على مدار عشرات الأعوام، كان استوديو فان ليو الواقع في منطقة وسط البلد بالقاهرة، واحداً من علامات التصوير الفوتوغرافي في مصر. فمنذ افتتاحه منتصف الأربعينيات من القرن الماضي، وهو وجهة رئيسة لمن يريد الحصول على صورة فوتوغرافية مميزة، سواء من المصريين أو حتى الأجانب المقيمين في القاهرة إلى جانب مشاهير العصر من الفنانين والمثقفين، الذين كان فان ليو المصور المفضل لدى كثير منهم.
فان ليو الأرمني الأصل الذي جاء إلى مصر وعاش مع عائلته في القاهرة منذ صغره في عشرينيات القرن الماضي، وجد شغفه في التصوير الفوتوغرافي، الذي كان وقتها يتطلب حرفة ومهارة عالية لا يتقنهما إلا قليلون، ولا يبرع فيهما سوى شديدي التميز، ليستمر استوديو التصوير الخاص به، ويصبح من الأشهر في مصر حتى حقبة التسعينات من القرن الماضي، تاركاً إرثاً فنياً كبيراً تحوّل مع مرور الزمن إلى جزء من التاريخ، بتوثيقه المجتمع المصري ومراحل تحوّلاته الاجتماعية على مدار عشرات الأعوام من خلال الصور.
أهدى فان ليو قبيل وفاته، أرشيفه الكامل ومقتنيات استوديو التصوير الخاص به إلى الجامعة الأميركية في القاهرة، ليكون مرجعاً وسجلاً للمجتمع المصري ولتطور فن التصوير الفوتوغرافي على مدار الأعوام.
وحالياً، تقيم الجامعة الأميركية في إحدى قاعاتها بمقرها الكائن في ميدان التحرير بالقاهرة، معرضاً لمجموعة مختارة من أرشيف فان ليو احتفالاً بمئوية ميلاده، في صورة تحاكي استوديو التصوير الخاص به فعلياً، بحيث يدخل الزائر إلى المعرض ليجد طاولة الاستقبال المصممة لزوار استوديو التصوير، وفوقها مجموعة من الصور المعلقة على الحائط والبرافان الذي كان يعرض عليه الصور، ليرى بعدها في القاعة الأخرى ما يحاكي قاعة التصوير الموجودة في استوديوهات هذا العصر، إضافة إلى مجموعة متميزة منتقاة من أرشيف صور فان ليو.
وعن المعرض، تقول علا سيف، المسؤولة عن أرشيف الصور الفوتوغرافية في مكتبة الكتب النادرة والمجموعات الخاصة بالجامعة الأميركية: "فان ليو هو مصور أرمني جاء إلى مصر في العشرينيات، وانطلق في حياته العملية بمجال التصوير الفوتوغرافي في الأربعينيات، حين بدأ التدريب في أحد استوديوهات التصوير الخاصة بالأرمن، الذين كانوا منتشرين في مصر آنذاك، ليتقن المهنة في خلال عام تقريباً، ويفتح استوديو تصوير صغيراً بالتعاون مع شقيقه، وبعدها بأعوام يستقل ويفتتح استوديو التصوير الخاص به في منطقة وسط البلد بشارع 26 يوليو، الذي كان يُعرف وقتها باسم شارع فؤاد، ليصبح علامة من علامات التصوير الفوتوغرافي في مصر لمدة 50 عاماً".
وتضيف "اسمه الحقيقي ليفون ألكسندر بويادجيان، ولكنه اختار لنفسه اسم فان ليو ربما ليكون أسهل باعتباره يبدو مشتقاً من اسمه أو ليكون ذا طابع جذاب وفني، وربما يكون أحد الأسباب التي دفعته إلى اختياره هو حبه للفنان التشكيلي فان غوخ، الذي ظهر في إحدى الصور ممسكاً بكتاب متخصص عن أعماله، فأطلق على نفسه اسم فان تيمّناً بفنانه المفضل".
