يظهر تعامل روسيا في إمدادات الغاز، حالة "فصام سياسي" تعيشها موسكو حيث تسير في اتجاهين مختلفين، الأول مع الاتحاد الأوروبي في تزايد واضح للعداء بين الطرفين، والثاني مع الصين حيث التقارب لبلورة محور موحد بين موسكو وبكين في مواجهة توتر علاقتهما مع الغرب.وما بين تباين الموقف الروسي المثير للجدل، تظل النتيجة واحدة بتسجيل أسعار الغاز في الأسواق العالمية بقفزة قياسية في ظل زيادة الطلب وبرودة الطقس القاسية. وتتمتع روسيا بقرب جغرافي من الأسواق الأوروبية والآسيوية للوقود شديد البرودة، وتقوم بتطوير طريق بحر الشمال عبر القطب الشمالي لضمان تسليم أسرع وأرخص.
الموقف الأول
ففي أوروبا، أصبح خط أنابيب الغاز "نورد ستريم 2" الرابط بين روسيا وألمانيا معلقاً لأسباب لوجيستية في انتظار الموافقة التنظيمية من برلين وبروكسل، وذلك نتيجة تفاقم الوضع المقلق في أوكرانيا. ويمتد الخط الجديد الذي تبلغ قدرة نقله 55 مليار متر مكعب من الغاز في العام، على 1230 كيلومتراً تحت مياه بحر البلطيق وهو الطريق نفسه الذي يمتدّ عليه مشروع "نورد ستريم 1" الذي وضع في الخدمة منذ عام 2012. وكانت شركة "نورد ستريم 2 إي جي" المملوكة لعملاق الغاز الروسي "غازبروم"، أعلنت في السادس من سبتمبر (أيلول) 2021 تركيب آخر أنبوب في "نورد ستريم 2"، وكان من المنتظر أن يبدأ توريد الغاز إلى ألمانيا عبر هذا الأنبوب مع بداية أكتوبر (تشرين الأول) ولكنه تأجل. وتزامن هذا التطور مع ارتباك لسوق الغاز في أوروبا بسبب نقص المخزون وخفض شركة غازبروم ضخ كميات الغاز إلى القارة خلال الأشهر الأخيرة، ربما لخلق ضغط في السوق على خلفية بدء عمل الأنبوب الجديد.
جدل متجدد
وعلى مدى العشر سنوات الأخيرة يثير "نورد ستريم 2" جدلاً متجدداً، حيث يلقى معارضة من الولايات المتحدة والعديد من دول شرق أوروبا بوجه خاص. وقد أثار "نورد ستريم 2" توتراً بين واشنطن وموسكو من قبل، إذ عارضت إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب المشروع لأنه سيحرم أوكرانيا من رسوم المرور السخية التي تحصل عليها نتيجة توريد الغاز الروسي لأوروبا، كما أنه يزيد نفوذ روسيا الاقتصادي والسياسي بأوروبا. وفرضت واشنطن عقوبات على شركات تعمل في المشروع في ديسمبر( كانون الأول) 2019، ما أدى إلى توقف العمل في خط الأنابيب لمدة عام قبل أن تعاود شركة "غازبروم" الروسية العمل على استكماله. وتستند تلك المعارضة المتزايدة على أن خط الأنابيب سيجعل الاتحاد الأوروبي أكثر اعتماداً على الغاز الروسي الذي يوفر بالفعل 47 في المئة من احتياجات دول الاتحاد من الغاز في النصف الأول من العام الحالي، ما يعني أنه ضروري للقارة العجوز، بخاصة مع أزمة ارتفاع الأسعار بشكل جنوني والتي ضربت المنازل وأنشطة الأعمال. ويعد خط الأنابيب "نورد ستريم 2"، الذي تبلغ استثماراته الإجمالية نحو 11 مليار دولار، من أهم مشروعات روسيا في أوروبا، وهو أهم العقوبات التي هدد الرئيس الأميركي جو بايدن نظيره الروسي فلاديمير بوتين بها في قمتهما الافتراضية أخيراً. وعلى الرغم من أن خط الأنابيب الحالي للغاز الطبيعي الروسي "يامال – أوروبا"، الذي يمر عبر بيلاروس وبولندا إلى ألمانيا، يعمل بكامل طاقته البالغة 32.9 مليار متر مكعب سنوياً، فإن ذلك لا يكفي لتلبية زيادة الطلب الأوروبي. وسبق وأعلنت شركة الطاقة النرويجية، أكبر منتج ومورد للغاز للسوق الأوروبية، أنها لن تستطيع تلبية أكثر من 60 في المئة من الزيادة في الطلب على الطاقة في دول أوروبا هذا الموسم. لذا، من شأن خط "نورد ستريم 2" في حال تشغيله أن يسهم في حل مشكلة نقص الغاز، بالتالي إنتاج الطاقة في دول أوروبا.
