تواصل السلطات الأمنية في شمال دارفور حملة أمنية واسعة تحت مظلة حظر التجول الليلي بالمدينة لتعقب مجموعات إجرامية أعقاب السطو المسلح على مخازن الغذاء العالمي ووزارة التربية وديوان الزكاة بالولاية، أسفرت عن ضبط عدد من الشاحنات والمخزونات المسروقة، وفتح 80 بلاغاً في مواجهة المتورطين، بينهم مواطنون، كما ضبطت بعضاً من المواد المنهوبة داخل شاحنات وأخرى داخل مخازن بالمدينة، منها زيوت ودقيق ومواد أخرى، كما أعلنت وزارة الخارجية السودانية القبض على 15 من المتهمين في أعمال النهب، معلنة فتح تحقيق بشأن الحادثة التي وصفتها بالشائنة والمؤسفة.
الهدوء والتعقب
وقال حافظ بخيت، الأمين العام لحكومة الولاية، "إن مدينة الفاشر استعادت الهدوء منذ مساء الجمعة وسط طواف ليلي مستمر لقوات تأمين المدينة"، بعد نشر تعزيزات أمنية إضافية على كل المواقع التي تعرضت إلى التعدي، فضلاً عن المرافق المهمة بعاصمة الولاية، بالاستفادة من طلائع القوات المشتركة التي وصلت إلى الإقليم، في انتظار تكوين القوات المشتركة لحفظ الأمن والسلام.
وكشف بخيت، عن أن "لجنة الأمن بالولاية اتخذت كل الترتيبات الخاصة بتعقب المجرمين، وتعمل على تصفية كل الجيوب الإجرامية التي دخلت المدينة"، ولم يؤكد أو ينفِ، ما إذا كانت العصابة المسلحة المعروفة التي يقودها عيسى الشهير بالمسيح ضالعة في الهجوم أم لا؟
وشدد الأمين العام للحكومة، على "أهمية حصر وتصنيف المجموعات المتعددة التي تنتشر بالمدينة كأطراف موقعة على اتفاقية السلام بخلاف الحركات الأساسية المعروفة، ما يؤدي إلى تنظيم وضبط الوجود العسكري المنظم لتلك الحركات ومنسوبيها، حتى لا يختلط بهم المتفلتون ويتستروا تحت أزياء عسكرية متباينة"، مشيراً إلى أن "الإعلان الفجائي لإخلاء قوات اليوناميد هو الذي أدى إلى تدافع عدة خلايا إجرامية إلى الفاشر".
مسلحون مجهولون
من جانبه، أكد محمداي عبد الله آدم، المدير التنفيذي بمحلية الفاشر، أن "مخازن برنامج الأمم المتحدة للغذاء تعرضت لعمليات نهب مخطط بواسطة مسلحين بأسلحة خفيفة وثقيلة على عربات دفع رباعي وأخرى تجارية فيما اشتعلت النيران بالمخازن". وأضاف أن "المسلحين اشتبكوا مع قوة الحراسة المكونة من ثلاث عربات، في ظل تفوق عددي واضح"، مشيراً إلى أنه "بعد عملية النهب واشتعال النيران تدافعت أعداد من المواطنين أيضاً وشاركوا في نهب ما تبقى".
وأوضح المدير التنفيذي أنه "لم يتم التأكد من هوية المسلحين أو الزي الذي كانت ترتديه المجموعة المهاجمة، وتعمل الجهات الأمنية على التحري والتأكد من هويتها على وجه التحديد". وأشار إلى أن "إعلان حظر التجول بهدف تمكين الأجهزة الأمنية من السيطرة على الأوضاع بالمدينة في ظل تواتر معلومات حول عمليات تخريبية مزمعة، ربما تطال سوق المدينة ومناطق أخرى".
وذكر شهود عيان أن "المدينة عاشت لحظات من الفوضى العارمة بهجوم على مخازن برنامج الأمم المتحدة للغذاء العالمي بمنطقة البورصة القديمة شرق المدينة بعد أيام قليلة من نهب مقر بعثة اليوناميد غرب المدينة، استخدم فيه المهاجمون أسلحة ثقيلة وبصورة كثيفة، وهي المخازن التي تمول معسكرات النازحين وتحتوي على معينات ومعدات طبية وإذاعة الأمم المتحدة التي تعرضت أيضاً للسرقة والنهب المسلح".
