بات لدى الشاعر العماني سيف الرحبي أعمال نثرية تقارب أعماله الشعرية، تختلف عنها اختلاف مفهوم الصنيع الشعري عن "الصناعة" النثرية وتتقاطع معها في الحين ذاته، حتى ليبدو أن الشعر يلقى صداه في صميم النصوص النثرية التي لا تتخلى عن خصائص النثر في مفهومه "الأنواعي" الشامل. ولم تخلُ كتبه النثرية التي دأب على إصدارها، من قصائد صرفة، يُطعّم بها نصوصه التي هي بمعظمها افتتياحات كتبها في مجلة "نزوى" التي يرأس تحريرها منذ سنوات، لكنها افتتاحيات غير صحافية بتاتاً، وهنا تكمن ميزتها، وقد شاءها صاحب "رجل من الربع الخالي"، ضرباً من التدوين المفتوح على شتى أصناف الكتابة: أدب رحلة، تأملات، تداعيات، يوميات، شذرات، سرديات، مشهديات، آراء، قراءات في كتب وأفلام ووجوه وأماكن... وقد وُفق في تسمية أحد هذه النصوص "شظايا بشر وأمكنة"، فالنصوص تحمل فكرة "التشظي" التي تجمع هنا عبر فضائها الداخلي، أكثر مما تبعثر، فهي شظايا بشرية ومكانية وزمانية.
أما الكتب النثرية التي أصدرها الرحبي والتي توازت مع صدور دواوينه فبلغت الخمسة أو الستة، وهذا "مخزون" أدبي يستحق أن يُستعاد ويُقرأ على حدة، فهو يشكل تجربة بذاتها، فتحت أمام الرحبي الشاعر أفقاً تعبيرياً واسعاً، مارس فيه الكتابة بحرية تامة، مخترقاً شروط الكتابة نفسها ومعاييرها. إنها الحرية في التعبير، الحرية في قراءة العالم وظواهره، الحرية في المقاربة الأسلوبية واللغوية، وفي اختبار قدرات الكتابة بعفوية ووعي وذائقة خاصة جداً. وقد حافظ الرحبي على افتتاحيات "نزوى" خلال جمعها في كتب، كما كتبها ونشرها، من دون أن يُعمل قلمه فيها أو يشذبها أو يُجري تبديلاً أو تغييراً في متنها وسياقها، مما جعلها تحافظ على لحظويتها أو "مناسبيتها" في أحيان، وعلى مداها الحي، لا سيما في ما تحمل من انطباعات سفر أو ترحّل. والشاعر يُعد من الرحالة الجدد، رحالة الحداثة أو "الكتّاب المسافرين" بحسب العبارة التي تحملها إحدى التظاهرات الأدبية في فرنسا. لكن صاحب "نشيد الأعمى" لم يكتب أدب رحلة في المفهوم الناجز لهذا النوع الأدبي الذي يكاد يفقد اليوم في عصر الصورة والأفلام التوثيقية، مقداراً من سحره القديم، وأضحى يحتاج إلى مقاربة جديدة وجريئة، تقلب معادلاته الراسخة وتحرّره من نزعته الوصفية والتقريرية و"الخارجية"، ومن بطئه السردي وإيقاعه المنبسط الذي ينتمي في أحيان كثيرة إلى الأدب الجغرافي، البعيد عن مفهوم الكتابة الإبداعية. وفي هذا النوع الذي ساد طوال فترات من تاريخ الأدب العالمي والعربي كان الكثير من الأدباء المترحلين رحالة أكثر منهم أدباء. وبدا واضحاً أن مشروع "ارتياد الآفاق" الذي أسسه الشاعر الإماراتي محمد السويدي ويشرف عليه الشاعر السوري نوري الجراح سعى قبل فترة إلى تحديث أدب الرحلة فاتحاً المجال أمام أقلام عربية جديدة لتشارك في كتابة أدب رحلة حديث، علاوة على تقديمه نماذج من أدب الرحلة الغربي الجديد.