ارتفاعات تاريخية
وعلى أثر هذا المناخ الجيوسياسي المتوتر للغاية وفي ظل الانخفاض الحاد في تدفق الغاز من روسيا، سجلت الأسعار الأوروبية ارتفاعات تاريخية مع موسم الشتاء وزيادة الطلب على التدفئة، الأمر الذي أدى إلى صعود الأسعار إلى مستويات تاريخية. وتحتاج القارة الأوروبية إلى إمدادات الغاز لتلبية الطلب على الإنارة والتدفئة في ظل عدم قدرة مصادر الطاقة المتجددة على الوفاء بالطلب. وقفزت أسعار الغاز في أوروبا إلى مستوى قياسي جديد الأسبوع الماضي ليصل إلى نحو 800 في المئة منذ بداية العام، وعلى رغم تراجعه لكنه لا يزال مرتفعاً بأكثر من 400 في المئة، وكانت الأسعار قد ارتفعت في 21 ديسمبر (كانون الأول) إذ تجاوز 1800-1900 دولار لكل ألف متر مكعب، مسجلة أعلى مستوى جديد لها على الإطلاق. وواصل الغاز الأوروبي، الثلاثاء، انخفاضه إلى أقصى حد له منذ أكثر من عام، في الوقت الذي يبدو فيه أن الشحنات القادمة من الولايات المتحدة ستعمل على تخفيف أزمة الطاقة في المنطقة. وانخفض الغاز الهولندي المعياري لأقرب أجل استحقاق لليوم الخامس، حيث تراجع بنسبة تصل إلى 8.3 في المئة.
مسألة سياسية
ومن جانبه، أعلن مندوب روسيا الدائم لدى الاتحاد الأوروبي، فلاديمير تشيجوف أن بلاده ترى أن مسألة موعد المصادقة على "نورد ستريم 2" سياسية وليست تقنية أو قانونية. وأضاف أنه في نهاية المطاف، المستهلك الأوروبي هو من سيعاني من تأخر التصديق على خط أنابيب الغاز من الجانب الألماني، وسيضطر لدفع مبالغ أكبر مقابل الغاز الروسي وانتظار تطورات الأحداث في المستقبل. وتابع: "على رغم أن تكلفة العقود الآجلة للغاز من الخط هي الأرخص من نوعها، فإن هناك تكاليف أخرى كالنقل وغيرها، سيتحملها المستهلك في تلك الدول"، وفق ما صرح به لوكالة الأنباء الروسية "تاس".
الموقف الثاني
في المقابل وبالنسبة لبكين، تبدو الصورة مختلفة تماماً حيث تتقدم المناقشات حول مشروع "قوة سيبيريا 2" الذي سيسمح بزيادة الإمدادات من روسيا إلى الصين، ثاني أكبر اقتصاد في العالم، بسرعة وسيتم الانتهاء من دراسة الجدوى في غضون أسابيع... ومن المخطط أن يمر خط الأنابيب من روسيا إلى الصين عبر منغوليا، ويتوقع أن تصل القدرة التمريرية للخط 50 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً، هذا إلى جانب أن "غازبروم" ملزمة بتكثيف تدفقاتها عبر خط أنابيب "قوة سيبيريا 1" خلال 2022، بموجب عقد طويل الأجل مع الصين. وكانت "غازبروم" بدأت في مايو (أيار) 2020 دراسة للجدوى لمشروع "قوة سيبيريا 2" الذي يبلغ طوله 2600 كيلومتر، ومن المتوقع أن إطلاق عملياته في عام 2030 وسيكون مملوكاً مناصفة بين "غازبروم" ومؤسسة البترول الوطنية الصينية.
