إثيوبيا تندفع بأقصى سرعة نحو الكارثة. ففي الأسبوع الماضي، مع تقدم قوات "جبهة تحرير شعب تيغراي" المتمردة وحلفائها نحو العاصمة أديس أبابا، سافر رئيس الوزراء آبي أحمد إلى خط المواجهة وتعهد بقيادة القوات الإثيوبية في المعركة بنفسه. وفي ذلك السياق قال: "لن نستسلم حتى ندفن العدو". وفي المقابل، ردّ المتحدث باسم جبهة تحرير شعب تيغراي واصفاً قيادة آبي أحمد بأنها "تخنق شعبنا" وتعهّد بمواصلة "تقدم المتمردين الحتمي".
إذا استمر آبي وخصومه في المضي قدماً في هذا المنحى، فهم لا يخاطرون بإراقة الدماء والانهيار الاقتصادي الهائل فحسب، بل أيضاً بتصدع الدولة الإثيوبية كما عهدناها. إذ إن إثيوبيا معرضة لخطر أن تتحول إلى يوغوسلافيا هذا الجيل: أمة عظيمة وزعامة إقليمية تتشظى بعنف على وقع التباينات العرقية. في الواقع، تتجلى أصداء حروب يوغوسلافيا الدموية بالفعل في الاستقطاب وخطاب الكراهية والعنف الذي عصف بإثيوبيا خلال العام الماضي. وتطاردني ذكرى تلك الصراعات السابقة عندما أفكر في ما قد يحصل تالياً لثاني أكبر دولة في أفريقيا من حيث عدد السكان.
والجدير بالذكر أنّه حتى مع اقتراب القتال من عتبة باب العاصمة الإثيوبية، لم يفت الأوان بعد لطي النزاع ولجلوس آبي وجبهة تحرير شعب تيغراي على طاولة المفاوضات والتحاور من أجل منع مزيد من التصعيد في حرب أودت بأرواح كثيرة. إذاً، يجب على كلا الطرفين اتخاذ إجراءات فورية لإنهاء الأزمات الإنسانية الأكثر إلحاحاً، وذلك بدوره يمكن أن يفسح المجال أمام بروز المساحة اللازمة للمفاوضات.
وعود منكوثة
منذ وقت ليس ببعيد، كانت إثيوبيا تسلك مساراً مختلفاً تماماً. في عام 2019، فاز آبي بجائزة نوبل للسلام بسبب إنهائه حرباً حدودية ضارية استمرت 20 عاماً مع إريتريا، وتعزيزه سلسلة من الإصلاحات الديمقراطية الواسعة. في خطاب قبول الجائزة، وصف آبي فلسفته الحاكمة بأنها "ميديمير" Medemer، وهي كلمة أمهرية تعني "إضافة"، وهي تدلّ، بحسب تفسيره، على مزيج من المصالحة والوحدة والتسامح. وتجدر الإشارة إلى أنّ تلك الرؤية من أجل بلد متنوع وشامل وموحد، جنباً إلى جنب مع جهوده الإصلاحية المبكرة، منحت الأمل لملايين الناس في أن إثيوبيا تسير على طريق مستقبل أكثر استقراراً.
ولكن هذا الأمل تبدد تقريباً خلال العام الماضي. في الحقيقة، تحدثتُ أولاً إلى آبي حول الصراع الوشيك في تيغراي في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020. علماً أنّ التوترات بين حكومته وجبهة تحرير شعب تيغراي، التي هيمنت على الائتلاف الحاكم في إثيوبيا حتى عام 2018، كانت تتصاعد منذ شهور، وبلغت ذروتها في هجوم شنته الجبهة على القواعد العسكرية الإثيوبية في شمال البلاد. رداً على ذلك، كان آبي يستعد لشن هجوم عسكري كبير على ميكيلي عاصمة تيغراي. في ذلك السياق، دعوته إلى إعادة النظر في قراره والسير في طريق التفاوض والمصالحة بدلاً من ذلك. غير أنّه أصرّ على أنه كان يقوم بعملية إنفاذ القانون فحسب للقبض على عصابة من المجرمين؛ وقال إن المهمة ستنتهي في غضون أسابيع. كذلك، حذرته من ذلك وذكرته بأن الجنرالات في الجانبين المتحاربين خلال الحرب الأهلية الأميركية قد قاموا بتوقعات مماثلة في ربيع عام 1861. لكنّ ذلك الصراع، بعيداً من تحقيق نتيجة سريعة وحاسمة، استمرّ لأكثر من أربع سنوات، وتحول إلى الحرب الأكثر فتكاً وتدميراً في تاريخ الولايات المتحدة. على الرغم من تحذيراتي، وتحذيرات عدد من القادة في أفريقيا وحول العالم، واصل آبي المضي قدماً في حملة عسكرية تسببت منذ ذلك الحين في نزوح جماعي وانتهاكات لحقوق الإنسان.