بصمات المسيح
ويعتقد شهود العيان أن "الهجوم الأخير على مخازن برنامج الغذاء العالمي يحمل بصمات عصابة عيسى المسيح المسلحة الخطرة، التي اعتادت في فترات سابقة على تنفيذ هجمات مماثلة داخل أسواق الفاشر". ويروون أن "عمليات نهب مخازن برنامج الغذاء العالمي بدأت بالفعل من قبل ميليشيات مسلحة وسط وابل من الذخيرة، غير أن النهب امتد إلى مخازن ديوان الزكاة، ومخازن وزارة التربية والتعليم وسط أجواء من الفوضى وأصوات الذخيرة الحية والأعيرة النارية الكثيفة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأعادت الحادثة إلى الأذهان نظيرتها التي شهدتها مدينة الفاشر قبل نحو أربع سنوات، عندما هاجمت عصابة مسلحة تتبع لمسلح يدعى عيسى محمد إبراهيم، المعروف على نطاق واسع بالولاية بلقب "عيسى المسيح" على سوق بورصة الفاشر، أدت إلى مقتل ضابط بالجيش وإصابة ثلاثة جنود آخرين بجروح خلال الاشتباكات النارية مع العصابة.
ويشير عدد من المواطنين بأصابع الاتهام في أحداث النهب المسلح التي شهدتها الفاشر أخيراً إلى وقوف الرجل نفسه خلف أحداث نهب برنامج الغذاء العالمي ويوناميد وأخرى. وشاع اسم "المسيح" بين مواطني شمال دارفور والفاشر على وجه الخصوص، حين نفذ عدة عمليات نهب وسرقة مسلحة روعت المدينة وأفقدتها الأمن والسلام الاجتماعي، وظل الرجل بتشكيله العصابي، الذي غالباً ما يرتدي رجاله زياً شبه نظامي، يمارس الترهيب والنهب والسرقة بقوة السلاح في أحياء المدينة وطرقاتها المختلفة.
في بداياته كان المسيح لا يظهر شخصياً إلا نادراً معتمراً (الكدمول) اللثام الذي لا يظهر سوى العينين فقط، يجوب ليلاً طرقات وحواري مدينة الفاشر على ظهر دراجة بخارية منطلقاً من مقره في منطقة سوق البورصة بالمدينة، يجيد التخفي ولا يخشى مواجهة السلطات، وكثيراً ما يهرب بمعاونة رجاله إلى غرب الولاية بعيداً عن المدينة إلى جهة غير معلومة.
وراجت أكثر من مرة أنباء عن مقتل المسيح، لكنه سرعان ما يظهر من جديد في شوارع المدينة، وبلغت به الجرأة في إحدى المرات اعتراضه مع عدد من رجاله موكب أحد الولاة السابقين بالولاية أثناء زيارة ميدانية، ما أدى إلى تبادل لإطلاق النار ووقوع قتلى وجرحى، لكن نجا المسيح مثل كل مرة من العقاب، وهكذا كلما اختفى فترة من الزمن أو أشيع أنه أصيب أو قتل يظهر بعد ذلك في حادثة جديدة.
غضب وحرمان
على الصعيد ذاته، عبر المدير التنفيذي لبرنامج الغذاء العالمي ديفيد بيسلي، عن غضب وإدانة البرنامج هذه الهجمات بأشد العبارات للنهب المستمر للمساعدات وتدمير أصوله، مما اضطره إلى تعليق عمليات البرنامج في شمال دارفور على نحو فوري.
وأوضح بيسلي أن "هذه السرقات حرمت ما يقرب من مليوني شخص من الدعم الغذائي الذي هم في أمسِّ الحاجة إليه. ما يمثل انتكاسة هائلة لعمليات البرنامج في جميع أنحاء البلاد ويعرض موظفيه إلى الخطر ويهدد قدرته على تلبية احتياجات الأسر الأكثر ضعفاً". ودعا البرنامج حكومة السودان إلى استعادة المخزونات المنهوبة، وتوفير الأمن الكافي على وجه السرعة، مع تقديم ضمانات حتى يتمكن البرنامج من استئناف عملياته بأمان في شمال دارفور.
وكان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أدان استمرار عمليات النهب والاعتداءات على منشآت الأمم المتحدة ومعداتها وإمداداتها الممنوحة للسلطات السودانية بغرض الاستخدام المدني بمدينة الفاشر في ولاية شمال دارفور. وأعرب، عن الأسف لفقدان المساعدات وغيرها من المعدات والإمدادات الموجهة لصالح مجتمعات دارفور.
