رواية الكاتب الجزائري الفرنكوفوني يحيى بلعسكري، "صمت الآلهة"، التي صدرت حديثاً عن دار "زولما" الباريسية، لا نتلقاها فقط كرواية، بل أيضاً كحكاية وملحمة وتراجيديا ونص شعري بامتياز، وكـ"سمفونية عالم يتجه نحو عزلة لا فرار منها".
في مطلعها، يقول الراوي: "أعرف. على خطى الأجداد، حيث يحتفى بعرس الشمس والحجر، في ظل الجبل، يولد الدوار. (...) إليكم قصة الناس الذين أتوا بي إلى العالم. ناس تخلوا عن كل رزانة وتجاهلوا حمية القلب، مفضلين ظلمات الجريمة". جملة لا تشكل فقط خير مفتاح لولوج هذا العمل الفريد، بل تمنحنا أيضاً نبرة نصه الآسر ومؤشراً لما ينتظرنا داخله.
أحداث الرواية تدور في قرية على حدود الصحراء تدعى "عين الماعز" وتبدو الحياة فيها معلقة خارج الزمن. مكان "تحف الحجارة فيه وتتدحرج عند أقل رعاش هواء، ويتحرك الرمل ببطء، حبة تلو الأخرى". وبينما يستسلم رجال القرية يومياً لطقس زراعة واحتها، غير عابئين بصعوبة هذه المهمة وقلة مردودها، نظراً إلى طبيعة أرضها القاحلة، تنشغل النساء في تربية الأطفال والاعتناء بالمنزل. قرية هانئة لا ضوضاء يعكر سكونها، حتى في مقهاها الوحيد، ويدير شؤونها البلدية مندوب إداري، والصلاة إمام عجوز، ويضطلع ولي مشبوه بمهمة "تلطيف" هموم نسائها.
المجنون زياني
الصوت الوحيد الذي يرتفع من حين إلى حين في ساحتها هو صوت مجنونها زياني الذي لا يفوت فرصة لانتقاد عيوب أبنائها وإلقاء عليهم تنبؤاته بمستقبل أسود قريب، لكن لا أحد يصغي إليه.. إلى أن يقع حدث غير متوقع يخضع رجال القرية له من دون البحث في سبب الشقاء الذي سيدره عليهم. ففي أحد الأيام، ولسبب مجهول، يقطع جنود الطريق الوحيد الذي يقود إلى قريتهم، ما يحكم عليهم بالعيش في عزلة مطبقة. وحين يغتنم الأسوأ بينهم، والأكثر ثراءً، عباس، هذه الفرصة للتحكم بمصيرهم، ينقسمون إلى فريقين: فريق يرفض الانصياع إلى أوامره ويدفع غالياً ثمن تمرده، وفريق يخضع له لتجنب تحمل مسؤولياته وتشغيل عقله.
بالنسبة إلى عباس وفريقه، سبب قطع الجنود طريق القرية هو من دون شك خطأ ارتكبه أحد أبنائها، ولذلك لا بد لهم من مذنب، من كبش فداء، من ضحية، فيختارون عبد الكريم، ذلك الشاب المسالم والقنوع الذي لا يغذي الأوهام بحياة أفضل خارج قريته، بخلاف العديد من أبنائها، ويكد بلا تململ لسد قوت زوجته بدرة وأطفاله. ومع أنهم يتمكنون، بعد مضايقته وحرق منزله، من طرده مع عائلته من أرض أجداده، لكن عباس لن يتوقف عند هذا الحد، يل ينطلق في تصفية معارضيه، الواحد تلو الآخر، بلا رادع.
وهذا ما يفسر قرار المندوب الإداري، باقي، حين يجبره عباس على التوجه إلى المدينة لإبلاغ المسؤولين فيها بمآثره، على رغم الحصار، عدم العودة إلى القرية ونسيان كل من فيها، بما في ذلك زوجته وأطفاله، وبدء حياة جديدة في المدينة. أما عبد الكريم وعائلته، فبعد فترة تيه مضنية في الصحراء، يجدون ملاذاً لهم في كنف واحدة من قبائل البدو تحتضنهم وتساعدهم على إعادة تشييد أنفسهم.
الحصار المغروض
ولا تلبث هذه التصدعات في جدار الحصار المفروض على "عين الماعز" أن تؤدي إلى تصدعات أخرى، أبرزها وأجملها مسيرة تحرر نساء القرية التي ستقودهن إلى مغادرة هذا المكان في السر وإعادة ابتكار حياتهن معاً في مكان آخر، بعيداً عن عنف رجالهن وقواعد حياتهم البالية والمقيدة لحريتهن. نساء يتجمعن في أحد الصباحات تحت قيادة زهرة، زوجة عباس الأولى، ويخترن بجرأة الرحيل لإنقاذ مستقبل أولادهن.
