مشهد مخزٍ آخر توثقه الكاميرا في لبنان، ويصدم الرأي العام؛ إذ أظهرت رجلاً يضرب فتاة بعنف في أحد الشوارع الضيقة، ويسحبها من شعرها بقوة من دون استجابة لصرخاتها". وما زاد الطين بلة، السجال الأخلاقي الدائر حول تقديم البعض التبريرات لصاحب العمل، بذريعة أن العنف جاء لمنعها من الفرار.
هذه الواقعة العنيفة التي تعرضت لها إحدى العاملات الأجنبيات، قد لا تكون الوحيدة، كما أنه لا يمكن اعتبارها "القاعدة في التعامل بين أصحاب العمل والعاملات المنزليات"، ولكنها بالتأكيد تسلط الضوء على طريقة في التعاطي شائعة وموجودة، وتزداد في ظل الأزمة الاقتصادية والأخلاقية.
وطرحت الواقعة التي حدثت في "جورة البلوط" إحدى البلدات الواقعة في جبل لبنان، سلسلة إشكاليات حول جدوى الاستمرار في "استثناء العاملات المنزليات من الخضوع لأحكام قانون العمل اللبناني"، والحاجة إلى الخروج من تحت سطوة نظام الكفالة للعمالة الأجنبية في لبنان. بالتالي ضرورة إطلاق ورشة عمل لإصلاح التشريعات القائمة، وتطويرها لجعلها أكثر مرونة، وتتوافق مع متطلبات العدالة وحقوق الإنسان.
الجهات الحكومية تتحرك لملاحقة الجاني
خلقت واقعة جورة البلوط موجة تعاطف مع العاملة الأجنبية، وتحركت القوى الأمنية لمعالجة الحادثة. وبحسب دائرة العلاقات العامة في المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي فإنه "بعد تداول مقطع فيديو عبر مواقع التواصل الاجتماعي يظهر أحد الأشخاص وهو يعتدي على عاملة أجنبية بمحلة جورة البلوط في 5 يناير (كانون الثاني) 2022، تم الاستماع إلى إفادة المعتدي في فصيلة برمانا وأوقف بناءً على إشارة القضاء المتخصص والعمل جار لاستماع إفادة العاملة الأجنبية لاستكمال التحقيق". فيما أعلن مكتب وزير العمل مصطفى بيرم "فتح تحقيق في المقطع المصوّر الذي يظهر اعتداءً سافراً على إحدى العاملات من جنسية أجنبية".
بعيداً من البيانات، والتبريرات والتأويلات لما جرى، هناك نظام غير سوي في استقدام وتنظيم العمالة الأجنبية. ويأتي الواقع ليفضح بعض الممارسات التي يمكن تصنيفها تحت خانة "العبودية" الحاضرة في وجدان البعض ممن يتبنى الممارسات السادية. لذلك فإن التغيير المجتمعي لا بد أن تتجلى مظاهره في القانون والتشريعات العمالية التي من الضروري أن تعتنق المعايير التي تحترم حقوق العامل الفرد بصفته إنساناً في مختلف المستويات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية والثقافية.
بحسب دراسات أعدتها منظمة "كفى عنف واستغلال" فإن "نظام الكفالة" أحد الأسباب الرئيسة التي تضع عاملات المنازل المهاجرات في خطر التعرض إلى العمل القسري، والاعتداء الجسدي الجنسي، والإتجار بالبشر.
الكفالة شرط للاستقدام والاستمرار في العمل
ينتمي لبنان إلى مجموعة البلدان التي تعتمد "نظام الكفالة" وتضع قيوداً على استقدام العمالة الأجنبية، كما أنه لا تكون إقامة العامل نظامية في حال إنهاء العقد لأي سبب من الأسباب إلا في حال موافقة الكفيل على انتقاله للعمل لدى كفيل آخر.
بحسب التسلسل الزمني، يفترض بداية الاستحصال على إجازة عمل أولية من وزارة العمل، يليها الحصول على تأشيرات دخول من المديرية العامة للأمن العام للدخول بصورة قانونية إلى لبنان. تسمح هذه التأشيرة بالدخول بصورة قانونية إلى البلاد، ومن ثم وجوب الاستحصال على إجازتي إقامة وعمل. وفي مطلق الأحوال، تتم كتابة اسم صاحب العمل على تأشيرة دخول العاملة المنزلية، وعلى إجازتي الإقامة والعمل. ولا بد من الإشارة، إلى الارتباط بين الإجازتين فمن جهة أولى ومن دون الحصول على إجازة عمل سارية المفعول لا يحق لعاملات المنازل المهاجرات دخول لبنان أو الإقامة فيه بهدف العمل. كما أنه لا يحق للمهاجرات العمل في لبنان من دون إجازة إقامة سارية المفعول.
