يجمع الناقد المصري سمير غريب في كتابه "الجمال المضاد" (الهيئة المصرية العامة للكتاب) بعض حصيلة جهده منذ سبعينيات القرن الماضي في التأصيل النظري والممارسة التطبيقية في مجال نقد الفن، ويمكن اعتبار هذا الكتاب الجزء الثاني من "كتاب الفن" الذي أصدره غريب عام 2003. ويمكن أيضاً اعتباره مكملاً لكتب أخرى له في الفنون التشكيلية.
لماذا أصبح الجمال مضاداً؟ ولمن؟ يجيب الكتاب على السؤالين وإن في شكل غير مباشر.ربما لذلك عمد المؤلف إلى توضيح ما يقصده بتعبير "الجمال المضاد"، موضحاً أن الكتاب لا يجيب مباشرة على هذا السؤال. "أولاً للحفاظ على غواية التعبير، وثانياً لإتاحة الفرصة للوصول إلى الإجابة عبر قراءة التأملات العملية التي تناولت فيها نماذج مختارة لفنانين ومعماريين واتجاهات وتظاهرات فنية كبرى في العالم، ومصر بالطبع، عبر قرون".
ويشرح غريب أن الجمال المضاد الذي يعنيه ليس هو القبح، على أساس أن مضاد الجمال قبح، "لكنني لم أقصد ذلك، فطالما بدأت التعبير بالجمال فأنا أقصده، لكنني وصفته بالمضاد. إذن هناك جمال أولاً ومضاد ثانياً". ويسأل: ما هو الجمال المضاد؟ ويجيب: "إنه تعبير ابتكرتُه بعد تأملات في نقد الفن والعمارة عبر قرون، من خلال نماذج مختلفة في العالم، رأيتُ من الضروري أن أمهد لها بتأملات نظرية في جانبين: معرفة المعاني وتاريخ نقد الفن، بدءاً من معنى النقد في ذاته، ونقد الإبداع وبخاصة في الفن وفي العمارة، وتكوين الناقد وتاريخ النقد وواقعه".
البحث عن الجمالي
ينطوي الكتاب عموماً على محاولة المؤلف البحث عن الجمالي من خلال تتبع أعمال فنانين وتجمعات وتغيرات ونظريات وثورات وتظاهرات فنية بل وظواهر طبيعية أيضاً. يبدأ بمقدمة تحت عنوان رئيس هو "تأملات في نقد الفن والعمارة"، إذ يعرف المقصود بالنقد عموماً، ونقد الفن ثم نقد العمارة بصفة خاصة.
يرى غريب أن ليس شرطاً أن يكون ناقد العمارة مهندساً معمارياً، بل الأفضل ألا يكون، كما لا يشترط في ناقد الفن أن يكون فناناً تشكيلياً، فإبداع الناقد يكمن في نظرته وكتابته وليس في تصميمه أو رسمه. مع ذلك لا بد للناقد من درس تاريخ العمارة وأساليبها وطرزها وأبرز مبدعيها، لكنه لا يحتاج إلى دراسة المواضيع الفنية والتقنية المتخصصة في الهندسة والعمارة، مثل أسس التصميم المعماري والرسم المعماري واستخدام برامج الكومبيوتر المتخصصة وغير ذلك. هو يحتاج من الهندسة فلسفتها ومن العمارة أفكارها، مع الإيمان بأن العمارة هي أم الفنون، إذ إنها تحوي داخلها فنوناً متنوعة، ففيها النحت من تشكيل كتلة المبنى والعلاقة بين الكتلة والفراغ، وفيها الرسم والتصوير من ألوان الأسطح وتأثير الضوء فيها في أوقاته المختلفة، وفيها من قبل بداية أي فن: التصميم.
الثورة على الفن
يرى سمير غريب أن العالم عاش مع فن يتطور ببطء منذ الحضارة اليونانية الرومانية، ثم شهد طفرات منذ عصر النهضة حتى بدايات القرن الـ 20 حين بدأ تاريخ الثورات الفنية حتى وصلت إلى الثورة على الفن نفسه بجميع أشكاله وتجلياته وعلى رأسه العمارة أم الفنون، وعبر هذا التاريخ تغيرت أشكال الجمال ومفاهيمه حتى وصلت إلى الجمال المضاد. يبدأ الكتاب من التأملات النظرية في معنى نقد الفن وتاريخه وماهية العمارة والعلاقة بين النقد والإبداع وبين الشكل والوظيفة، ثم يتناول تكوين الناقد ومراحل النقد وواقعه، ويقدم ربما للمرة الأولى باللغة العربية، موجزاً مختصراً لتاريخ نقد الفن. ثم ينتقل إلى التأملات العملية من خلال نقد أعمال فنانين مصريين مثل آمي نمر وصبحي جرجس وأشرف رسلان ومحمود بقشيش، وفنانين عرب مثل منى حاطوم، وفنانين أجانب مثل إدوارد مونخ وغيرهارد ريختر وديفيد هوكني وبيكاسو وبول كلي وهيرفيه فيشر وأحمد زكي أنور، ومن المعماريين يتحدث عن حسن فتحي وزها حديد وبرنار تشومي ولو كوربوازييه.
وعبر نقد فنانين بعينهم يثير الكتاب قضايا فنية منها العلاقة الغريبة بين لوحات لسمير رافع وكمال يوسف، والعلاقة بين المرأة العربية والفن، ورحلة تعبير الفن عن الطفولة، وكيفية تحول لوحة الى أيقونة، وموجز لتاريخ رسوم الجدران، وموجز لتاريخ أهم المعماريين، والعمارة الخضراء وعمارة المستقبل، كما يراجع التظاهرات الفنية الكبرى مثل "آرت كولون" و"دوكمنتا" و"بينالي فينيسيا".
