شكلت المناورات العسكرية للحرس الثوري الإيراني التي انتهت يوم الجمعة الماضي عرضاً للعضلات على طاولة مفاوضات فيينا بالصواريخ من نوع "زلزال" و"ذو الفقار" و"سجيل" و"عماد" ذات المدى القصير والمتوسط، وهي ذات الصواريخ التي تستخدمها أذرعها الإرهابية في اليمن ولبنان وسوريا والعراق لزعزعة الأمن والاستقرار الإقليمي، وتؤكد انتهاك الجمهورية الإسلامية الإيرانية الفاضح لتعهداتها الواردة في قرارات الأمم المتحدة وآخرها القرار 2231 لعام 2015 الخاص باعتماد خطة العمل الشاملة المشتركة المعروفة بالاتفاق النووي، التي تنص على الإبقاء على الحظر الدولي على برنامج الصواريخ البالستية لارتباطه بالملف النووي، الأمر الذي يبرر تقارير الاستخبارات الغربية التي تشير إلى عدم رغبة طهران للعودة إلى الالتزام بالاتفاق لأن برنامجها النووي يتقدم بخطى ثابتة فيما يتلكأ الغرب في التعاطي الحاسم معها.
وبينما تستمر إيران في ابتزاز الدول التي تفاوضها في فيينا، تواصل خلق المزيد من التوترات في الإقليم عبر تزويد أذرعها الإرهابية بالصواريخ والطائرات المسيرة. وكان مجلس الأمن ولجنته الخاصة بالعقوبات في اليمن أكدا في مناسبات عدة على عدم امتثال طهران لحظر توريد الأسلحة إلى اليمن، وأشار التقرير الصادر في يناير (كانون الثاني) 2018 إلى تزويد الحوثيين بصواريخ باليستية من طراز بركان، وطائرات مسيرة من طراز أبابيل تي (قاصف1)، كما أشار تقرير 2019 إلى أن مكونات الطائرات المسيرة التي لدى الحوثيين تشير إلى تعاون إيراني مع صناعات أوروبية. وإرسال إيران لشحنات منتظمة من مكونات الصواريخ والطائرات المسيرة إلى الحوثيين مكّنهم من مواصلة حربهم ضد الشعب اليمني واستهداف الأعيان المدنية في السعودية وتهديد الملاحة الدولية في منطقة جنوب البحر الأحمر. وخلال السنوات الماضية تمكنت العديد من القوات البحرية من أوروبا والولايات المتحدة من مصادرة شحنات أسلحة إيرانية الصنع متجهة إلى الحوثيين في اليمن بما يزيد من تأجيج النزاع الذي يدخل مع بداية العام المقبل عامه الثامن.
لقد قام الفكر المؤسس للجمهورية الإسلامية الإيرانية على نظرية تصدير الثورة، والسيطرة على المنطقة العربية، وخلال العقود الأربعة الماضية خصصت طهران مليارات الدولارات من قوت الشعب الإيراني لبناء وتدريب وتأهيل أذرعها الإرهابية في المنطقة؛ حزب الله في لبنان والحوثيون في اليمن والحشد الشعبي في العراق مستغلة ضعف وهشاشة الدول لنفث سمومها.
هذه الميليشيات تمارس العنف المسلح وتعلن ولا تبطن عمالتها للنظام الإيراني وتعمل بتوجيهات من فيلق القدس في الحرس الثوري كقوات مرتزقة لتنفيذ أجندات إيران التوسعية في المنطقة. ويقوم النظام الإيراني بتسليح هذه التشكيلات الإرهابية بأسلحة دمار شامل وغير تقليدية. وعلى الرغم من تورطها الفاضح، تصر طهران على التهرب من مسؤولياتها وتدَّعي احترامها للقانون الدولي وجميع المواثيق الدولية وهي تمارس سلوك الدولة المارقة أمام صمت مخزٍ يصل حد التواطؤ من المجتمع الدولي.
هذه التنظيمات يعرفها القانون الدولي بـ"جهات فاعلة عنيفة غير حكومية" ويحظرها باعتبارها تؤسس لاتجاهات تقوِّض الشخصية السيادية للدولة التي تشكل أساساً للنظام الدولي. ومن هنا فهي أحد أبرز إشكاليات العلاقة بين الدول العربية وإيران.
وتحدد المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة الحق الطبيعي للدول في الدفاع الفردي والجماعي عن النفس حيال وقوع هجوم مسلح من مثل هذه التنظيمات، ويتخذ مجلس الأمن الإجراءات اللازمة للحفاظ على السلم والأمن، ومن هنا فإن مجلس الأمن لا يقوم بواجباته حيال الدولة الإيرانية المارقة، وقيامها بشكل متعمد بزعزعة الأمن والاستقرار الإقليمي، مثل قيام الحوثيين خلال السنوات الماضية بقصف مختلف المدن والمحافظات اليمنية والأراضي السعودية بصواريخ ومسيرات من صنع طهران، وقيادة حزب الله؛ وكيل إيران الرئيس في المنطقة العربية، لعمليات الميليشيات الحوثية في اليمن، ولا عجب أن يفاخر قائده حسن نصر الله بالقول "إن جهاد حزبه في اليمن هو أشرف عمل قام به في حياته يتجاوز حتى حربه ضد إسرائيل"، لماذا لأنه يستهدف اليمن والسعودية تنفيذاً لتوجيهات طهران.