أما أولئك الذين بقوا في القرية مع طاغيتهم، فحين يعود منصور، أحد ابني عبد الكريم وبدرة، إلى "عين الماعز" راشداً، يجدهم عجائز لا قدرة لهم سوى على النواح، فيوجه إليهم كلاماً قاسياً باسم جميع الذين طردوا أو فروا من القرية أو قتلوا على يد عباس وزمرته. كلام على شكل خطاب جماعي صاعق في نبرته ومغزاه، تدلو فيه كل واحدة من ضحايا القرية بدلوها، الواحدة تلو الأخرى، ويشكل خير خاتمة للرواية. خطاب يقول منصور في نهايته: "نحن جميعاً أبناء بدرة وعبد الكريم، ربيعة وجلول، ستي وباقي. نحن جميعاً أبناء زياني المجنون، الأكثر بصيرة من هذيانكم الصاخب والوحشي. نحن أيضاً أبناء عائشة وسليمان، ومن صفهم. لقد ولدنا في هذه القرية التي يقطنها ماعز خائف ومخجل، منصاع وقابل للفساد. (...) وعلى الرغم من العقبات، ابتكرنا أنفسنا من دون إرثكم. ذهبنا إلى مكان آخر للبحث عن فرص حياة ممكنة. (...) وإلى البعيد سنذهب لقطف بضعة غصون واعدة بالإزهار. إلى الأبد نتنكر من أبوتكم ومن الآلهة التي تعبدونها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولا تحل النبرة الملحمية لهذا الخطاب، وللرواية عموماً، وعدم تحديد بلعسكري داخلها المكان الذي تدور فيه أحداثها، من دون حزرنا بسهولة بأن المقصود أولاً فيها هو الجزائر والتطرف الذي أدمى أبناءها خلال العقود الأخيرة، والتقاليد والمعتقدات المتحجرة المرسخة ليس فقط في هذا البلد، بل في كامل منطقتنا وأنحاء مختلفة من العالم. لكن من خلال بعض شخصياتها، خصوصاً النسائية، "صمت الآلهة" هي أيضاً ملحمة مشحونة بالأمل، واستعارة ناجعة لمجتمع لم يعد يريد العيش على هامش التاريخ والبشرية والحرية.
ولخطها، شحذ الكاتب لغة مذهلة في جمالياتها، إذ لم يكتف بصقل كل جملة فيها باقتصاد كبير في الكلمات ومهارات صائغ، وبمدها بإيقاعات شعرية أسرة، بل طعم أيضاً نثرها الملتهب بقصائد عديدة تحضر كوقفات للراوي أو كأناشيد تدندنها بعض شخصيات الرواية، وتشكل جزءاً لا يتجزأ من عملية السرد وتطورها.
الصحراء والحرية
لكن قيمة "صمت الآلهة" لا تقتصر على ذلك، بل تكمن أيضاً في الرسائل الكثيرة التي يسيرها بلعسكري داخلها، وأبرزها أن الصحراء هي مكان حرية بامتياز، وسكانها البدو أكثر انفتاحاً وضيافة وتقبلاً للآخر من سكان المدن والقرى، فهم الذين سينقذون عبد الكريم وعائلته من قدر أسود، حين يطردهم أبناء قريتهم منها، وهم الذين سيساعدون نساء القرية، حين يغادرنها، على الاستقرار قربهم ويوفرون لهن ما يلزم للعيش بكرامتهن.
الرسالة الثانية، المسيرة على طول الرواية هي أن المرأة مستقبل الرجل، ومن دونها، يتحجر هذا الأخير في معتقداته وماضيه. بالتالي، المجتمعات التي لا تمنحها حريتها المشروعة وتجعل منها رهينة للرجل، محكومة بالفشل والزوال. ومن خلال استعارة القرية النائية والمغلقة على نفسها، ثمة أيضاً رسالة مفادها أن التقوقع وقطع الصلات بالعالم الذي نعيش فيه يقود حتماً إلى التطرف والتخلف والعنف.
وفي ضوء هذه الرسائل، تأخذ خاتمة الكلام الذي يوجهه إلى عجائز القرية منصور، صنو الكاتب في إنسانيته ومعانقته للبعيد، كل معناها: "طفل الرمل والريح، أضعت الحصى التي خدشتني، واحتفظت بلغتي لاستحضار الموتى. سافروا في حقيبتي مع الكتب والطفولة المسروقة. (...) أرفض الإقامة الجبرية ولا أستجيب لأي أمر زجري. أنا من لا مكان ومن كل الأمكنة التي يسعى فيها نساء ورجال للحد من الخوف والقضاء على الجريمة، من كل الأمكنة التي يعاد فيها ابتكار الطبية البشرية. هنا بيتي، داري الوحيد".