في أوائل عام 2021، جعل الرئيس جو بايدن الصراع وحال الطوارئ الإنسانية في تيغراي في صدارة أولويات السياسة الخارجية لإدارته، إذ أولى المسألة اهتماماً كبيراً وبذل موارد كبيرة وعالية المستوى في محاولة للتخفيف من حدة الأزمة. واستطراداً، عمل بايدن ووزير الخارجية أنتوني بلينكن والمبعوث الخاص لمنطقة القرن الأفريقي جيفري فيلتمان مع شركاء إقليميين وحلفاء أوروبيين لحمل الأطراف المتحاربة على المفاوضات. في الواقع، لقد كنت فخوراً بأن أكون جزءاً من الجهود الدبلوماسية التي بذلتها الإدارة، بما في ذلك السفر إلى أديس أبابا للقاء آبي وتسليم رسالة شخصية من بايدن.
إذا استمر آبي وخصومه في مسارهم الحالي، فإنهم يخاطرون بتقسيم الدولة الإثيوبية كما عهدناها
في مارس (آذار)، أمضيت خمس ساعات مع آبي على مدى يومين في أديس أبابا، حيث عبّر عن اعتزازه العميق بتاريخ إثيوبيا باعتبارها الدولة الأفريقية الوحيدة التي لم تستعمرها أي قوة أجنبية قط، وأظهر اعتداداً قوياً بالاستقلال. بدا واضحاً بالنسبة إليّ أنه رأى نفسه مصلحاً شديد البأس حتى عندما كان يكافح لتحقيق التوازن بين القوى السياسية الداخلية المتنافسة والضغوط الخارجية من المجتمع الدولي. آنذاك، حثثته على اتخاذ تدابير حاسمة لمعالجة الصراع وحل القضايا الإنسانية والأمنية والحقوقية قبل أن تنفلت من عقال السيطرة.
وقدّم لي آبي عدداً من الوعود، ووفى ببعض منها مبدئياً. وبعد الاعتراف لأول مرة بأن القوات الإريترية دخلت الصراع للقتال إلى جانب القوات الإثيوبية، وفى آبي بتعهده بزيارة أسمرة، عاصمة إريتريا، لمناقشة انسحاب القوات الإريترية مع الرئيس أسياس أفورقي. كما أقر آبي علناً بأن جميع أطراف النزاع قد ارتكبت انتهاكات لحقوق الإنسان وأعرب عن الحاجة إلى المساءلة. وكذلك، خفف القيود على وصول المساعدات الإنسانية وأعطى إذناً ببدء تحقيق مشترك بين الأمم المتحدة واللجنة الإثيوبية لحقوق الإنسان. لكن في غضون أسابيع قليلة، تلاشى بصيص الأمل، إذ عكس آبي مساره ومضى قدماً في المجهود الحربي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في الواقع، تعتبر النتائج واضحة بقدر ما هي مدمرة. بعد مرور أكثر بقليل من عام على الصراع الوحشي والمأساوي، فرّ أكثر من 60 ألف شخص من إثيوبيا. وقد قمت بزيارة بعض منهم في أبريل (نيسان) في مخيم أم راكوبة للاجئين في السودان المجاور. وكانت قصص كل منهم عن الترحيل القسري والاغتصاب وأشكال العنف العرقي الأخرى مفجعة. وترقى رواياتهم مجتمعة إلى مصاف مأساة عبر الأجيال.
على الرغم من أن عدد الضحايا الدقيق غير معروف، إلا أن الخسائر البشرية في الصراع كانت مروعة. إذ بالإضافة إلى 60 ألف شخص فروا من البلاد، اضطر إلى النزوح أكثر من مليوني شخص في الداخل الإثيوبي، تشكّل النساء والفتيات أكثر من نصفهم، علماً أنّ العديد منهن واجه عنفاً جنسانياً رهيباً. كذلك، تسببت الحرب في مقتل الآلاف، ودفعت ما لا يقل عن 400 ألف شخص إلى ظروف أقرب إلى المجاعة، فيما خلفت سبعة ملايين شخص في حاجة إلى مساعدات إنسانية عاجلة. ووفقاً لمحققين دوليين، ارتكبت جميع أطراف النزاع أعمالاً وحشية.
اختيار السلام
جاء جواب الحكومة الأميركية على الأزمة في تيغراي عن طريق تعليق المساعدة الأمنية لحكومة آبي، وفرضت عقوبات تستهدف أولئك الذين يؤججون الصراع وينتهكون حقوق الإنسان، كما ألغت الامتيازات التجارية التفضيلية التي تتمتع بها إثيوبيا في سياق قانون تشجيع النمو والفرص في أفريقيا. وبتصويت موحد من الحزبين، أدان الكونغرس الأميركي تصرفات الحكومة الإثيوبية وحلفائها وجبهة تحرير شعب تيغراي. وفي سياق متصل، جنباً إلى جنب مع بوب مينينديز، السيناتور الديمقراطي في ولاية نيوجيرسي، وجيم ريش، جمهوري من ولاية أيداهو، أصدرتُ أخيراً تشريعات مشتركة بين الحزبين تطالب بعقوبات إلزامية على مرتكبي النزاع ومنتهكي حقوق الإنسان، ووضع حد لبيع الأسلحة والمساعدة الأمنية لإثيوبيا، وفرض قيود على دعم الولايات المتحدة لتمويل إثيوبيا عبر المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي.
