عدد من الأفلام العربية والأجنبية التي اختيرت بعناية، عُرضت في مهرجان البحر الأحمر السينمائي المنعقد في جدة للمرة الأولى خلال هذا الشهر. سبق أن شاهدنا بعضها في تظاهرات سينمائية أخرى، أما بعضها الأخير فجديد شق طريقه للمرة الأولى في المنطقة العربية، وهذه حال الفيلم الفرنسي، "شقيقات"، للمخرجة الفرنسية من أصل جزائري يمينة بن قيقي.
عندما نشاهد الفيلم نفهم جيداً لماذا أُدرج في تشكيلة هذه الدورة الافتتاحية من المهرجان السعودي، الذي عُقدت عليه آمال كبيرة لكونه يجسد ذروة الانفتاح والتغيير في البلاد. فـ"شقيقات" أحد هذه الأفلام التي تدغدغ الأحاسيس وتنسج الروابط المفقودة بالعالم العربي وتشهر الأسئلة المتعلقة بالهوية، وفي النهاية هو نفسه فيلم عن التغيير. إنه من نوعية الأفلام التي كان مهرجان دبي السابق قد اعتاد ضمها إلى برمجته السنوية. هذا عمل يمكن تصنيفه في إطار "سينما أبناء المهاجرين في أوروبا"، يتناسل من سينما تقوم على مزيج هويات تتساكن تحت سقف واحد، وكثيراً ما تنطوي على مسألة البحث عن الجذور والماضي. بن قيقي التي لديها أيضاً نشاط سياسي مهم (كانت لطوال سنتين وزيرة للفرنكوفونية في حكومة جان مارك إيرو)، ليست جديدة في هذا الشأن، فهي سبق أن عالجت مواضيع تتعلق بهويتها المركبة في أفلام عدة أشهرها "إن شاء لله الأحد" قبل عقدين من الزمن، ولم تتوانَ عن التطرق إلى مواضيع إشكالية مثل الهجرة وارتداء الحجاب وشروط عيش المرأة في مجتمع ذكوري.
تجربة شخصية
تقول بن قيقي التي حضرت العرض في جدة، إن فيلمها مستوحى من تجربتها الشخصية في نسبة 30 في المئة، لا أكثر. تصوير هذا الفيلم، وهو الروائي الثاني لها، بدا بالنسبة إليها أمراً ملحاً وهي في هذه المرحلة العمرية (66 سنة)، وربما لم تكن مستعدة له قبل ذلك.
يروي الفيلم حكاية ثلاث شقيقات فرنسيات من أصول جزائرية يقررن في يوم من الأيام الذهاب إلى الجزائر بحثاً عن شقيقهما الصغير الذي اختطفه والدهن (بطل من أبطال الاستقلال الذي سُجن في فرنسا) قبل ثلاثين عاماً وعاد به إلى الجزائر ولا أحد سمع عنه أي شيء منذ ذلك اليوم. زوجته وبناته الثلاث بقين في فرنسا. هرَّب الأب ابنه القاصر إلى الوطن، مستغلاً ثغرات القانون الجزائري الذي ينحاز إلى الرجل. مرت السنوات وكبرت الشقيقات الثلاث، وذات يوم يقررن نفض غبار الماضي عنهن وحل مشكلة لا تزال عالقة: البحث عن الشقيق الذي ذهب ولم يعد.
هذه العودة إلى الماضي الأليم تحت إشراف الأم التي تُركت وحدها لتربي بناتها الثلاث في غياب الأب العنيف والقاسي والمتسلط، وفي ظل ذكرى الابن الذي سُلب منها، تعني بالنسبة إلى الشقيقات إعادة تقييم حياتهن انطلاقاً منها، وإعادة صوغ علاقتهن بكل شيء من حولهن، بدءاً من علاقتهن الواحدة بالأخرى. في فيلم يتطرق إلى موضوع العائلة في المقام الأول، هناك الكثير من المسكوت عنه، وهذا المسكوت عنه يصبح تجاوزه ضرورياً في لحظة تلاقي الأقدار، وفي زمن يتقاطع فيه الحراك الناشئ في الجزائر مع إصرار الشقيقات على الذهاب إلى الوطن لمساءلة الأب وهو يرقد في أحد المستشفيات. خلف العيش الهادئ في دولة أوروبية، هناك إشكاليات تتعلق بماضي هؤلاء ذوي الأصول المهاجرة، وهناك "تروما" ما عاد إنكارها نافعاً.
