تساءل مراقبون في بيروت هل أن مجاهرة رئيس "التيار الوطني الحر" النائب جبران باسيل بالاختلاف مع "حزب الله" تنبئ باستعداده للذهاب بعيداً في الافتراق عنه من أجل استمالة الرأي العام المسيحي مجدداً، بعدما خسر جزءاً منه، وعلى الرغم من حاجته إلى أصوات الحزب في دوائر انتخابية عدة؟ وهل هذا التقدير للمدى الذي ذهب إليه "التيار" في هذه المجاهرة بالاختلاف يعود إلى اعتقاده أن الانتخابات النيابية لن تحصل، وبالتالي لن يحتاج الأصوات التي يمكن أن يجيّرها الحزب إلى مرشحي تياره في عدد لا بأس به من الدوائر؟ أم أن انتقاده لبقاء "المقاومة" خارج الدولة ولاستقلالها عنها، وهو انتقاد يثير حساسية "حزب الله"، يعود إلى يأسه من إمكان العودة بقوة إلى البرلمان، وبالتالي تراجع آماله بتحقيق طموحه بالوصول إلى رئاسة الجمهورية على الرغم من نفيه المتواصل لذلك؟
إلى جانب هذه الأسئلة حول سلوك الفريق الرئاسي اللبناني، هناك اعتقاد لدى بعض الأوساط بأنه يواكب احتمالات تحولات إقليمية فيستدرج عروضاً من دول كبرى وعربية للانفتاح عليه، عبر إرسال الإشارات بخلافه مع "حزب الله".
"حزب الله" أُحرج في ظل الحملة الأميركية
وتطرح الأسئلة حول ما وراء حملة باسيل، وقبله تلميحات رئيس الجمهورية ميشال عون إلى "توتير العلاقات مع دول الخليج" وتدخل الحزب من دون أن يسميه، "في شؤون لا تعنينا"، في وقت يسعى الحزب إلى استيعاب التمايز الذي يظهر في تصريحات رموز "التيار الحر" منذ أشهر، إلى أن تناولها باسيل في شكل واضح ما أحرج قيادة "حزب الله". فالأخير سعى إلى التوسط بين عون و"التيار الحر" من جهة وحليفه الثاني رئيس البرلمان نبيه بري من جهة ثانية، بعد أن أبلغ باسيل في ثلاثة اجتماعات عقدها مسؤول الارتباط والتنسيق فيه، وفيق صفا، ألا مجال لفك تحالفه مع بري إذا كان باسيل يخيّره بين التحالف معه والتحالف مع زعيم حركة "أمل".
فقيادة الحزب تنظر إلى الحملة الأميركية ضده بالعقوبات المتواصلة ضد من يتعامل معه وضد خطوط تمويله وتصاعد اتهامه بالتسبب بالمأساة التي يعيشها اللبنانيون، لإضعافه، على أن من ركائزها السعي إلى الفصل بينه وبين رئيس البرلمان، وهذه القناعة لدى قيادة الحزب هي وراء رد التهم الموجهة له، إلى الولايات المتحدة بأنها وراء الكارثة الاقتصادية التي يمر بها اللبنانيون بسبب الحصار الذي تفرضه واشنطن على لبنان، وسعيها إلى تغيير المعادلة السياسية فيه بالتدخل في الانتخابات النيابية المقبلة عبر دعم وتمويل ما يسميه الحزب "مجموعات السفارات" ليحصلوا على مقاعد نيابية على حسابه وحساب حلفائه ولا سيما "التيار الوطني الحر" في الوسط المسيحي. وبذلك يعتقد قادة الحزب أنهم ينقلون السجال مع معارضيه اللبنانيين ومع "التيار الحر" إلى مستوى آخر يتعلق بما يعتبره "مؤامرات الأميركيين وحلفائهم العرب" ضده لتحجيمه وضد البلد.
باسيل يحجز مقعداً في معادلة إقليمية جديدة؟
إلا أن إصرار الأمين العام للحزب حسن نصر الله على تهدئة السجال مع "التيار الحر" بإبداء "الحرص على الحلفاء والأصدقاء"، مع أن المعطيات تفيد بأنه غاضب من مواقف حليفه الأخيرة، لا يحجب، وفق أوساط سياسية معارِضة للفريقين، معطيات بأن هناك حسابات تتعلق بالوضع الإقليمي هي التي تقف وراء انتقادات الفريق الرئاسي حليفَه الشيعي القوي، بالإضافة إلى العوامل المتعلقة بالوضع الداخلي، وحاجته إلى التمايز عن الحزب ولو شكلاً، أمام الرأي العام المسيحي الذي تتصاعد النقمة داخله على تحالفه معه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي رأي هذه الأوساط أن باسيل يرمي من وراء تمايزه عن الحزب إلى حجز مقعد له في المعادلة التي يمكن أن تنشأ نتيجة التسويات التي يمكن أن تنشأ على الصعيدين الدولي والإقليمي، والتي يحتمل أن تطال لبنان وموقع "حزب الله" فيه، باتجاه إضعاف نفوذه وتحديد دوره بدلاً من نفوذه الحالي. وفي رأي أصحاب هذه القراءة، في تفسير التحول في موقف باسيل حيال الحزب، أنه يحتاط لاحتمالات المرحلة المقبلة، سواء إذا انتهت إلى اتفاق في فيينا على النووي الإيراني وعلى ترتيب الأوضاع الإقليمية في شكل يحد من نفوذ الحزب، أو إلى اقتصار نتائج فيينا على التوصل إلى صفقة حول النووي من دون الوضع الإقليمي ولبنان منه، بحيث يمكن أن تتواصل الضغوط على أذرع طهران في المنطقة، خصوصاً الحزب وحلفاءه اللبنانيين، فيتموضع باسيل في موقع مختلف عن تحالفه الوثيق معه لتجنب أن تشمله هذه الضغوط.