ويضع القانون الذي يرعى شؤون الأجانب الصادر عام 1962 في مادته الـ36 الأجانب الذين لا يتمتعون بإقامة صالحة تحت طائلة التغريم والسجن. في المقابل، لا يمكن للعاملات الأجنبيات فسخ العقود بمعنى الاستقالة أو إنهاء العلاقة التعاقدية مع صاحب العمل والانتقال إلى آخر إلا بعد موافقة صاحب العمل الرسمية، وفق صيغة "التنازل" وهو مستند رسمي يوقعه صاحب العمل لدى كاتب العدل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتشكو العاملات الأجنبيات اشتراط أصحاب العمل عليهن بدفع مبالغ مالية مرتفعة لقاء حصولهن على التنازل. لذلك تلجأ الكثيرات للهروب من منازل مخدوميهم، والدخول إلى السوق السوداء للعمالة، مما يعرضهن للملاحقة القانونية، وإلغاء إجازة إقامتها، أو جعلها رهينة الابتزاز والإتجار بالبشر في ظل علاقات عمل غير قانونية.
وعلى الرغم من التراجع الكبير في أعداد العمالة الأجنبية في البلاد بفعل الأزمة الاقتصادية. تستمر عملية الاستعانة بالعاملات المنزليات الأجنبيات، وما تطرحه هذه الظاهرة من إشكاليات. حيث يؤدي منعهن على غرار العمالة الأجنبية الأخرى، من دخول سوق العمل كعاملات مستقلات، جعل مصيرهن في يد صاحب العمل الذي من المفترض استمرار التبعية له طوال فترة إقامتهن بالبلاد. كما يصاحبها بعض القيود من قبيل عدم منحها أوقات فراغ أو إجازة، وعدم السماح بالخروج من المنزل، والحرمان من وسائل الاتصال الفردية، ومصادرة جواز السفر والأوراق الثبوتية، وحجر الأجور.
مساعدة منظمة العمل الدولية
تنطلق زينة مزهر، ممثلة منظمة العمل الدولية، من أن العاملات المنزليات المهاجرات، يغادرن بلادهن ليجدن أنفسهن ضحايا عنف أو أزمة اقتصادية في بلد المقصد. وتعتقد أنه "حان الوقت في لبنان للاعتراف بأن نظام الكفالة هو عبء على الدولة، والإجراءات التنظيمية المتصلة بهذا النظام تنتهك حقوق العمال، من دون أن تشكل ضمانة فعلية لأصحاب العمل، وترتب على الدولة أعباء مالية لمعالجة الأوضاع الشاذة"، لذلك "لا بد من مقاربة مختلفة لاستقدام وتنظيم العمالة المهاجرة في ظل الأزمة الراهنة".
تنتقد ممثلة منظمة العمل الدولية، نظام الكفالة لأنه "يعطي فائض قوة لأصحاب العمل في علاقتهم مع العمالة المهاجرة، كما أن ضعف آليات ملاحقة ومحاسبة أصحاب العمل منتهكي الحقوق، يزيد هشاشة وضع العمال ويشوّه صورة لبنان".
وتشير إلى عمل المنظمة مع وزارة العمل انطلاقاً من اتفاقيات العمل الدولية، التي يلتزم بها لبنان كالاتفاقية الدولية رقم 29 حول العمل الجبري التي لها مفاعيل مباشرة لحماية العمالة المهاجرة. وخلال السنوات الأخيرة، انصب العمل على تطوير خطة عمل متكاملة من أجل "تفكيك نظام الكفالة"، وقدمت منظمة العمل الدولية الدعم اللوجستي المباشر إلى وزارة العمل من أجل "صياغة عقد عمل موحد لعاملات المنازل المهاجرات" بما يتوافق مع قانون العمل والمعايير الدولية وتحديداً اتفاقية العمل الدولية رقم 189 العمل اللائق للعاملات المنزليات، وتأسف لطعن مكاتب الاستقدام بهذا العقد ووقف تنفيذه من خلال مجلس شورى الدولة، وتبرير الدعوى كان أن "العقد يضر بمصالح مكاتب الاستقدام مباشرة".
كما تقدمت المنظمة بمقترحات عملية لمراقبة عمل هذه المكاتب، انطلاقاً من مبادئ التوظيف العادل إلا أنه "لم يتم إحراز أي تطور ملموس". وتلفت مزهر إلى أن "مكاتب الاستقدام يمكنها أن تلعب دوراً إيجابياً في استقدام وتنظيم العمالة المهاجرة إذا كان دورها مبنياً على الكفاءة وإنصاف أسواق العمل، وربطها باليد العاملة المؤهلة والمناسبة من دون أي خداع أو فرض أعباء إضافية على العمال، أو مبالغ عالية على أصحاب العمل".