وفي لبنان فحزب الله هو من يدير الدولة اللبنانية لصالح إيران وليس كما يقال إنه دولة داخل الدولة اللبنانية، ولا يخفي قادة الحرس الثوري الإيراني دور مرتزقتهم في لبنان، ففي رد على التهديدات الإسرائيلية لتدمير القدرات النووية الإيرانية أكد أحد أبرز قيادات الحرس الثوري أنه في حال تعرض إيران لاعتداء من إسرائيل فإنه يقع على حزب الله مسؤولية تدمير إسرائيل. فماذا بقي للسيادة اللبنانية إلا علم حزب الله الأصفر فيما تبخر موضوع النأي بالنفس الذي لطالما كرره الساسة اللبنانيون ضمن محاولات الدولة اللبنانية للظهور بمظهر الحياد.
ومن المؤسف أن يخرج وزير خارجية النظام الإيراني حسين عبد اللهيان الأسبوع الماضي ليؤكد رغبة طهران في الحوار مع جيرانها، وتبني الحلول السياسية لحل المشاكل الثنائية والإقليمية مع أمله في أن تتوافر الأرضية اللازمة لإنهاء الأزمة في اليمن، وهو خطاب مكرر لنظام لا يحترم سيادة دول الإقليم ويمارس الابتزاز عبر أذرعه الإرهابية، ويصر على رؤية المنطقة العربية كمجال نفوذ استراتيجي له.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويرى مرشد الثورة الإيرانية خامنئي أن تدخل إيران في المنطقة يحقق الأمن والاستقرار وهو ضرورة حتمية ومستمرة وخيار استراتيجي للثورة الإيرانية. وتصر طهران على أن الخطأ في دول المنطقة لعدم امتلاكها لسياسة واقعية مستقلة عن الولايات المتحدة، وإن مصلحتها تكمن في الدخول في شراكة مع إيران القوية التي يمكن أن تتولى حماية الأمن الإقليمي، وإن الولايات المتحدة هي السبب الرئيس لغياب الأمن في المنطقة.
إن الصورة الكاريكاتورية التي يصور فيها النظام الإيراني قدراته تعكس حال انفصام مرضي، فطهران في واقع الحال ليست دولة عظمى، وتقع بين الدول في أسفل قائمة التنمية البشرية على رغم الثروات النفطية الهائلة، كما لا تمتلك اليوم مقومات الدولة الكبرى لسيادة وهم التفوق والسمو لدى قادتها، وحينما تعود إلى رشدها وتنتقل إلى الواقعية السياسية وتغادر فكر تصدير الثورة وبناء التنظيمات الإرهابية الذي كان ولا يزال وبالاً على إيران وأفقر شعبها، وتعمل على صياغة علاقات استراتيجية مع دول المنطقة مبنية على احترام السيادة والمصالح التجارية والاقتصادية المشتركة، ستجد أبواب جميع دول الإقليم مشرعة للترحيب بها والأخذ بيدها للخروج من مستنقعات الأيديولوجية المدمرة.
أما الموقف الأميركي من الشراكة الاستراتيجية مع دول المنطقة فهو ملتبس من شتى الأوجه، فبعد التصريحات الأولى التي أطلقتها الإدارة الأميركية حول الضغط على إيران لوقف سياساتها المزعزعة للأمن والاستقرار في المنطقة وأهمية وقف برنامجها للصواريخ الباليستية، تراجع الموقف الأميركي خطوات للحديث حول عودة إيران للامتثال لبنود خطة العمل الشاملة المشتركة، وهي تعلم أنه منذ توقف العمل بالاتفاق في 2018 عملت إيران على التسريع في برنامجها النووي ووصلت اليوم إلى تخصيب اليورانيوم بنسبة 60 في المئة بفارق كبير عن سقف التخصيب المذكور في الاتفاق وهو 3.67 في المئة، وهناك قناعة راسخة لدى حكومة إبراهيم رئيسي بأن التقدم في المجال النووي يمنح إيران أفضلية تفاوضية. ويعرّف المفاوض الأميركي أن عودة إيران للالتزام بالاتفاق قد تجاوزها الوقت، كما أنها ترفض التفاوض مطلقاً حول الصواريخ الباليستية التي تشكل بنداً متصلاً بالاتفاق النووي.
ثمة خطر حقيقي يلوح بالمشهد العام في المنطقة يترتب عن الإحساس المتزايد والمغالى فيه في إيران بأن الولايات المتحدة لن تستخدم القوة ضدها، حيث خلص تحليل نشرته مجلة "الشؤون الخارجية" الأسبوع الماضي، بعنوان "خط أحمر لإيران؟" بأن أميركا لا تريد الحرب ولكنها لا تريد إيران نووية. وهذه معضلة حقيقية.
ويبقى الرهان على "الأفعال" بخاصة مع تصريح وزير الدفاع الأميركي في حوار المنامة أخيراً، عن استعداد واشنطن للجوء إلى الخيار العسكري في المنطقة وإنها ليست مترددة في استخدام القوة حيال سياسات إيران المزعزعة للأمن والاستقرار. وفي السياق نفسه فإن المحزن في المشهد العام حول مفاوضات فيينا، ورسائل عرض عضلات طهران عبر مناورات الصواريخ، هو تربص أوروبا التي تلعب دور الوسيط وهي تراقب ما ستقدم عليه واشنطن فيما تتطور الصواريخ الباليستية الإيرانية لتطال عواصمها الرئيسة. "الأفعال" هي عنوان المرحلة وعلى الإدارة الأميركية أن تبعث من فورها الرسائل الحازمة لطهران، وما لم يحدث فإن هوس الانتصار في العقلية الإيرانية سيبلغ مداه.