قد تكون تجربة المخرج والممثل والكاتب الكويتي سليمان البسام واحدة من أكثر التجارب العربية اختلافاً عن السائد والمألوف، وبحثاً عن سياقات مسرحية جديدة ، وكذلك أكثرها تأثراً بالمسرح الغربي الحديث وتواصلاً معه، وهي في كل ذلك لا تفقد هويتها العربية ومنحاها الإنساني من حيث مضامينها، فهو يتبنى القضايا العربية والشرق أوسطية والإنسانية عموماً في العديد من العروض التي قدمها.
سليمان البسام مؤسس فرقة "ساباب" التي تتخذ من الكويت مقراً لها وتعمل على نطاق عربي ودولي ، يجعل من المسرح وسيلة للخوض في مسائل تتعلق بالهوية والتاريخ واللغة والثقافة، وهو في معظم أعماله يفصح عن انتمائه العربي، وينحاز إلى الإنساني بشكل عام، حتى إن فرقته تضم ممثلين من جنسيات مختلفة، عربية وأوروبية وأفريقية.
هذه الفرقة حلت على القاهرة في مهرجانها التجريبي الـ 28 بعرض "آي ميديا"، الذي شارك ضمن المسابقة الرسمية للمهرجان.
تمتع العرض بمرونة توافق مقتضى الحال، إذ إن جائحة كورنا جعلت جميع المشاركين يقتصدون في أدواتهم المسرحية للحد الأدنى، ويركزون على التكثيف والتجريب. وبحسب المخرج سليمان البسام كان النموذج الأول للعرض في هيئة أوبرالية ضخمة، لكنه اضطر إلى تقليل عدد الممثلين والأدوات بسبب الجائحة، فهل وصلت رسالة العرض؟ وهل استوفى شروط المسرح في ظل هذا التكثيف الذي أحدثه؟
مسرح الكلمة
انتمى العرض إلى مسرح الكلمة، وهو من العروض القليلة التي شاركت في المهرجان معتمدة على الكلمة لا على الدراما الحركية، وربما تمثلت تجريبيته في معالجته لنص "يوربيدس" الذي تم تقديمه للمرة الأولى بحسب المصادر عام 431 قبل الميلاد، وكذلك في المزج بين التمثيل والحكي والغناء، بين الخطاب المباشرالواضح والخشن، وبين التلميح الناعم والمبثوث في ثنايا الكلمات أو الإيماءات، فهو هنا لا يستدعي شخصية ميديا الأسطورية ليعيد تقديمها كما كانت، بل يستدعي تركيبتها النفسية وأزماتها التي حلت بها وأفضت إلى نزعتها الانتقامية. ميديا في العرض ابنة القرن الـ 21، ابنة العصر الرقمي الذي تتسلط فيه التكنولوجيا على حياة البشر، هؤلاء المراقبون أينما حلوا.
ميديا أيضاً يمكنها أن تكون (media) أي وسائل الإعلام، بحيث نرى "ميديا" سيدة عربية متعلمة ومتحدثة لبقة، مسيسة، تجري معها وسائل الإعلام أحاديث صحافية وتلفزيونية، وتستعمل منصات التواصل الاجتماعي للتعبير عن آرائها ومواقفها. تختلف مع العالم من حولها وترفض ادعاءاته المتعلقة بحقوق الإنسان، وفي الوقت نفسه هي إنسان ينتمي إلى حقبة ما بعد الاستعمار وتتصارع في عنف مع العالم من حولها، بينما "كورنثيا" ترمز إلى مدينة أوروبية ساحلية تعج بالمهاجرين الآتين على قواربهم، مما يجعل المدينة تعاني كثيراً من رهاب الأجانب تحت زعامة قائدها "كريون"، صاحب الأجندة السياسية الشعبوية. أما "جيسون" الذي هجر "ميديا" ليتزوج ابنة الملك "كريون" الثرية فهو هنا مستثمر غربي في التكنولوجيا.
أقفاص حديدية
العرض الذي تم تقديمه باللغتين العربية والإنجليزية فيه إدانة واضحة للغرب الذي ينهب خيرات الشعوب ويعمل على تدمير البلدان، مما ينتج هجرة شعوب هذه البلدان إلى الدول الغربية ظناً أنها ملاذ آمن، في حين أن هذه الدول تترك هؤلاء المهاجرين عالقين في أقفاص حديدية على شواطئها، أو تدعهم للبحر الذي جاءوا عبره، ولا تبدي أي حسن نية تجاههم مع أنها سبب نزوحهم وتركهم لأوطانهم.
سليمان البسام الذي لعب كل الشخصيات الذكورية المحيطة بـ "ميديا" ( جيسون، كريون، المحاور التليفزيوني، المحقق)، يخبرنا منذ البداية بأننا بصدد لعبة مسرحية.