ودعا غوتيريش، حكومة السودان إلى "استعادة النظام، وكفالة استخدام ممتلكات وأصول بعثة يوناميد للأغراض المدنية حصراً، بما يتماشى مع الاتفاق الإطاري الموقع بين الحكومة السودانية والأمم المتحدة في مارس (آذار) من 2021. وطالب السلطات السودانية بأهمية تيسير بيئة عمل ومرور آمنة لعمليات الأمم المتحدة المتبقية في الفاشر.
من جانبه أعرب فولكر بيرتس، رئيس بعثة يونيتامس، عن خيبة أمل إزاء نهب قاعدة اليوناميد السابقة في الفاشر، وقال "إن المعدات المسروقة كانت مخصصة للسلطات في إقليم دارفور لاستخدامها في حماية المدنيين". وشدد على ضرورة أن تكون حماية المدنيين أولوية للدولة وللتنظيمات المسلحة أيضاً حتى التنظيمات التي تورطت في النهب.
ودانت الخارجية السودانية بأشد العبارات عمليات النهب والاعتداء الذي تعرضت له مخازن برنامج الغذاء العالمي، واتهمت من وصفتهم بالجماعات الخارجة على القانون بتنفيذ الهجوم.
في الأثناء، عبرت قيادات سياسية سودانية عن مخاوفها من أن تنتقل مظاهر الانفلات التي شهدتها عاصمة شمال دارفور إلى بقية أنحاء البلاد، إذ لم تمضِ سوى أيام قليلة على أحداث نهب مقر بعثة اليوناميد أيضاً بواسطة مجموعات مسلحة.
ووصف إبراهيم الأمين، نائب رئيس حزب الأمة القومي، مظاهر الفوضى التي شهدتها مدينة الفاشر، بأنها "مؤشر خطير إلى انفلات نخشاه على كل السودان".
وأدت الهجمات على مستودعات برنامج الغذاء الثلاثة، إلى استيلاء المهاجمين على أكثر من خمسة آلاف طن متري من الغذاء، مع تفكيك هياكل مباني المخازن، كما تسببت في إعلان برنامج الأغذية العالمي تعليق عملياته في كل أنحاء ولاية شمال دارفور بالسودان، ما سيؤثر في ما يقرب من مليوني شخص بالمنطقة خلال 2022.
نزوح قديم وجديد
وتشير منظمات إنسانية إلى أنه تم رصد أكثر من 200 حادثة عنف في مناطق الإقليم المختلفة خلال 2021، ما أدى إلى مزيد من عمليات النزوح الجديدة، بينما تقول الوكالات الأممية إن "الوضع يزداد سوءاً، وسيحتاج نحو 6.2 مليون شخص يشكلون نصف سكان الإقليم إلى مساعدات إنسانية خلال 2022".
ويعيش معظم النازحين المقدر عددهم بنحو ثلاثة ملايين في 70 معسكراً للنازحين واللاجئين داخل السودان، معظمها في ولايات دارفور الخمس نتيجة النزاع المسلح الطويل في الإقليم منذ عام 2003، حسب تقارير وإحصاءات 2018، منها 20 معسكراً في ولاية وسط دارفور، أبرزها معسكرات السلام، والحميدية، والحصاحيصا، وأبوذر ونيرتتي (شمال وجنوب)، تضم نحو 277 ألفاً و369 نازحاً، منهم 94535 امرأة، و44153 رجلاً، بينما يمثل الأطفال نحو 138 ألفاً و681. كما توجد ستة معسكرات في شمال دارفور، أشهرها معسكرات أوشوك، والسلام، وزمزم، وكساب، تضم 248 ألفاً و542 نازحاً، منهم 116835 امرأة و54671 من الأطفال، و77031 رجلاً، وتضم ولاية شرق دارفور ستة معسكرات، أكبرها معسكرات، النيم، والفردوس، وشعيرية، وياسين، وفيها 92 ألفاً و435 نازحاً، أما ولاية غرب دارفور، فتضم العدد الأكبر 37 معسكراً، أبرزها معسكرات كريدنق، وأردمتا، ومستري، وهبيلا، والقردود، وفوربرنقا، وكلبس، وسربا.