الهدف رفع العقوبات
وتلفت هذه الأوساط إلى أن باسيل تقصّد في المؤتمر الصحافي الذي عقده في الثاني من يناير (كانون الثاني) وتناول فيه العلاقة مع الحزب اعتماد أسلوب "ضربة على الحافر وضربة على المسمار"، كما يقول المثل اللبناني الشعبي، فانتقد الحزب وأبقى الباب مفتوحاً لمعالجة الخلاف معه حين اقترح تطوير ورقة التفاهم معه، تحسباً لكل الاحتمالات، لكن الملاحظ أنه أعلن أنه تقدم بمراجعة لدى وزارة الخزانة الأميركية حول العقوبات التي فرضتها عليه في الثامن من نوفمبر (تشرين الثاني) 2020 تحت قانون "ماغنيتسكي" بتهم الفساد والتعاون مع "حزب الله". وقال باسيل، بعدما شرح أنه رفض عرضاً أميركياً لفسخ التفاهم مع الحزب مقابل عدم إدراجه على لائحة العقوبات، "تقدمت بطلب (Petition)، حتى يرفعوا عني العقوبات الظالمة والاتهامات الكاذبة عن فساد مزعوم، وإلا، فليثبتوا لي معلوماتهم ويبرزوا مستنداتهم بحسب قانون أميركي اسمه قانون حرية المعلومات، (Freedom of information Act)"، ويغلب الاعتقاد أن خطوة كهذه تؤشر إلى أن باسيل يجس نبض واشنطن حول استعداداتها لرفع العقوبات عنه التي شملت تجميد أصوله وأصول عائلته، وتحول دون تعامل المصارف معه، إذا واصل خطوات التمايز عن "حزب الله"، في وقت يستبعد متصلون بالجانب الأميركي هذا الاحتمال، نظراً إلى صعوبة فك ارتباطه بالحزب بشكل كامل، وهناك تساؤلات عن سبب عدم تقدم باسيل بتلك المراجعة قبل الآن، مع أنه مضى من الوقت على العقوبات الأميركية ضده 14 شهراً.
التواصل مع الأسد ليتوسط مع "حزب الله"
كما تنبه الأوساط، التي تنظر إلى تمايز عون وباسيل عن الحزب بأنها تأتي في سياق حسابات خارجية، إلى أن في أوساط بعض قياديي "حزب الله" ريبة من أن الفريق الرئاسي يسعى لاستغلال علاقة النظام السوري بإيران من أجل التأثير من قبل دمشق في الحزب كي يراعي مطالبه من الأخير، بعدم التضامن مع بري الخصم اللدود لعون وباسيل في معاركهما مع رئيس البرلمان. ويشير مطلعون على موقف "حزب الله" في هذا المجال، إلى أنه يراقب باهتمام ما يعتبرونه محاولات استقواء عليه من قبل بعض الحلفاء (وليس من قبل باسيل وحده) بالعلاقة مع دمشق والرئيس بشار الأسد، انطلاقاً من انفتاح بعض الدول العربية والخليجية على الأخير والمراهنة على تحولات عربية حيال النظام السوري، ويشير هؤلاء إلى أن باسيل يجري اتصالات تمهد لاحتمال زيارته دمشق قريباً باعتبار أن انفتاحه عليها كفريق مسيحي وازن في لبنان يلاقي استحساناً من جانبها. ويأمل الفريق الرئاسي من وراء هذا الانفتاح أن يتم تحييد الأسد عن تأييد حليفه الآخر رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية عن الترشح لرئاسة الجمهورية في أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، والتأثير في الحزب في هذا الاتجاه، في شكل يمكّن "التيار الحر" من إعادة الزخم لترشيح باسيل للرئاسة الأولى. هذا على الرغم من أن هؤلاء المطلعين على موقف الحزب يعتبرون أن التفكير بمناورات كهذه هي أقرب إلى الرغبات اليائسة لاستحالة استمالة الرئيس السوري نحو توجه يخالف ما يرغب به نصر الله، بسبب عمق العلاقة بين الرجلين.
وتقول الرواية في هذا السياق إن موفدي الفريق الرئاسي إلى العاصمة السورية يواصلون زياراتهم الأسبوعية للتشاور مع المسؤولين فيها، وقد اصطحب الزائر الدائم القيادي في "التيار الحر" والمقرب من الرئيس عون، الوزير السابق بيار رفول، قياديين آخرين في الأسابيع الماضية، لطرح بعض الأفكار على القيادة السورية، وفي اعتقاد هؤلاء أنهم بإغراء دمشق بالعودة إلى لعب دور في الداخل اللبناني، يمكن استمالتها إلى جانب خيارات "التيار الحر".