تؤكد مزهر أن "نظام الكفالة ليس بقانون وإنما مجموعة قرارات وإجراءات مرتبطة ببعضها البعض، لذلك لا بد من خطة كاملة لإعادة النظر بهذا النظام". وترى أنه "في ظل الأزمة الاقتصادية في لبنان، لا بد من إعادة النظر بتنظيم العمالة المهاجرة، وأن يتجه إلى إصلاح الأساسيات فيما يرتبط بمفهوم العمل، ومساهمته في العدالة الاجتماعية"، ومن ثم "الاعتراف بالعاملات المنزليات ضمن قانون العمل من أجل المساواة مع العمال الآخرين، وأن نصبح أمام علاقة عمل متوازنة"، إلى جانب التشدد بإعادة تنظيم ومراقبة مكاتب الاستقدام لأنه في ظل الأزمة الاقتصادية تراجعت الحاجة إلى العمالة الأجنبية. كما ترفض الربط بين العمالة المهاجرة والأزمات الاقتصادية لأنه من المفاهيم الخاطئة، لأن هناك مسؤولية تقع على عاتق التخطيط الاقتصادي الذي يسهم في معالجة الأسباب الحقيقية للبطالة"، مؤكدةً أن "رفع مستويات العمل اللائق للجميع، يحد من الاستغلال ويحمي المواطنين والمهاجرين معاً. لذلك لا بد من تفعيل تفتيش العمل والتركيز على ظروف العمل، وعدم اقتصاره على نظامية علاقات العمل". وتنوه إلى أهمية "الإرادة السياسية" في تطوير تشريعات العمل، ويكمن دور المنظمة في تسليط الضوء إلى "كيف يمكن تحويل الأزمات إلى فرص؟".
عقد العمل الموحد والإصلاح المؤجل
في غياب الإصلاحات التشريعية الجذرية، برزت جملة محاولات من أجل إعادة التوازن إلى علاقات العمل، طوراً من خلال قرارات وزارية، وأطواراً أخرى على شكل قرارات قضائية. ففي عام 2016، أصدر قاضي الأمور المستعجلة في بيروت جاد معلوف قراراً ألزم فيه صاحب العمل بإعادة جواز السفر إلى المستخدمة الأجنبية فوراً، مؤكداً "أن ترك العامل الأجنبي منزل صاحب العمل، لا يشكل بحد ذاته أي جرم جزائي ويقتصر على خلاف عقدي أو فسخ غير مبرر للعقد. ولا يمكن أن يبرر حجز جواز السفر". كما اعتبر "أن حجز جواز السفر يخفي تمييزاً غير مبرر بين العامل اللبناني ونظيره الأجنبي، يخالف تعهدات لبنان الدولية".
أما من ناحية القرارات الوزارية، ففي 8 سبتمبر (أيلول) 2020، أقرّت وزيرة العمل في الحكومة السابقة، لميا يمّين، عقد العمل الموحد للعمال المهاجرين في مجال الخدمة المنزلية سنداً إلى الصلاحيات المحفوظة لوزير العمل الذي يتولى تحديد الشروط اللازمة لحصول الأجانب الراغبين في العمل في لبنان على رخصة عمل.
وتضمن العقد بنوداً جديدة، حيث سمح للأجير بفسخ العقد من دون إبلاغ صاحب العمل في حالات عدة، "كالتخلف عن سداد الأجور، أو عدم القيام بما يلزم للاستحصال على الوثائق القانونية كإجازة العمل أو الإقامة، أو تجديدها. أو قيام صاحب العمل بحجز جواز السفر ووثيقة الهوية وجواز الإقامة وبطاقة التأمين الخاصة بالأجير. والطلب من الأجير القيام بمهام خطيرة، أو ارتكاب صاحب العمل أو أي شخص في منزله لفعل متعمد، أو من خلال إهمال كبير، يتسبب في أضرار جسيمة بالأجير من ضرر بدني أو نفسي أو جنسي أو اقتصادي".
المجتمع المدني يتحرك
تتحدث المحامية موهانا إسحق، من منظمة كفى، عن دور المجتمع اللبناني في محاربة نظام الكفالة، والحث على وقف التمييز بحق العمالة الأجنبية وتطوير الأنظمة. ففي 2010، أسست المنظمة "قسم مناهضة الإتجار بالبشر"، وهي تسعى لإلغاء نظام الكفالة الذي يشكل "نظاماً استعبادياً"، كما يسهل حالات "العمل القسري" التي تصنف ضمن عمليات "الاتجار بالبشر".
تنتقد إسحق نظام الكفالة "لأنه يربط العاملة بشكل كامل بصاحب العمل، ويخضعها لسيطرته في كل ما يتصل بالمنظومة الحقوقية. حيث لا يتوقف الخضوع والتبعية عند مستوى العمل، وإنما بممارسة كافة الحقوق الشخصية والخاصة بحياتها، كرامتها، وحرياتها. لذلك يمكن تشبيهه بـ(العبودية الحديثة)". وتعتبره "شكلاً مقنّعاً للعبودية".
من هنا، بدأ العمل على نشر الوعي من خلال إطلاق الحملات الإعلامية، وإقامة الندوات للتوعية لتغيير أفكار المجتمع، إضافة إلى تدريب العاملين في المجال العام الذين هم على تماس مباشر مع العمالة الأجنبية، على وجه التحديد القوى الأمنية إلى جانب العمل مع البلديات وأصحاب العمل والمدارس لتسليط الضوء على مضار هذا النظام، ناهيك عن الدعاوى القضائية التي تتقدم بها الفرق القانونية لتحصيل حقوق العمال، حيث تعتبر إسحق "الاجتهاد القضائي بوابة لكسر نظام الكفالة"، داعيةً إلى تغيير القانون وإقرار قانون جديد لتنظيم العمل المنزلي بعيداً من نظام الكفالة.