سجل كامل للحياة الاجتماعية في مصر
وفي عصر لم يعرف كاميرات الديجيتال ولا التصوير بسهولة في كل وقت مثل الآن، كان التصوير الفوتوغرافي يحتاج إلى مهارة عالية من المصور، تتمثل في تجهيز الإضاءة المناسبة للشخص والتقاط الصورة ومن بعدها عمليات التحميض الدقيقة، ليحصل رواد استوديو التصوير في النهاية على صورة بعين المصور، تعكس حرفيته وتُميّز مصوراً عن آخر. وفي الوقت ذاته، كان الذهاب إلى استوديو التصوير حدثاً يستعد له الناس ويحرصون عليه من وقت لآخر، فتقول سيف "الذهاب إلى استوديو التصوير في هذه الفترة كان تقليداً يحرص عليه الناس بشكل دوري، وتكون له استعدادات خاصة، فلا مجال للحصول على صورة فوتوغرافية غير بهذه الطريقة. فكان يسبقه تحضير وانتقاء لأفضل الملابس ليتأنّق الشخص، كما كانت الصورة العائلية التي تضم كل أفراد العائلة طقساً مهماً عند كثير من الأُسر المصرية، إذ يظهر فيها الأطفال بمراحل عمرية مختلفة مع مرور الأعوام. وهذه الصور العائلية الآن هي كنز حقيقي، يضم النسيج الاجتماعي المصري وأشكال وأنماط الناس من كل الفئات والطبقات الاجتماعية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتضيف "أرشيف فان ليو مع مرور الزمن تجاوز فكرة الصور، ليتحوّل إلى سجل كامل للحياة الاجتماعية في مصر خلال 50 عاماً بتوثيقه لشكل المصريين والأجانب الموجودين في مصر خلال هذه الحقبة من مختلف الطبقات، فهو أصبح أشبه بالموزاييك الذي يعكس النسيج السكاني والاجتماعي لكل الفئات ويسجل طبيعة الأزياء وأنماط الناس باختلاف وظائفهم وطبقاتهم الاجتماعية، خصوصاً أن استوديو فان ليو كان يقع عند تقاطع شارع فؤاد مع شارع عماد الدين في منطقة تُعدّ قلب القاهرة النابض والمزدحم في ذاك الوقت، في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية".
صور المشاهير
إلى جانب صور المصريين من عموم الناس، تميّز أرشيف فان ليو بمجموعة نادرة من صور المشاهير والمثقفين خلال هذه الحقبة في مراحل مختلفة من حياتهم، بينها مجموعة من الصور لكبار الفنانين في مصر مثل فاتن حمامة وماجدة وعمر الشريف وأنور وجدي ورشدي أباظة وغيرهم كثر، إذ إنه صوّر معظم فناني عصره. وعن أهم صور المشاهير، توضح سيف: "ارتبط فان ليو بعلاقات صداقة كثيرة مع الفنانين والمثقفين في مصر، وصوّرهم في مناسبات متعددة داخل استوديو التصوير وخارجه، ويضم أرشيفه الفني مجموعة متميزة جداً من صور المشاهير في هذا العصر. وعلاقة الود والصداقة مع الفنانين نتجت منها مجموعات متميزة من الصور عكست جوانب من حياتهم في أماكن مختلفة".
وتضيف "من بين أكثر الصور تميزاً من وجهة نظري، هي صورة عميد الأدب العربي طه حسين وصورة الكاتب يوسف السباعي بالبدلة العسكرية، ومن صور الفنانين صورة فريد الأطرش وكانت وقتها غلافاً لإحدى المجلات، ومجموعة صور متميزة للفنانة برلنتي عبد الحميد في أماكن مختلفة وليس داخل استوديو التصوير، من بينها صور في منطقة الأهرامات".
الصور الذاتية
من ضمن المجموعات المميزة في المعرض، مجموعة صوّرها فان ليو لنفسه منذ بداياته في سنه الصغيرة وعلى مدار حياته، إذ كان تصويره لنفسه في حالات مختلفة واحداً من إبداعاته التي يشعر فيها بحرية، وعنها تقول مديرة أرشيف الصور: "في بداية مشواره مع عالم التصوير الفوتوغرافي، كان فان ليو يصوّر نفسه في لقطات متنوعة، واستمر من بعدها طوال حياته في تصوير نفسه على مدار مراحل حياته المختلفة. وتعتبر مجموعة الـ self portrait الخاصة به شديدة التميز، ويمكن أن نقول عنها رائدة باعتبارها سابقة جداً لعصرها في حدود الإمكانات المتاحة وقتها وطبيعة التصوير وكيفيته. فهذه الفكرة معروفة ومتداولة في عصرنا الحالي ولكن وقتها كانت أمراً جديداً".
وتضيف "صوّر فان ليو نفسه في حالات مختلفة، فبعضها بورتريهات في ذروة شبابه، وبعضها صور تقليدية في استوديو التصوير، وبعضها في أوضاع خارجة عن المألوف أضاف إليها بعض التأثيرات أو تقمّص شخصيات. فهو كان يتمتع بحرية مطلقة في تصوير نفسه من دون قيود بعكس التعامل مع زبائنه، الذين ربما كانت لبعضهم طلبات محددة في الصورة التي يرغبون بالحصول عليها، لتتحول هذه الصور حالياً إلى سجل فني لكل المهتمين بمجال تطور الفوتوغرافيا في مصر".