يبدأ العرض بحديث عبر الميكروفون عن أسطورة "ميديا" التي استوحاها الكاتب يوربيدس في نصه المسرحي الشهير، وطوال العرض هناك كسر للإيهام، فهو يوجه العازفين اللذين احتلا منصة في العمق في مستوى أعلى قليلاً من المستوى صفر، ويعيد تنظيم الخشبة ووضعية الميكروفونات، ويوجه بعض الملاحظات بوصفه مسيطراً على الفضاء كله، فهو في كل أدواره يمثل شخصية الرجل الأبيض في مواجهة "ميديا" والمهاجرين الذين جاءوا من البلدان العربية والأفريقية.
أما "ميديا" (الممثلة السورية حلا عمران) فهي تلك المرأة العربية التي تعرضت للخيانة والتهجيرمن وطنها، تدافع عن حقوق المهاجرين وتفضح ازدواجية الغرب ومؤامراته، وكيف أن الحاكم الأوروبي الشعبوي "كريون" يدبر العمليات الإرهابية لينسبها إلى المسلمين وغيرهم من المهاجرين.
وهكذا يمضي العرض في مجازاته وإسقاطاته، في حوار ساخن بين الممثلين (البسام وعمران) يتقاطع معه حوار آخر بواسطة الموسيقيين اللذين يستعملان الدف والعود، فضلاً عن بعض القطع المعدنية ومنها السكاكين التي يتم استخدامها في لحظات التوتر. وهناك كذلك موسيقى أو إيقاعات مسجلة تتقاطع مع ذلك كله، إضافة إلى بعض أغاني الراب التي قدمها التونسي نايجل باريت.
تفكيك الأسطورة
نجح سليمان البسام مخرج العرض والدراماتورجيا في تفكيك الأسطورة وإعادة تركيبها لتناسب اللحظة الراهنة ورؤيته التي أراد توصيلها، ولعب أدواره المتعددة برشاقة وذكاء وتنوع، وإن ربطها بخيط واحد باعتبارها تمثل السلطة الذكورية للرجل الأبيض عموماً، فهو كان واعياً إلى أنه يقدم لحناً واحداً بتنويعات مختلفة، لذلك جاءت نقلاته سلسة وفيها من الوضوح ما يخبرنا عن طبيعة الشخصية التي يؤديها. واستخدمت حلا عمران كل مفردات جسدها في التعبير عن شخصية "ميديا" في تحولاتها المختلفة ما بين الحب والكراهية والشعور بالغدر والضياع والرغبة في الانتقام، وامتلكت عمران الخشبة كما يقولون، تمثيلا وحكياً وغناء، بتلوينات صوتية وحركية وإيمائية، صعوداً وهبوطاً وخفوتاً وحدة، ولم يكن غريباً أن تحصل على جائزة أفضل ممثلة في المهرجان، وهي الجائزة نفسها التي حصلت عليها في مهرجان قرطاج قبل قدومها إلى القاهرة مباشرة.
لا ديكورات في هذا العرض، الخشبة عارية تماماً، وعلى الرغم من ذلك فقد جاءت سينوغرافيا العرض التي صممها الفرنسي إيريك سوير واحداً من عناصره اللافتة والفاعلة، بكل ما تضمنته من تشكيلات حركية وصوتية ولونية، وإضاءة من مساقط خلفية ورأسية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يمثل عرض "آي ميديا" بشكل واضح سلطة المنصات الرقمية على عالمنا الواقعي، وقدرتها على الحشد والترويج للثورة في ظل ما تعانيه دول أوروبا من رهاب المهاجرين والإسلاموفوبيا، فإذا كانت "ميديا" الأسطورية قد انتقمت من "جيسون" بقتل أطفالها منه وكذلك بقتل زوجته، فإن "ميديا" الواقعية العصرية في استخدامها المنصات الرقمية لتحشد للثورة، يمكنها أن تخلف عواقب تدميرية تطاول الجميع.
في المشهد الأخير ثمة حبات برتقال منثورة على الخشبة، و"ميديا" تمسك بثمرتين منها تعتصرهما بقوة ليخرج منهما سائل أحمر، وكأننا بصدد محاكاة رمزية لفكرة القتل والانتقام التي تأتي كرد فعل على ما تعرضت له من قهر وخيانة وتدمير للوطن وهجرتها منه.
العرض على الرغم من أجوائه المقبضة وتوتراته وتشظيه وصخبه، رسالة جمالية بالغة الثراء وشديدة الرقة والعنف في آن واحد، وقد نجح صنّاعه في القبض على جوهر الأسطورة وعصرنتها لتناسب هنا والآن، وتمثل صوتاً فاضحاً لازدواجية الغرب وعنصريته من خلال لغته وأدواته، مع عدم إغفال لغة "ميديا" وأدواتها في تقديمها لنفسها كصوت يصرخ ويدين ويحذر بعيداً من التحريض والخطابية.