أصول جزائرية
من أجل إعطاء الفيلم المزيد من الصدقية، أسندت بن قيقي أدوار الشقيقات إلى ثلاث ممثلات فرنسيات من أصول جزائرية: إيزابيل أدجاني (عجاني) ورشيدة براكني ومايوان. الشقيقات اللواتي يقفن قبالة كاميرا بن قيقي، سيدات عصريات، كل واحدة منهن حاولت تحقيق ذاتها خارج الأطر الاجتماعية وسطوة العائلة. للأخت الكبيرة زهرة حصة الأسد من الحكاية، ليس لأنها تحمل ملامح أدجاني، النجمة والممثلة الأشهر بين الثلاث، بل لأنها تلعب دور مخرجة مسرحية تحاول مسرحة الحياة التي عاشتها وتجسيد تفاصيلها على الخشبة، الأمر الذي يولد بعض التوتر بينها وبين أفراد أسرتها، وفي المقدمة أمها التي لا تعجبها الفكرة. لزهرة مشكلة: يؤنبها ضميرها، لكونها لم تستطع منع والدها من تهريب شقيقها. شقيقتها جميلة (براكني)، لا شيء يميزها سوى طموحها في أن تتولى منصب العمدة في المدينة التي تقطنها، لكن الكل يذكرها بأصولها طوال الوقت. تبقى الأخت الصغرى نورا (مايوان) التي تعاني اضطرابات نفسية وهي تعاند الكل باستمرار.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الفيلم نتاج هذا اللقاء بين الشقيقات الثلاث اللواتي لا تشبه إحداهن الأخرى. هن جزائريات في فرنسا وفرنسيات في الجزائر. بن قيقي تستمد جوهر فيلمها من أزمة الهوية وأزمة الفقد وأزمة أن تحمل إرثاً جزائرياً رغماً عنك. لا شيء يجمع الشقيقات الثلاث، سوى رغبتهن في طي صفحة الماضي عبر مواجهتها أخيراً. هذا التنوع في طباع الشقيقات يخلق للفيلم مساحة للنقاش، أرادت بن قيقي من خلاله طرح وجوه عدة للجزائر، ذلك أن كل شقيقة تعكس وجهاً من وجوه الجزائر. قالت بن قيقي في أحد اللقاءات معها إنه كان مهماً بالنسبة إليها أن تتعايش في فيلمها أجيال عدة من نساء يتحدرن من عائلات مهاجرة. فهي وأدجاني وبراكني من الجيل الأول، في حين أن مايوان من الجيل الثاني، أما حفصية حرزي (تضطلع بدور ابنة أدجاني) فهي من الجيل الثالث. كل واحدة من هؤلاء النساء تقارب مسألة هويتها بطريقة مختلفة. النحو الذي تتحدث فيه شخصية حرزي يختلف شكلاً ومضموناً عن طريقة أمها أو جدتها. بن قيقي تعتبر هذا الجيل الثالث جيل الأمل الذي سرعان ما سيتجسد في فورة شعبية واحتجاجات ستقوم في شوارع الجزائر لمنع بوتفليقة من تولي العهدة الخامسة. هذا الفصل من الفيلم سنكتشفه عندما تغادر الشقيقات إلى وطن الأب، علماً أن المخرجة لم تكن قد خططت لترتيب الحكاية في هذا السياق السياسي والحراكي، لكن رب صدفة خير من ألف ميعاد، ذلك أن التصوير تزامن مع الحراك، ما فرض عليها ذلك. في النتيجة، يمكن القول إن هذا ما مد الفيلم ببعض النضارة والتلقائية اللتين كان يحتاج إليهما.
بن قيقي سينمائية ملتزمة، بالمعنى التقليدي للكلمة. فهي لا تصنع فناً للفن، بل صاحبة أجندة واضحة وصريحة. أفلامها تخدم قضايا. هل يجب أن نفهم أن فيلمها هذا يفيد للترويج لقضية أو لإصلاح خلل؟ على الأرجح! ذلك أن القضية الأم التي نكتشفها ونحن نشاهد الفيلم هي الفراغ القضائي الذي تعانيه النساء المطلقات. فالقانون الجزائري يجيز للرجل الجزائري الذي يطلق زوجته في فرنسا أن "يخطف" أولاده ويأخذهم إلى الجزائر مانعاً الأم من رؤيتهم. في هذا الصدد، لا القانون الفرنسي (الذي لا يمنع الأب من السفر مع أولاده للعطلة الصيفية) ولا الجزائري (الذي لا يمنع من إبقائهم في الجزائر) ينصف الأم. هذه هي القضية المركزية التي تحاول بن قيقي شد الانتباه إليها من خلال هذا الفيلم الجماهيري الذي لا يخلو من العيوب على صعيد الكتابة السينمائية والإيقاع والإخراج. لكنه مع ذلك يحمل في داخله قلق مخرجة وطموح بلادها.
اللافت أن بن قيقي، وربما لأنها من جيل آخر من النسويات، تعامل الرجل الوحيد في الفيلم، أي الأب، بالكثير من الرحمة. تحاول فهمه لا بل تأتيه بأسباب تخفيفية، شارحة تعلق الشقيقات الثلاث بوالدهن القاسي بالكلمات الآتية "إنه مثل الجنود الأميركيين الذين عادوا من فيتنام ولم يخضعوا لأي علاج نفسي. حرب الجزائر كانت وحشية. دخل أحمد (الأب) السجن بطلاً وخرج منه طفلاً مشوهاً".