها أن تمكنه ببساطة من متابعة ما ترويه، وهنا ختم يوسا كلامه قائلاً "إن ماركيز بالنسبة إليّ يقف في صف واحد مع المكسيكي خوان رولفو والكوبي أليخو كاربانتييه في مقدم كتابنا الذين كانوا يعرفون كيف يعثرون على الجمال في كل ما هو قبيح ومتخلف في أميركا اللاتينية".
وهنا إذ علق أحد الحضور قائلاً أولم يكن من الأفضل أن تقول هذا كله يوم كان ماركيز حياً؟ أجاب مبتسماً "لقد قلته وكتبته مراراً وتكراراً وأعتقد أنه اطلع عليه من دون أن يعلن ذلك".