نصوص مفتوحة
لم يقع الرحبي في شرك النوع الرائج من أدب الرحلات بل كتب ما يقارب هذا الأدب ويفترق عنه، ما يحمل بعض ملامحه ويتمرّد عليه، ساعياً إلى تأليف نصوص "مفتوحة" ليس في المفهوم الذي أرساه أمبرتو إيكو حول جدلية الكاتب - القارئ، بل في مفهوم انفتاح الأنواع بعضها على بعض، وانصهارها بعضها ببعض لتؤلف وحدة مناخية وأسلوبية و"موضوعاتية". لكنّ الرحبي، الرحالة والمسفار، كان يتحاشى دوماً في ما كتب ويكتب، اقتصار مهمته على الوصف أو على رسم ما يشبه مسار (إيتينيرير) الترحال، بل هو يكتب كما يحسن له أن يكتب وكما يفرض عليه مزاجه، وهو مزاج شاعر يعيش في قلب العالم وفي صميم مآسيه المعاصرة والتحولات التي يشهدها. في هذا السياق لا تطغى النظرة السوسيولوجية على نصوصه، وهي التي تهدد الأدب غالباً وتفرض وطأتها عليه وتقيّد فضاءه التخييلي. ومعروف أن المتخيل هو في أساس الكتابة أياً تكن هويتها أو نزعتها.
لعل آخر ما أصدر سيف الرحبي في سياق نصوصه النثرية كتاب "صالة استقبال الضواري" (دار العين – القاهرة)، ويمثل هذا الكتاب أحد فصول التجربة النثرية الغنية التي يخوضها الشاعر، وفيه تلتقي الأنواع التي تمت الإشارة إليها، وتتآلف وتتناغم داخل إطار واحد وجو واحد، ويجمعها هم الإبداع، سواء كان نثراً صرفاً يتجلّى فيه أدب الرحلة والسرد والوصف والتأمل، أم شعراً صرفاً يتخلّل المقاطع النثرية موسّعاً آفاقها الوجدانية والماورائية. يكتب الرحبي على سبيل المثل شذرات كثيرة مستقلة عن المقاطع الأخرى ومتصلة بها، وشذراته تبلغ شأواً شعرياً وكأنها سليلة اللحظة التأملية البارقة: "انزع ظلك أيها الغريب من براثن الليل... الآفاق تطوي سيرة الأحياء كما تطوي الأرض الأموات والظلال". أو: "في لحظة احتدام المشاعر أحياناً، تتوحّد دموع الكارثة مع دموع فرح غامض، في انبلاج ذلك الجدول الجريح من أخاديد الأعماق البعيدة". ما أكثر الشذرات الجميلة في كتاب "صالة استقبال الضواري"، بعضها يحافظ على ألق لحظته وبعضها يميل إلى أن يكون شعراً أو مقطعاً شعرياً: "في البلاد الخصيبة / حين يشتد بك هاجس الوجود/ مترنحاً في الأرض العصية التي لن يعود منها أحد/ يمكنك أن ترفع رأسك إلى المساء/ ترى السحب تلعب بأشكالها العبثية ...". المقاطع الشعرية ليست قليلة البتة في "افتتاحيات" الرحبي، لكن معظمها بلا عناوين، نظراً إلى اندراجها في سياق المقاطع الأخرى على اختلافها، مع أن بعضاً منها يمكنه أن يكون قصيدة منفصلة مثل القصيدة التي اختتم بها الكتاب وعنوانها "في ضوء صباح آسيوي".
خريطة أمكنة وذكريات
ومثلما ترتسم في النصوص المتلاحقة "خريطة" أمكنة وذكريات ومشهديات (بريطانيا، تايلاند، دمشق الثمانينيات، بيروت الاجتياح الإسرائيلي، الكويت، المغرب، فرنسا، لندن - مجلة "الأزمنة العربية" ومجلة "أوراق") ترتسم "خريطة" أخرى يمكن تسميتها "خريطة" الذائقة الأدبية والقراءات والأفلام والشعراء والروائيين والأصدقاء، وهي تنم عن سعة ثقافة الرحبي وتعدّد حقولها: إليوت، رامبو، باوند، أبو العلاء المعري، بورخيس، كونديرا، ألبير كامو، دوستويفسكي، إتيل عدنان، أرّي دو لوكا، كوبريك، برغمان، فلليني، برتولوتشي... أما المشهديات فتحفل بها النصوص وهي أقرب إلى لوحات كبيرة أو صغيرة، انطباعية وتعبيرية تغوص في المنظر الطبيعي غوصها في النفس الإنسانية: "الطائر يرفّ على وجه الغمر، أكبر حجماً من الغراب. إنه الغداف ـيقرأ سورة الطوفان القادم".
تُقرأ نصوص سيف الرحبي بمتعة، هي متعة الترحال نفسها، الترحال في الأمكنة والمدن والصحارى والغابات، والترحال في معارج النفس الإنسانية والذكريات والتأملات. فالرحلة التي هي ترحال في الزمن والمكان، هي أيضاً ترحال في أعماق الإنسان، في وجدانه كما في لاوعيه، في أرض مشاعره كما في سماء أحلامه.