واستطراداً، أجج النزاع الغضب ونفخ في الانقسام داخل إثيوبيا وفي صفوف الشتات الإثيوبي، الذي تمزقه السرديات [الروايات] المتعارضة حول العرق والقومية والتاريخ. وما زاد الطين بلة هو بيئة رقمية سامة تهيمن عليها معلومات مضللة وبروباغندا وخطاب الكراهية والإبادة الجماعية والتحريض على العنف. في الواقع، كان لذلك الخطاب الخطير عبر الإنترنت عواقب في الحياة الواقعية، إذ أدى في بعض الحالات إلى أعمال وحشية. في أغسطس (آب)، انتشرت مثلاً إشاعات على فيسبوك مفادها أنّ قوم "كيمانت" Quemant، وهو أقلية عرقية في منطقة الأمهرة، تدعم قوى المعارضة. بعد فترة وجيزة، زُعم أن أنصار الحكومة الفيدرالية الإثيوبية قاموا بجر أكثر من عشرة أشخاص من أبناء الكيمانت من منازلهم في بلدة "أيكل" Aykel وذبحوهم في الشارع.
الخسائر البشرية الناجمة عن الصراع في إثيوبيا كانت مروعة
بعد مرور 8 أشهر على اللقاء بيني وبين آبي في أديس أبابا، أدعوه مرة أخرى لاختيار طريق التسوية وإرساء السلام الذي سيحول دون انزلاق النزاع إلى أتون إبادة جماعية. كما أنني أطلب من جبهة تحرير شعب تيغراي والمقاتلين الآخرين أن يفعلوا الشيء نفسه. لقد تغيرت ديناميكيات ساحة المعركة بشكل كبير منذ أن كنت في إثيوبيا، إذ يبدو أن جبهة تحرير شعب تيغراي وحلفاءها قد حققوا مكاسب كبيرة ضد حكومة آبي. في الواقع، أنا أعلم أنّ التسوية يمكن أن تبدو ضعفاً بالنسبة إلى القادة الذين يخوضون حملة عسكرية، لكن القيادة تتطلب استعداداً لتقديم التنازلات. ولا يعتبر ضرب مطالب المعارضة بعرض الحائط سبيلاً إلى النجاح على الإطلاق.
مع تحرك المتمردين نحو أديس أبابا، لا تُعدّ الصراعات الطاحنة والمذابح والانقسامات العرقية المستمرة ممكنة فحسب، بل من المرجّح حصولها. ولكن في المقابل هي ليست حتمية. في الحقيقة، لا تزال هناك فرصة لكلا الجانبين لكي يُظهرا قيادة حقيقية من خلال وقف الأعمال العدائية والجلوس إلى طاولة المفاوضات سعياً وراء حوار وطني حقيقي يرسم طريقاً إلى الأمام.
وفي ذلك المجال، يجب أن تقود حكومة آبي المسيرة من خلال تهيئة الظروف التي يمكن للجانبين التفاوض في ظلها. وتحقيقاً لتلك الغاية، ينبغي أن تتخذ خطوات فورية للتخفيف من الأزمة الإنسانية في تيغراي، بما في ذلك رفع الحصار الفعلي والسماح بدخول إمدادات غذائية وطبية كافية إلى المنطقة. كما يتعين عليها أن تعيد إلى المنطقة الكهرباء والاتصالات السلكية واللاسلكية والبنوك والتجارة والخدمات الأساسية الأخرى التي قطعتها خلال النزاع. والجدير بالذكر أنّ تلك الخطوات لن تنهي انتهاكات القانون الإنساني الدولي فحسب، بل ستقضي أيضاً على الذريعة الأولية التي رفعت جبهة تحرير شعب تيغراي لواءها من أجل توسيع هجومها إلى خارج تيغراي.
أخيراً، يجب على حكومة آبي أن تتوقف عن اعتقال التيغريين واحتجازهم بناءً على هويتهم العرقية فحسب وأن تكفّ عن الإشارة إلى الجبهة على أنها جماعة إرهابية تستحق الإبادة. وطالما تستمرّ أديس أبابا في القول إنها تسعى إلى تدمير جبهة تحرير شعب تيغراي، فمن الصعب تخيل سيناريو يسحب فيه قادة تيغراي قواتهم. في المقابل، وعلى "الجبهة" أن توقف من جهتها تقدمها الحثيث نحو العاصمة، وأن تخفف من حدة خطابها العدواني، وتبدي استعداداً للتفاوض. إذا استمرت الأطراف المتحاربة في إثيوبيا في اختيار العنف، فستكون المساءلة حتمية وقسرية وعالمية، ولكن إلى حين ذلك، ستصاب إثيوبيا بأذى لا يمكن إصلاحه والعودة عنه [عن خسارة مكانتها وتشظيها].
*السيناتور كريس كونز عضو ديمقراطي في مجلس الشيوخ عن ولاية ديلاوير وعضو في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأميركي
مترجم من فورين أفيرز الأميركية، ديسمبر (كانون الثاني) 2021