النفوذ الروسي
وذكر الكاتب والمحلل الأميركي ديفيد فيكلنج في تحليل نشرته وكالة "بلومبيرغ"، أن مخاوف الحكومات في الولايات المتحدة وأوروبا هو أن خطوط أنابيب الغاز يمكن أن تشكل أداة قوية من النفوذ الروسي، بخاصة إذا قامت بقطع إمدادات الطاقة عن أي دولة في أشهر الشتاء القارس. وتابع فيكلنج: "قبل تدشين أول أنبوب نورد ستريم قبل عقد من الزمن، كان كل غاز روسيا المتجه إلى أوروبا يمر عبر أوكرانيا. كان هذا يعني أنه كان من الصعب تهديد كييف عبر إغلاق الصنابير من دون جعل الحكومات الأوروبية أعداء في المستقبل القريب". وأضاف أن "وجود قنوات منفصلة لبيع الغاز لأوكرانيا والاتحاد الأوروبي يعني أن بإمكان موسكو اختيار أنبوب الغاز التي تريد التهديد بها في أي وقت". وتابع فيكلنج: "وبينما يُنظر إلى خط نورد ستريم 2 على أنه تهديد للدول الديمقراطية في الطرف الآخر، يتم تقديم (قوة سيبريا2) كشيء أقرب ما يكون إلى شهر العسل بين موسكو وبكين، حيث يقرب البلدين من بعضهما البعض… وتتقدم المناقشات الأولية بسرعة، بعد أن تطرق الرئيسان شي جين بينغ وفلاديمير بوتين للمشروع في وقت سابق من هذا الشهر كما سيتم الانتهاء من دراسة الجدوى في غضون أسابيع وفقاً لبوتين". وذكرت صحيفة "نيكي آسيان ريفيو" اليابانية هذا الشهر أن الأنبوب سيساعد كلا البلدين على التحوط من التوترات مع الغرب. وأشار إلى أنه يمكن لخطي أنابيب "قوة سيبيريا'' أن يمنحا روسيا دوراً في واردات الصين من الغاز يكاد يكون جوهرياً كما هي الحال الآن بالنسبة لأوروبا، فحالياً تشتري بكين بالكاد الغاز عبر الأنابيب من موسكو، ولا يزال الغاز المسال يمثل حصة أكبر من التجارة العام الماضي بينما كان الخط الأول يعمل بكامل طاقته. ومع ذلك، بمجرد اكتمال الخط الثاني، فإنهما سيحملان معاً 88 مليار متر مكعب، أي ما يعادل 44 في المئة من واردات الصين البالغة 200 مليار متر تقريباً. وهذا لا يختلف كثيراً عن علاقة أوروبا بموسكو، التي تزودها بنحو 50 في المئة من الغاز المستورد. ففي حين أن استهلاك أوروبا البالغ 541 مليار متر مكعب يزيد بشكل كبير عن 331 ملياراً في الصين، فمن المتوقع أن يرتفع الرقم الأخير إلى 526 ملياراً بحلول 2030 حيث تقلل بكين من اعتمادها على الطاقة التي تعمل بالفحم وتتبني بدائل محلية. وبحسب "فيكلنج"، فقد يكون للصين اليد الأقوى في النهاية، من بناء "قوة سيبريا 2"، الذي يمنح روسيا سوقاً بديلة للغاز الذي كانت ستشحنه لأوروبا، لكن بكين لديها أيضاً بدائل - ليس أقلها الهيدروجين الأخضر وطاقة الرياح والطاقة الشمسية، إضافة إلى دول أخرى، مثل قطر وأستراليا، ستسعي للحصول على شريحة من سوق الغاز الصيني أيضاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويري معهد بروكينغز الأميركي للأبحاث، أن أزمة الطاقة زادت من حدة الجدل حول اعتماد أوروبا على إمدادات الغاز الروسي. وذكر المعهد في تقرير نشر أخيراً بعنوان "سوق الغاز الطبيعي العالمية الناشئة وأزمة الطاقة في 2021-2022"، أنه على رغم التركيز على خط أنابيب "نورد ستريم 2" فإن مسارات خطوط الأنابيب المحددة والجغرافيا السياسية المرتبطة بها لا تعتبر سبباً رئيساً للنقص الحالي في الغاز، مضيفاً أن دور موسكو يبدو محدوداً في كمية الغاز التي يمكن أن توفرها لأوروبا بسبب الصيانة الميدانية والتخزين المحلي المنخفض.في الوقت الذي أكد فيه التقرير أن روسيا لا تستغل الموقف لممارسة الضغط الجيوسياسي، أوضح أيضاً أن القوة السوقية لموسكو في إمدادات الغاز الأوروبية تشكل تهديداً لأمن الطاقة لكل دولة على حده، وربما للتكتل بأكمله، ولكن هذا ليس دافعاً رئيساً للتحديات الراهنة.
زيادة الانتاج
وزاد إنتاج روسيا من النفط ومكثفات الغاز إلى 10.48 مليون برميل يوميا في أكتوبر (تشرين الأول) من 10.72 مليون برميل يومياً في سبتمبر (أيلول)، وفق بيانات وزارة الطاقة الروسية. وبلغ إجمالي إنتاج النفط ومكثفات الغاز 45.86 مليون طن الشهر الماضي، وذلك مقابل 43.86 مليون طن في سبتمبر (أيلول).