تغير الفن مع تغير العلم والثقافة والمجتمع، وأخيراً مع التحولات البيئية الكارثية التي تتبع المؤلف انعكاساتها على التصوير، حتى لاحظ ما سماه "فقدان الليل". هذا ما وصل إليه سمير غريب في رحلة لخصها عبر 430 صفحة، زودها صوراً ملونة نشرتها هيئة الكتاب المصرية بشكل ممتاز.
جهود عربية
يلاحظ سمير غريب أن المعماريين العرب المحدثين اهتموا أكثر بالكتابة عن العمارة الإسلامية، لكنه يرى أن هذه الكتابة ليست بالضرورة نقداً علمياً، ومنهم صالح الهذلول من السعودية وإبراهيم بن يوسف من الجزائر، لكن هناك من كتب في أفق أوسع منهما، ومنهم الرائد العراقي رفعة الجادرجي، نزار الصياد، سامر عكاش وناصر الرباط الذي جمع عدداً من بحوثه ومقالاته في نقد العمارة وتأريخها، وعمد إلى نشرها من 1985 إلى 2000 في كتاب بعنوان "ثقافة البناء وبناء الثقافة"، وحاول الباحث سعد عبد علي مهدي الوصول إلى نظرية تكاملية في نقد العمارة، ونشر كتابه "نقد العمارة فناً" عام 2007. وللمعماري المصري علي عبد الرؤوف كتابان مهمان في هذا المجال، "النقد المعماري ودوره في تطوير العمران المعاصر... الحالة المصرية والعربية" و"مقالات نقدية في العمارة المصرية".
ومن المحاولات المميزة في نقد العمارة كتاب للكاتب العراقي شاكر لعيبي عنوانه "العمارة الذكورية" صدر عن دار رياض الريس عام 2007. والعمارة التي يقصدها هي العمارة الإسلامية، ومبرره في وصفها بالذكورية هو أنها تقلل من حجم ظهور النساء في الفضاءات المعمارية مما ينقص من جمالياتها، ولظروف تاريخية دخلت الثقافة العربية متأخرة جداً مجالي نقد الفن وتأريخه، وكانت البداية على يد أجانب ومتمصرين، ومن هؤلاء "المتمصرين" آمي نمر (1898 – 1962)، لبنانية الأصل وابنة فارس نمر، أحد مؤسسي مجلة "المقتطف" في بيروت والقاهرة، وجريدة "المقطم" في القاهرة، وجريدة "السودان" في الخرطوم، وهي أول فنانة عربية وشرقية رسمت صوراً عارية للجسد الإنساني سواء للرجل أم للمرأة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
القسم الأول من الكتاب حمل عنوان "تأملات مصرية"، وحمل القسم الثاني عنوان "تأملات عربية"، ومن بين من سلط عليهم الضوء دوريس بيطار التي ولدت في العراق لأبوين لبنانيين هاجرا قبيل الحرب الأهلية اللبنانية إلى الولايات المتحدة الأميركية، ومن السعودية جوهرة آل سعود ومنال الدويان والشقيقتان رجاء وشادية عالم وهبة عابد وسارة العبدلي ونورا بوزو. ومن المغرب مليكة الصقلي وأحلام لمصفر، والأخيرة حاصلة على ميدالية الأكاديمية الفرنسية للفنون وهي عضو اللجنة الشرفية للفنون الفرنكفونية. وخصص سمير غريب فصلاً في هذا القسم للفنانة اللبنانية الفلسطينية الأصل منى حاطوم (مولودة في العام 1952) ومعرضها في مركز بومبيدو في باريس عام 2015.
القسم الثالث من الكتاب جاء بعنوان "تأملات غربية"، وتناول فيه النرويجي إدوارد مونخ (1863 – 1944)، فرانتس كسافير فينترهالتر (1805 – 1873) الرسام (الفرنسي الألماني) الأشهر في أوروبا في بدايات القرن الـ 19، والألماني المعاصر غيرهارد ريختر، الرسام الأعلى سعراً.
هل تختفي اللوحة؟
ومن الأسئلة التي يطرحها سمير غريب، هل يختفي فن التصوير ممثلاً في اللوحة بشكلها التقليدي قريباً؟ وينطلق هذا السؤال من ملاحظة إدخال بعض الثائرين على اللوحة بعض الابتكارات التكنولوجية، مرسخين إياها في عالم الفن بدلاً من الرسم والتصوير حتى اختراع الكمبيوتر ثم الإنترنت ثم الهواتف الذكية، كلها واكبها المتمردون وابتكروا الفنون الرقمية. وفي هذا المجال هناك الفنان هيرفيه فيشر وحركته "الفن الاجتماعي" التي كانت رائدة في الفنون الرقمية.
القسم الثالث عنوانه "تأملات في أعمال بول كلي"، وينطلق من معرض استعادي أقيم عام 2009 في مدينة برن تحت عنوان "سجادة الذكريات"، وقد وجد غريب في هذا المعرض فرصة ذهبية لتأمل العلاقة بين كلي والشرق العربي. القسم الرابع عنوانه "تأملات في ثلاث مئويات"، والقسم الخامس عنوانه "تأملات في تظاهرات كبرى"، وتضمن أحد فصوله مقالة بعنوان "العمارة الخضراء: نموذجان من الرياض".
تكمن أهمية كتاب الناقد سمير غريب في كونه يسد فراغاً في المكتبة العربية، بخصوص تاريخ الفن، فضلاً عما يطرحه عبر مصطلح "الفن المضاد"، وما يمكن أن يثيره من جدل في الأوساط المهتمة براهن الفنون التشكيلية في المنطقة العربية وفي العالم.